الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الخامسة والأربعون : وبالجمع في الضمير بينه وبين ربه .

                                                                                                                                                                                                                              كقوله -صلى الله عليه وسلم- : "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" ، وقوله : "ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه" . وذلك ممتنع على غيره ، ولذلك أنكر على الخطيب ، وإنما امتنع من غيره دونه ، لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية بخلافه هو ، فإن منصبه لا يتطرق إليه إبهام ذلك ، ذكره شيخ الإسلام سلطان العلماء العز بن عبد السلام ، وقال الحافظ الصدائي في كتاب "الفصول المفيدة في الواو المزيدة" ، قيل في الجمع بين هذه الأحاديث وجوه : أحدها : أن هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه يعطي مقام الربوبية حقه ، وإذ لا يتوهم فيه تسوية له بما عداه أصلا ، بخلاف غيره من الأمة ، فإنها مظنة التسوية عند الإطلاق في جمع الضميرين بين اسم الله تعالى وغيره ، فلهذا جاز الإتيان بالجمع بين الاسمين بضمير واحد في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الخطيب بالإفراد كيلا يتوهم في كلامه التسوية ، وهذا يرد عليه حديث ابن مسعود في صلاة الجماعة ، وفيه "ومن يعصهما" ، فيدل على عدم الخصوصية إلا أن يقال : يوجد من مجموع الحديثين أن يقولوا في خطبة الحاجة : "ومن يعصي الله ورسوله" لا يجمع ألفاظها ، وفيه نظر .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أنكر على الخطيب كان هناك من يتوهم التسوية بين [ ص: 438 ]

                                                                                                                                                                                                                              المقامين عند الجمع بين ضمير واحد يمنع ذلك ، وحيث لم يكن هناك من يلبس عليه أتى بالضمير ، وهذا لعله أقرب من الذي قبله .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : أن ذلك الجمع لم يكن على وجه التحتم ، بدليل الحديث الآخر ، بل على وجه الندب والإرشاد إلى الأولوية ، لما في إفراد اسم الله تعالى بلا ذكر من التعظيم اللائق بجلاله ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى ما قاله أئمة الأصول ، وحينئذ فلا تكون الواو للترتيب .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : أن ذلك الإنكار كان مختصا بذلك الخطيب ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- فهم عنه أنه لم يجمع بينهما في الضمير إلا للتسوية بينهما في المقام ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال له : "بئس الخطيب أنت" ، فيكون خطابا لمن حاله كذلك ، ولعل هذا الجواب هو الأقوى بأن هذه القصة واقعة عين ، وما ذكرناه محتمل ، ويؤيد هذا الاحتمال فيما ذكره أن يحمل على العموم في حق كل واحد ، فإن انضم إلى ذلك حديث أبي داود الذي علم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته كيف خطبة صلاة الحاجة وفيها "ومن يعصهما" بضمير التثنية قوي ذلك الاحتمال ، وهذا مثل ما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : "لا تفضلوني على موسى" مع قوله : "أنا سيد الناس" ،

                                                                                                                                                                                                                              فقيل في الجمع بينهما وجوه منها : أن الذي منعه من التفضيل يفهم منه نقصا من منصب موسى -صلى الله عليه وسلم- عند التفضيل عنه ، فيكون ذلك مختصا بمن هو مثل حاله ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              النوع الثاني من التخفيفات والمباحات ما يتعلق بالنكاح وفيه مسائل

                                                                                                                                                                                                                              الأولى : خص -صلى الله عليه وسلم- بجمع أكثر من أربع نسوة وهو إجماع ، وقد مات -صلى الله عليه وسلم- عن تسع زوجات كما ذكرنا في باب زوجاته ، ووجه الزيادة على أربع أنه لما كان الحر لفضله على العبد يستبيح من النسوة أكثر مما كان يستبيحه أحد من الأمة [فكذلك فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحر . . . ] .

