الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة لله صح أنها مرادة له .

فإن قيل فكيف : ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد ؟ قلنا : الأمر غير الإرادة .

ولذلك إذا ضرب السيد عبده فعاتبه السلطان عليه فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذبه السلطان فأراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه فقال له : أسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان فهو يأمره بما يريد امتثاله ، ولو لم يكن آمرا لما كان عذره عند السلطان ممهدا ، ولو كان مريدا لامتثاله لكان مريدا لهلاك نفسه ، وهو محال .

التالي السابق


(ثم مهما ظهر) لك واتضح (أفعال العباد) بأسرها، أدقها وجلها (مخلوقة لله تعالى) ومخترعة له، وأن نسب بعضها إلى العباد بطريق الكسب بالدلائل الواضحة السابقة (صح أنها مرادة له) تعالى، والكل منه .

وأما الجواب عما أورده متمسكا لهم عن الآيات السابق ذكرها فقولهم: ظلم العباد كائن منهم بلا شك، فهو ليس مرادا له، بدليل قوله تعالى: وما الله يريد ظلما للعباد ، والجواب عنه أنه تعالى نفى إرادته ظلم العباد، وهو لا يستلزم نفي إرادته ظلم العباد أنفسهم، فليس المنفي في الآية إرادة ظلم بعضهم بعضا; فإنه كائن ومراد، وأما عن تمسكهم بقوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر ، وقوله: والله لا يحب الفساد ، فهو أنه لا تلازم بين الرضا والمحبة، وبين الإرادة كما ادعوه; إذ قد يريد الواحد منا ما يكره تعاطيه; لبشاعة طعمه أو مرارته، وأيضا فالرضا ترك الاعتراض على الشيء، لا إرادة وقوعه، والمحبة إرادة خاصة، وهي ما لا يتبعها تبعة ومؤاخذة، والإرادة أعم; فهي منفكة عنها، فيما إذا تعلقت بما تتبعه تبعة ومؤاخذة .

وقرره ابن التلمساني على تسليم أن رضاه إرادته، وتخصيص لفظ عباده بالمؤمنين، بالمخلصين لعبادته، وجعل الإضافة فيه للتشريف .

وأجيب عن قولهم: إن إرادة الظلم من العبد ثم عقابه عليه ظلم بالمنع، مسندا بأن الظلم هو التصرف في ملك الغير من غير رضا من المالك، أما في ملك نفسه فلا .

وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، بمنع دلالة لام الغرض على كون ما بعدها مرادا، بل معنى الآية: لنأمرهم بالعبادة. ولئن سلم فلا نسلم عموم الآية للقطع بخروج من مات على الصبا والجنون، والعام إذا [ ص: 175 ] دخله التخصيص صار عند المعتزلة مجملا في بقية أفراده فلا يصلح دليلا عندهم، فليخرج من مات على الكفر، كما يدل عليه قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ، والتحقيق أن الحصر في الآية إضافي، والمقصود به أنه خلقهم لعبادته، لا ليعود إليه منهم نفع، كما دل عليه قوله تعالى: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، وليس حصرا حقيقيا كما فهموه، فتأمل .

وربما احتجوا بقوله تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، إلى قوله: كذلك كذب الذين من قبلهم ، ووجه تمسكهم من الآية أن الله تعالى رد على الكفار قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، يعني: فقد وبخهم الله تعالى على هذا القول، ولو كان حقا لما وبخهم عليه، والجواب: إنما رد الله تعالى قولهم لأنهم قالوه استهزاء بما طرق أسماعهم من حملة الشريعة من تفويض الأمور كلها لله تعالى، ولم يقولوه عن عقد جازم، والدليل قوله تعالى في آخر الآية: إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ، فثبت أنهم قالوه ظنا وخرصا، لا عن عقد جازم، ومما يتمسكون به قوله تعالى: وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، نسب الحسن إلى الله تعالى، والسيئ إلى فعل العبد، والأشعرية تنسب الجميع إلى الله تعالى، وهو خلاف نص الآية، والجواب أن هذه الآية غير مشعرة بمحل النزاع; فإن الآية التي أشعرت بها هي خلق الله تعالى النفع والضر، وليس من المكتسبات، بل الكل من عند الله، كما دل عليه سياق الآية، وسببها أن كفار قريش كانوا إذا رأوا خصبا قالوا: هذا من عند الله. وإذا رأوا جدبا قالوا: هذا بشؤم دعوة محمد. فرد الله عليهم وقال: قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، ونظيره قوله في قوم موسى عليه السلام: وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ومعنى قوله: ما أصابك من حسنة فمن الله ، أي: بمحض فضل الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، أي: بسبب جريمة اقترفتها; جزاء .

وأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر ، و: إن الله لا يأمر بالفحشاء ، فقد أشار إليه المصنف في صورة سؤال وجواب يفهم منه المقصود، قال: (فإن قيل: كيف ينهى) الله (عما يريد ويأمر بما لا يريد؟) أي: كيف يأمر أحد عبده بشيء ويريد منه خلافه؟ فهو صريح بأنه أمر الكفار بالإيمان، وأراد الكفر، (قلنا: الأمر غير الإرادة) وأن لا تلازم بينهما، كما لا تلازم بين الرضا والمحبة وبين الإرادة، وهم قد بنوا مذهبهم على أن الأمر والنهي يرجعان إلى الإرادة، والحق مغايرة أحدهما عن الآخر، وأن الله تعالى قد أمر العصاة والكفار بالإيمان، ولم يرد إيمانهم، ومثار الغلط أن الإرادة تطلق على الرضا والسخط، وكل مأمور به فهو رضا الله تعالى، بمعنى أنه يثني على فاعله ويمدحه ويثيبه، ويريد به الزلفى والقربى، وضده بخلاف ذلك، ومعنى كراهيته له أنه لا يثني على فاعله، بل يذمه ويريد عقابه، وهذا معنى قوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر، وليس معناه أن الله تعالى لم يقدره عليهم، ثم هم في هذا السؤال مقابلون بالعلم، فإذا قالوا: كيف أمر الله الكافر بالإيمان ويريد منه الكفر؟ قلنا: كيف أمره بالإيمان ويعلم منه الكفر؟ فإنه لا يذعن أبد الدهر، فكيف يستمر لهم كلامهم مع تسليم العلم؟ وقد ضرب المصنف على إثبات هذا المدعى مثلا; ليقربه إلى الأذهان، فقال: (ولذلك إذا ضرب السيد عبده) ضربا مبرحا (فعاتبه السلطان عليه) أي: على ضربه له، وبكته وهدده بالقتل لمجاوزته الحد في ضرب العبد (فاعتذر) سيد العبد، أي: أقام لنفسه عذرا (بتمرد عبده عليه) أي: إنما ضربته لأنه لم يمتثل أمري (فكذبه السلطان) ، ولم يصدقه (فأراد) السيد في هذه الحالة (إظهار حجته بأن يأمر عبده) المذكور (بفعل) شيء، ونهاية أمانيه ومراده أن (يخالفه بين يديه) ولا يمتثل العبد ذلك; ليقرر عذره (فقال له: أسرج هذه الدابة) أي: ضع عليها السرج (بمشهد من السلطان) أي: بمحضر منه (فهو يأمره بما لا يريد امتثاله، ولو لم يكن آمرا لما كان عذره عند السلطان ممهدا، ولو كان مريدا لامتثاله لكان مريدا لهلاك نفسه، وهو محال) ; فقد تحقق انفكاك الأمر عن الإرادة، وبطل قولهم: يستحيل أن يأمر أحد عبده بشيء ويريد خلافه; فالمعاصي واقعة بإرادته ومشيئته، لا بأمره ورضاه ومحبته; لما قررنا .

قلت: وأصحابنا معاشر الماتريدية لم يرتضوا بهذا الاستدلال المشهور [ ص: 176 ] بين المتكلمين، الذي أورده المصنف من أن المعتذر من ضربه بعصيانه قد يأمر ولا يريد منه الفعل، وكذا الملجئ إلى الأمر قد يأمر ولا يريد الفعل المأمور، بل يريد خلافه، ولا يعد سفها، وأوردوا عليه المنع من أن الموجود فيه مجرد صيغة الأمر من غير تحقق حقيقة .

