الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني .

في شروط وجوب الحج وصحة أركانه وواجباته ومحظوراته .

أما الشرائط فشرط صحة الحج اثنان : الوقت ، والإسلام فيصح حج الصبي ويحرم بنفسه إن كان مميزا ويحرم عنه وليه إن كان صغيرا ويفعل به ما يفعل في الحج من الطواف والسعي وغيره .

وأما الوقت فهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر فمن أحرم بالحج في غير هذه المدة فهي عمرة وجميع السنة وقت العمرة ولكن من كان معكوفا على النسك أيام منى فلا ينبغي أن يحرم بالعمرة لأنه لا يتمكن من الاشتغال عقيبه لاشتغاله بأعمال منى .

التالي السابق


(الفصل الثاني)

(في) ذكر (شروط وجوب الحج وأركانه وواجباته ومحظوراته ، أما الشرائط) اعلم أن الشخص إما أن : يجب عليه أو لا يجب عليه ، ومن لا يجب عليه إما أن يجزئه المأتي به عن حجة الإسلام حتى لا يجب عليه بعد ذلك بحال ، أو لا يجزئه ، ومن لا يجزئه إما أن تصح مباشرته الحج ، أو لا تصح ، ومن لا تصح مباشرته إما أن يصح له الحج ، أو لا يصح ؛ فههنا أربعة أحكام : أحدها : مطلق صحة الحج له ، وثانيها : صحته له مباشرة ، وثالثها : وقوعها عن حجة الإسلام ، ورابعها : وجوب حجة الإسلام .

وشروط هذه الأحكام مختلفة ، أشار إلى الأول بقوله : (فشرط صحة الحج اثنان : الوقت ، والإسلام) فلا يصح الحج من الكافر كالصوم والصلاة وغيرهما ، ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز ، فلا يصح مباشرة المجنون ولا الصبي الذي لا يميز كسائر العبادات ، وإليه أشار بقوله : (فيصح حج الصبي ويحرم بنفسه إن كان مميزا) ثم القول في أنه يستقل به ويفتقر إلى إذن الولي سيأتي ذكره في موضعه ، ولا يشترط في الصحة المطلقة التكليف ، وإليه أشار بقوله : (ويحرم عنه) أي : عن الصبي الذي لا يميز (وليه إن كان صغيرا أو يفعل به ما يفعل في الحج من الطواف والسعي وغيره) خلافا لأبي حنيفة ، فإنه لا يجوزه ، ولا تشترط الحرية ، بل يصح من العبد مباشرة الحج كسائر العبادات ، وفي المبسوط لأصحابنا : الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما ، وينبغي أن يجرده ويلبسه إزارا ورداء .

(وأما الوقت) لصحة الحج (فهو شوال وذو القعدة وتسع) ليال بأيامها (من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر) قال الرافعي : وفي ليلة النحر وجهان : حكاهما الإمام والمصنف أصحهما ولم يورد الجمهور سواه أنها وقت له أيضا ؛ لأنها وقت للوقوف بعرفة ، ويجوز أن يكون الوجه الآخر صادرا عمن يقول : إنها ليست وقتا له ، واعلم أن لفظ الشافعي رضي الله عنه في المختصر : وأشهر الحج وهي : شوال ، وذو القعدة ، وتسع من ذي الحجة ، وهو يوم عرفة ، فمن لم يدركه إلى الفجر يوم النحر فقد فاته الحج ، وفيه بحثان : أحدهما : قوله : وهو يوم عرفة ، قال المسعودي : معناه : والتاسع يوم عرفة وفيه معظم الحجيج .

وقوله : فمن لم يدركه اختلفوا في تفسيره ، فقال الأكثرون : أراد من لم يدرك الإحرام بالحج إلى الفجر من يوم النحر . وقال المسعودي : أراد من لم يدرك الوقوف بعرفة . الثاني : اعترض ابن داود فقال : قوله : تسع من ذي الحجة إما أن يريد به الأيام والليالي إن أراد الأيام فاللفظ مختل ؛ لأن جمع المذكر في العدد بالهاء ، وإن أراد الليالي فالمعنى مختل لأن الليالي عنده عشر لا تسع ، قال الأصحاب : ههنا قسم آخر ، وهو أن يريد الليالي والأيام جميعا ، والعرب تغلب التأنيث في العدد ، ولذلك قال : أربعة أشهر وعشرا ثم هب أن المراد الليالي ولكن أفردها بالذكر لأن أيامها ملحقة بها ، فأما الليلة العاشرة فنهارها لا يتبعها فأفردها بالذكر حيث قال : فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر . وهذا على تفسير الأكثرين ، وأما على تفسير المسعودي فلمن يمنع إنشاء الإحرام ليلة النحر أن يتمسك بظاهر قوله : تسع من ذي الحجة ، ولا يلزمه إشكال ابن داود . وقال أبو حنيفة وأحمد : عشر من ذي الحجة بأيامها . ويقول مالك : وذو الحجة كله .