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعض العلماء : السر في إباحة أكثر من أربع أن الله تعالى علمه بواطن الشريعة وظواهرها ، وما يستحى من ذكرها ولا ما يستحى ، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس حياء ، فجعل الله تعالى له نسوة فينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله ، ويسمعنه من أقواله التي كان يستحيي من الإفصاح عنها بحضرة الرجال لتكمل الشريعة ، فكثرة عدد النساء لنقلهن عنه من الأفعال ما يستحي هو من التلفظ به ، وأيضا إنهن نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه ، وخلوته من الآيات الدالة على نبوته ، ومن جده واجتهاده في العبادة ، ومن أمور يشهد كل ذي لب بأنها لا تكون إلا لنبي ، وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خير عظيم .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية : قيل وبأنه لا ينحصر طلاقه في الثلاث ، والأصح خلافه . [ ص: 439 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة : وبأن نكاحه ينعقد بلفظ الهبة على الأظهر لقوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي [الأحزاب - 50] .

                                                                                                                                                                                                                              قال الرافعي : وعلى قولنا بالانعقاد فلا يجب المهر بالفعل ولا بالدخول كما هي قضية الهبة ، وهل يكفي لها لفظ الاتهاب من جهته أيضا كما يكفي من جهة المرأة أو يشترط منه لفظ النكاح ؟ وجهان أصحهما الثاني ، لظاهر قوله : أن يستنكحها [ . . . ] فاعتبر في جانبه النكاح .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد والبيهقي عن الشعبي في قوله تعالى : ترجي من تشاء منهن [الأحزاب - 51] قال : كل نساء وهبن أنفسهن للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل ببعضهن وأرجى بعضا فلم ينكحن بعده ، منهن أم شريك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى سعيد بن منصور والبيهقي عن ابن المسيب قال : لا تحل الهبة لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة : وبأنه إذا رغب في نكاح امرأة وخطبها ، فإن كانت خطبة لزمتها الإجابة ، ولأنها إذا خالفت أمره كانت عاصية ، وإن خالفت إرادته ورغبته كانت غير راضية بقوله وفعله ، وذلك عصيان عظيم يؤدي إلى الكفر فيلزمها الإجابة ، ويحرم على غيره خطبتها ، لما فيه من المضارة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستدل الماوردي بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [الأنفال - 24] .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة : قيل : وبأنه إذا وقع بصره على امرأة ، فوقعت منه موقعا وجب على الزوج تطليقها ، لقصة زيد ، قاله الغزالي . قال : ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليفه النزول عن أهله ، ولعل السر فيه من جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاؤه ببلية البشر ، ومنعه من خائنة الأعين ، ومن الإضمار الذي يخالف الإظهار ، ولذلك قال تعالى : وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [الأحزاب - 37] الآية ، ليس فيها كما ترى ما يدل على أنه أوجب الطلاق على زيد ، وظاهر الآية أن زيدا طلقها باختياره ، لقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا [الأحزاب - 37] وأما السنة فليس فيها ما يقضي إيجاب الطلاق عليه ، وقد سبق إلى تفسير قصة زيد على النحو الذي ذكره الغزالي جماعة من المفسرين فزعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قولها وعصيانها ، وأذى باللسان وتعظما بالشرف قال له :أمسك عليك زوجك واتق الله [الأحزاب - 37] أي فيما تقول وهو يخفي الحرص على . [ ص: 440 ]