وقد روى محمد بن الحسن عن الإمام ما نصه: والأمر أمران: أمر الكينونة، إذا أمر شيئا كان، وأمر الوحي، وهو ليس في إرادته، وليس إرادته في أمره، أي: فأشار إلى منع استلزامه للإرادة ومنع أن الأمر بخلاف ما يريده يعد سفها، وإنما يكون كذلك لو كان فائدة الأمر منحصرا في الإيقاع المأمور به، وهو ممنوع، وتصديق ذلك قول إبراهيم لابنه: إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ، إلى قوله: من الصابرين ، ولم يقل: ستجدني صابرا من غير "إن شاء الله تعالى"، ولو استلزم الأمر الإرادة لما كان للاستثناء موقع، فإن أمر إبراهيم بذبح ابنه يستلزم الأمر بالصبر عليه لابنه، فلو كان الذبح مستلزما لإرادته من إبراهيم كان الصبر من ابنه مرادا أيضا، بدلالة الأمر، فلا يبقى لتعلقه بالمشيئة والإرادة وجه، فكان ذلك أمره تعالى، ولم يكن من إرادته تعالى ذبحه، وقد بينه أبو منصور الماتريدي في التأويلات، وهذا أحسن مما استدل به المصنف وغيره في كتبهم، فتأمل ذلك بإنصاف .

وفي الإرشاد لإمام الحرمين: من حقق من أئمتنا لم يكع عن تهويل المعتزلة، وقال: المحبة بمعنى الإرادة، وكذلك الرضا; فالرب تعالى يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه. اهـ .

ونقل بمعناه عن أبي الحسن الأشعري لتقارب الإرادة والمحبة والرضا في المعنى لغة; فإن من أراد شيئا أو شاءه فقد رضيه وأحبه .

قال ابن الهمام: وهذا الذي يفهم من سياق إمام الحرمين، خلاف كلمة أكثر أهل السنة لتصريحهم بأن الكفر مراد له، وأنه لا يحبه ولا يرضاه، وأن المشيئة والإرادة غير المحبة والرضا، وأن الرضا ترك الاعتراض، والمحبة إرادة خاصة .

وبعض أهل السنة مشى على أن كلا منهما إرادة خاصة، وفسر الرضا بأنه الإرادة مع ترك الاعتراض، قال: وهذا المنقول عن إمام الحرمين والأشعري لا يلزمهم به ضرر في الاعتقاد; إذ كان مناط العقاب هو مخالفة النهي، وإن كان متعلقه محبوبا، لكنه خلاف النصوص التي سمعت في كتاب الله عز وجل من قوله: ولا يرضى لعباده الكفر ، وقوله: فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ، ومثله متعلق بمبدأ الاشتقاق، وهو هنا الكفر، فيكون المعنى: لا يحب كفرهم .

ثم نقل الفرق بين المشيئة والإرادة عند أبي حنيفة، فقال: ونقل عن أبي حنيفة -رحمه الله- ما يدل على جعل الإرادة عنده من جنس الرضا والمحبة، لا من جنس المشيئة; لدخول معنى الطلب عنده في مفهوم الإرادة دون مفهوم المشيئة، روي عنه أن من قال لامرأته: "شئت طلاقك"، ونواه بهذا اللفظ; طلقت، ولو قال: أردته، أو: أحببته، أو:رضيته، ونواه في كل من الصور الثلاث; لا يقع، وبناه على إدخال معنى الطلب والميل في مفهوم الإرادة والرضا والمحبة، كل منهما محبوب .

قال: وهذا أيضا خلاف ما عليه الأكثر. قلت: وتعقب عليه الملا علي في شرح الفقه الأكبر، فقال: وما ذكرهابن الهمام في المسايرة، من أنه نقل عن أبي حنيفة.. إلخ، فمحمول على تفرقة هذه الصفات في العباد، فليس كما قال: إنه مخالف ما عليه أكثر أهل السنة، وهذا نص الإمام رضي الله عنه في الوصية .

والأحكام ثلاثة: فريضة، وفضيلة، ومعصية، فالفريضة بأمر الله ومشيئته ومحبته ورضائه وقضائه وقدره وعلمه وحكمه وتوفيقه وكتابته في اللوح المحفوظ، والفضيلة ليست بأمر الله تعالى، ولكن بمشيئته ومحبته وقضائه ورضائه وقدره وعلمه وحكمه وتوفيقه وكتابته في اللوح المحفوظ، والمعصية ليست بأمر الله تعالى، ولكن بمشيئته، لا بمحبته وقضائه، لا برضاه وبتقديره، لا بتوفيقه وخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ، فتقدير الخير والشر كله من الله تعالى. اهـ .