قال جماعة من الأصحاب : وهذا اختلاف لا يتعلق به حكم .

وعن القفال : أن فائدة الاختلاف مع مالك كراهة العمرة في ذي الحجة ، فإن [ ص: 289 ] عنده تكره العمرة في أشهر الحج ، وحكى المحاملي في الأوسط قولا عن الإملاء كمذهب مالك (فمن أحرم بالحج في غير هذه المدة فهي عمرة) وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : الإحرام بالحج ينعقد في غير أشهر الحج إلا أنه مكروه (وجميع السنة وقت العمرة) أي السنة كلها وقت الإحرام بالعمرة ، ولا تختص بأشهر الحج ، وفي الخبر : عمرة في رمضان تعدل حجة كما تقدم ، واعتمرت عائشة رضي الله عنها من التنعيم ليلة المحصب ، وهي الليلة التي يرجعون فيها من منى إلى مكة ، ولا تكره في وقت منها ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : مكروه في خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ، وتقدم عن مالك كراهيته في أشهر الحج ، وتوقف والد الإمام في ثبوته عنه ، وروي عن أحمد كراهة فعلها في أيام التشريق على الإطلاق ، ولا يكره أن يعتمر في السنة مرارا ، بل يستحب الإكثار منها ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، وعن مالك إنه لا يعتمر في السنة إلا مرة ، وقد يمنع الإحرام بالعمرة لا باعتبار الوقت بل باعتبار عارض ، كمن كان محرما بالحج لا يجوز له إدخال العمرة على أظهر القولين ، (ولكن من) تحلل عن التحللين و (كان معكوفا على النسك أيام منى فلا ينبغي أن يحرم بالعمرة) ، وفي شرح الرافعي : لم ينعقد إحرامه بالعمرة (لأنه لا يتمكن من الاشتغال بها) أي : بأعمالها في الحال (عقيبه لاشتغاله بأعمال منى) من المبيت والرمي ، نص عليه .

قال الإمام : وكان من حق تلك المناسك أن لا تقع إلا في زمان التحلل ، فإن نفر النفر الأول فله الإحرام بها لسقوط بقية الرمي عنه .



(تنبيه) : قال الرافعي : لو أحرم بالحج في غير أشهر الحج ما حكمه ؟ لا شك في أنه لا ينعقد ، ثم إنه نص في المختصر على أنه يكون عمرة ، وفي موضع آخر على أنه يتحلل بعمل عمرة ، وللأصحاب فيه طريقان ؛ أظهرهما أن المسألة على قولين : أصحهما أن إحرامه ينعقد بعمرة . والثاني : لا ، ولكن يتحلل بعمل عمرة كما لو فات حجه ؛ لأن كل واحد من الزمانين ليس وقتا للحج ، فعلى الأول إذا أتى بأعمال العمرة سقطت عنه عمرة الإسلام إذا قلنا بافتراضها ، وعلى الثاني لا ، وأظهر الطريقين القطع بأنه يتحلل بعمل عمرة ، ولا ينعقد إحرامه عمرة لأنه لم ينوها ، والثاني حكى الإمام عن بعض التصانيف أن إحرامه ينعقد بهما إن صرفه إلى العمرة كان عمرة صحيحة ، وإلا تحلل بعمل عمرة ، والنصان منزلان على هذين الحالين ، ولو أحرم قبل أشهر الحج إحراما مطلقا فإن الشيخ أبا علي أخرجه على وجهين فيما إذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ، ثم أدخل عليها الحج في أشهره هل يجوزان ؟ قلنا : يجوز العقد بهما ، وإذا دخل أشهر الحج فهو بالخيار في جعله حجا أو عمرة أو قرانا ، ويحكى هذا عن الحصري ، وإن قلنا : لا يجوز انعقد إحرامه بعمرة ، وهذا هو جواب الجمهور في هذه المسألة ، والقاطعون بأنه يتحلل بفعل عمرة في الصورة نزلوا نصه في المختصر على هذه الصورة ، والله أعلم .




الخدمات العلمية