                                                                                                                                                                                                                              طلاق زيد إياها ، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يحب من الأمر بالمعروف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي ، والحافظ ، وغيرهما : وما زعمه هؤلاء من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هوي امرأة زيد وأحب طلاقها ، وأنه أخفى ذلك عن زيد حين استشاره في طلاقه غيره صحيح ، وإن صح عن قائله فهو منكر من القول يتحاشى جانب النبوة عنه ، إذ كيف يتصور أن سيد الأولين والآخرين ينظر إلى زوجة رجل من أصحابه الخصيصين الذي ادعاه ولدا له وأنها تقع في خاطره ، وأنه يقصد فراق زوجها ، ليتزوجها ، معاذ الله أن ينسب ذلك إليه ، ولو نسب ذلك لآحاد الناس لم يرضه لنفسه ، ولا يرضاه أحد لغيره ، ومن قال هذه المقالة فقد اقتحم أمرا عظيما في جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخصوصا في زينب ، فإنها ابنة عمته أميمة ونشأت بمكة ورآها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الحجاب ورآها مرارا كثيرة ، وعرفها معرفة تامة ، وهو الذي خطبها لزيد وزوجه إياها ، فكيف يقال إنه لما جاء إلى بيت زينب يطلبه ورآها أعجبته حينئذ حتى عاتبه الله بسبب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة عن السدي فساقها مساقا حسنا ، ولفظه : بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه ، فكرهت ذلك ، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوجها إياه ثم أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد أنها من أزواجه ، فكان يستحيي أن يأمره بفراقها ، وكان لا يزال بين زينب وبين زيد ما يكون من الناس ، فلما أتاه زيد يشكو إليه قال له : "اتق الله وأمسك عليك زوجك" ، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا : تزوج امرأة ابنه ، وكان قد تبنى زيدا ، وعند ابن أبي حاتم أيضا عن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه قال : أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد يشكو إليه قال له : "اتق الله ، وأمسك عليك زوجك" ، قال الله تعالى : قد أخبرتك أني لمزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : ووردت آثار أخرى أخرجها الطبري وابن أبي حاتم ونقلها أكثر المفسرين لا ينبغي التشاغل بها ، والذي أوردته منها هو المعتمد ، والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو إخبار الله تعالى إياه أنها ستصير زوجته ، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس : تزوج امرأة ابنه ، وأراد الله تعالى إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه ، وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنا في وقوع ذلك من إمام المسلمين ، ليكون أدعى لقبولهم ، وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية . انتهى والله أعلم فرضي الله تعالى عن هذا الحافظ ، وقدس روحه ، ونور ضريحه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشيخ أبو حيان : وهذا المروي عن علي بن الحسين ، أي والسدي أصح ما قيل . [ ص: 441 ]

                                                                                                                                                                                                                              في تفسير هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي : ما روي في حديث قتادة- رضي الله تعالى عنه- من وقوعها في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق من مد عينيه لما نهي عنه [من زهرة الحياة الدنيا ولكان نفس الخس المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء فكيف سيد الأنبياء] وقال القشيري : هذا إقدام عظيم من قائله ، وقلة معرفة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبفضله ، وكيف يقال : رآها وأعجبته وهي بنت عمته ، ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه- عليه الصلاة والسلام- ، وهو الذي زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنة الجاهلية ، كما قال الله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [الأحزاب - 40] .

                                                                                                                                                                                                                              وقال تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [الأحزاب - 37] ثم قال : والأولى ما ذكرناه عن علي بن الحسين وحكاه أبو الليث السمرقندي ، وهو قول عطاء ، وصححه واستحسنه القاضي أبو بكر القشيري ، وعليه قول ابن فورك قال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير إلى آخره وذكر القاضي أبو بكر بن العربي نحوه ، وإذا علم ما تقرر بطلب المسألة من ذلك لعدم قصور ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة : وبأنه -صلى الله عليه وسلم- ينعقد نكاحه بغير ولي ولا شهود . قال الأئمة : وإنما اشتراط الولي والشهود في نكاح غيره ولا بد منه ، أما الولي فلأن لا يضعها عند غير كفء ، وهذا المعنى مأمون من جهته -صلى الله عليه وسلم- لأنه أكفأ الأكفاء ، وأما الشهود فلأجل استثبات الفعل ، وحذرا من الجحود ونفي النسب ، وكان هذا مأمونا من جهته -صلى الله عليه وسلم- لأنه معصوم ، فلم يحتج إلى ولي ولا شهود ، ولأنها لو ذكرت خلاف قوله أو جحدت لم يلتفت إلى قولها لعصمته -صلى الله عليه وسلم- بل قال العراقي في "شرح المهذب" تكون كافرة بتكذيبه .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة : وبانعقاد نكاحه -صلى الله عليه وسلم- في الإحرام على الأصح قال الشيخ أبو حامد : وإنما منع غيره من العقد حال الإحرام ، لأن فيه دواعي الجماع فربما يفضي بسببه إلى الجماع ، فيسقط عنه الإحرام وهذا مأمون من جهته -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان معصوما من ذلك وقادرا على الامتناع منه ، ويدل عليه قول عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه كان يقبل وهو صائم ، وكان أملككم لإربه . فدل على أنه غير ممنوع من العقد وهو محرم ، واستدل أئمتنا بحديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم ، كما رواه الشيخان وللعلماء في ذلك كلام مذكور في المطولات .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة : وبعدم وجوب القسم عليه بين زوجاته في أحد وجهين وهو قول الإصطخري . [ ص: 442 ]

                                                                                                                                                                                                                              وطائفة وصححه الغزالي في الخلاصة ، وعليه اقتصر في الوجيز ، وأشار البلقيني إلى ترجيحه واختاره الشيخ ، وقالوا : كان يفعله تطوعا ، لأن في وجوبه عليه شغلا عن لوازم الرسالة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء [الأحزاب - 51] أي تبعد من تشاء فلا تقسم لها ، وتقرب من تشاء فتقسم لها .