(تنبيه)

قال ابن الهمام في المسايرة مع شرحه: فإن قيل: حاصل ما ذكرتم أن المعاصي واقعة بقضاء الله تعالى، وقد تقرر أنه يجب الرضا بالقضاء اتفاقا، فيجب حينئذ الرضا بالمعاصي، وهو باطل إجماعا .

قلنا: الملازمة بين وجوب الرضا بالقضاء وبين وجوب الرضا بالمعاصي ممنوعة، فلا يستلزم الرضا بالقضاء الرضا بها، بل يجب الرضا بالقضاء، لا المقضي، إذا كان منهيا عنه; لأن القضاء صفة له تعالى، والمقضي متعلقها الذي منع منه سبحانه، ثم وجد على خلاف رضاه تعالى من غير تأثير للقضاء في إيجاده ولا سلب مكلف قدرة الامتناع [ ص: 177 ] عنه، بل وجد على مجرد وجه المطابقة للقضاء، قال شارحه: وهو جواب مشهور، وقد أورد عليه أنه لا معنى للرضا بصفة من صفات الله تعالى، إنما الرضا بمقتضى تلك الصفة، وهو المقضي، فحينئذ فاللائق أن يجاب بأن الرضا بالكفر لا من حيث ذاته، بل من حيث هو مقضي، وقد أوضحه السيد في شرح المواقف، فقال: إن للكفر نسبة إلى الله تعالى باعتبار فاعليته له، وإيجاده إياه، ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له، واتصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأولى، والرضا به باعتبار النسبة الأولى دون الثانية، والفرق بينهما ظاهر; فإنه ليس يلزم من وجود الرضا بشيء - باعتبار صدوره عن فاعله- وجوب الرضا به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر، إذ لو صح ذلك لوجب الرضا بموت الأنبياء من حيث وقوعه صفة لهم، وإنه باطل إجماعا، وبالله التوفيق .



استطراد:

قول المعتزلة: "إرادة القبيح قبيحة"، هو بالنسبة إلينا، أما بالنسبة إليه سبحانه فليست كذلك; فإنها قد تكون مقرونة بحكمة تقتضي ذلك، مع أنه مالك الأمور على الإطلاق، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد .

وحكي أن القاضي عبد الجبار الهمداني، أحد شيوخ المعتزلة، دخل على الصاحب بن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني، أحد أئمة أهل السنة، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يعصى؟! قال الأستاذ: أيعصى ربنا قهرا؟! فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أسا؟! فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي، وعلى هذا قول أحد الزنادقة:


أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي

وقد قيل: إن قائل هذا الكلام هو آمن البقتي، المقتول على الزندقة في زمن شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، وأول من أجاب عنه الإمام علاء الدين الباجي، وخلاصته أن الواجب الرضا بالتقدير، لا بالمقدور، وكل تقدير يرضى به لكونه من قبل الحق، ثم المقدور ينقسم إلى ما يجب الرضا به، كالإيمان، وإلى ما يحرم الرضا به، ويكون الرضا به كفرا كالكفر، وإلى غير ذلك .

قال ابن السبكي في الطبقات: وقد أخذ أهل العصر هذا الجواب فنظموه على طبقاتهم في النظم، والكل مشتركون في جواب واحد، فمن ذلك جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشمس ابن اللبان، والنجم أحمد بن محمد الطوسي، والعلاء القونوي، وفي الكل تطويل لا يليق إيراده بهذا الموضع، وقد أوردها ابن السبكي بتمامها، فراجع الطبقات .

ومن جملة ذلك جواب العلامة محمد بن أسعد، تلميذ القاضي البيضاوي، أورده ابن الهمام في المسايرة، وفيه بيتان:


فمعنى قضاء الله بالكفر علمه بعلم قديم سر ما في الجبلة
وإظهاره من بعد ذاك مطابقا لإدراكه بالقدرة الأزلية

وحاصله أن معنى قضائه تعالى علمه الأشياء أزلا بعلمه القديم، ومعنى قدره إظهاره، أي: إيجاده تعالى بقدرته الأزلية ما تعلق علمه بوجوده على الوجه المطابق لتعلق العلم بوجوده، والله أعلم .



(غريبة)

قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا : إن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر، فالقدري يتمسك بالآية، ويقول: إنه صريح مذهبي، ونظيره: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والجبري يقول: متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر; وذلك لأن قوله تعالى: فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، يقتضي كون مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإذا مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وإن الفعل قد يتخلف عن المشيئة بنسخ العزائم وتغيير المقاصد، فليس في التعليق بمشيئة العبد دلالة على استلزام التفويض إليه، والله أعلم .



(نادرة)

قال الإمام الرازي في سورة الأنعام: سمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين -رحمه الله تعالى- قال:

[ ص: 178 ] سمعت الشيخ أبا القاسم بن ناصر الأنصاري يقول: نظر أهل السنة إلى تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة، ونظر المعتزلة إلى تعظيم الله تعالى في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي، فإذا تأملت علمت أن أحدا لم يصف الله إلا بالإجلال والتعظيم والتقديس والتنزيه، لكن منهم من أخطأ، ومنهم من أصاب، ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة، وهي قوله تعالى: وربك الغني ذو الرحمة ، والله أعلم .



(فصل)

لا خلاف بين أهل السنة والجماعة في إطلاق أن الكائنات كلها بإرادة الله تعالى على جهة العموم والإجمال، وأما على التفصيل فنقل عن ابن كلاب أنه قال: لا يجوز أن يقال: المعصية بإرادة الله تعالى دفعا لإيهام أن يكون مأمورا بها، على ما سبق، لبعض أوهام العوام، كما توهمته فرق الاعتدال، ومنهم من يرى جواز ذلك بتقييد يزيل هذا الإيهام، فيقول: الباري مريد للمعصية وقوعا من مكتسبها، ناه عنها معاقب على فعلها .

قال شارح الحاجبية: والحق أن ههنا مقامين: الأول: تحقيق ما في نفس الأمر، الثاني: التفسير بما يدل عليه، أما الأول فقد أعطت الأدلة العقلية والسمعية والوجدية أنه جل وعلا مريد لجميع الكائنات على التفصيل، وتفصيل التفصيل، من غير استثناء ولا تقييد بإرادة واحدة من غير تقديم ولا تأخير ولا كثرة، وإنما الاختلاف والكثرة في التعلقات فقط، وأما الثاني فالعمدة فيه إنما هو الواردات السمعية إذ ذاك عمل لساني، والأعمال قد انقسمت من جهة الأحكام الشرعية إلى ما يجوز، وما لا يجوز، والعمل اللساني من ذلك، فما كان منه على مقتضى الأدب فحسن إطلاقه، وما لا فلا، والآداب إنما تعرف ممن قال: "أدبني ربي فأحسن أدبي"، صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر ذلك فقد ثبت في الشرع ما يدل على أن الأدب عدم التصريح بما تعلق به النهي، أو كان غير ملائم الطباع بنسبته إليه جل وعلا، وإن كان كل ذلك في نفس الأمر ليس إلا منه .

قال تعالى - حاكيا عن خليله عليه السلام-: الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ، وقال جل وعلا - حاكيا عن الخضر عليه السلام-: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها ثم قال: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ، وقال تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، بعد قوله: كل من عند الله ، وفي صحيح مسلم في حديث التوجه الطويل: "الخير في يديك، والشر ليس إليك، بك وإليك"، إلى غير ذلك .



(فصل)

وهذا المطلب أدلته من الكتاب والسنة لا تحصى، وقد مر بعضها، وهي متمسك المحدث، وأما الصوفي فيقول: لا إرادة لغيره، إذ الإرادة تتوسط بين صفتين، إحداهما تتعلق بإيجاد الفعل، وهي القدرة، والأخرى تتعلق بكشفه على ما هو عليه في نفسه، وهي العلم، وقد تقدم أنهما لله تعالى، وبالجملة فالتأثير لله، والتخصيص الإرادي لله، والكشف العلمي لله، والعبد قابل لما يبدو عليه، فما يبدو فيه متى شاءه عادة فهو كسبه، وما لا فليس بكسبه، والكل فعل الله تعالى .




الخدمات العلمية