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي : وأصح ما قيل في هذه الآية التوسعة بين زوجاته -صلى الله عليه وسلم- وقال القاضي أبو بكر بن العربي هو الذي يعول عليه .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة : وبجواز زواجه المرأة ممن يشاء بغير إذنها بغير رضى وليها واستدل القاضي جلال الدين البلقيني لذلك بحديث سهل بن سعد من الواهبة نفسها ، وذلك أنه قال للذي قال : زوجنيها أن لم يكن لك بها حاجة : زوجتكها بما معك من القرآن ، ولم ينقل في القصة أنه استأذنها أو استأذن أولياءها ، وإذا نظر في الاحتمال إلى الوقائع سقط منها الاستدلال ، قلنا : لا نسلم بل هذا من عبارة الشافعي الأخرى وهي : ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل بمنزلة العموم في المقال ، لأن الوقائع من النبي -صلى الله عليه وسلم- لفظ يحال عليه العموم ، وهو إسناد العقد إليه بقوله : "زوجتكها بما معك من القرآن" ، فلم يستفصل النبي (ص ) إذ قال ذلك ولم يبين أن يكون لها أولياء ولا بين أن يأذن أم لا .

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة : وبأن يزوج المرأة بنفسه ويتولى الطرفين بغير إذنها وإذن وليها قال الله- سبحانه وتعالى- : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [الأحزاب - 6] .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة : قيل : ونكاح المعتدة في وجه .

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي : وهو غلط ، ولم يذكره جمهور الأصحاب بل غلطوا من ذكره ، بل الصواب القطع بامتناع نكاح المعتدة من غيره ، قال القاضي جلال الدين : والدليل على المنع أنه لم ينقل فعل ذلك ، وإنما نقل عنه غيره ، ففي حديث صفية أنه سلمها إلى أم سليم وفيه : وأحسبه قال : وتعتد في بيتها وفي الصحيح : أنها لما بلغت عدتها فأحلت فبنى بها فبطل هذا الوجه بالكلية ، وكيف يكون ذلك والعدة والاستبراء وضعا في الشرع ؟ لدفع اختلاط الأنساب ، وإذا كان في المسبية من نساء أهل الحرب ، فكيف بمن يمكنها عدة الزوج من نساء أهل الإسلام ؟ ويطرد مثل ذلك في المستبرأة أيضا ، قال : ووقع في خلاصة الغزالي ما هو قريب من هذه الوجه ، وقال ابن الصلاح : إنه غلط منكر وردت نحوه منه .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية عشرة : قيل : وبعدم نفقة أزواجه ، والأصح خلافه ، ودليله

                                                                                                                                                                                                                              قوله -صلى الله عليه وسلم- : "ما تركت نفقة نسائي ، ومؤونة عاملي فإنها صدقة" فإذا كان يجب أن ينفق من ماله على زوجاته بعد وفاته فكيف لا تجب النفقة لهن في حال حياته ؟ فهذا الخلاف باطل قاله القاضي جلال الدين . [ ص: 443 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة : وبأنه كانت تحل المرأة له بتزويج الله تبارك وتعالى كما في قصة زينب ، قال الله- سبحانه وتعالى- زوجناكها يعني صارت زوجة لك ، وأما قوله : إنه نكحها بنفسه وتأويله الآية بإحلال النكاح فهو مردود لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس في قصة خطبتها ، وإن زيدا قال لها : إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرك فقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخل عليها بغير إذن ، وما في صحيح البخاري من قول عائشة وأنس- رضي الله تعالى عنهما- كانت تفخر على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول : "زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سموات ، وما ذكره من التأويل لا يصح لمعارضة الأحاديث .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة : وبجعل عتق أمته صداقها .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن أنس (رضي الله عنه ) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية وجعل عتقها صداقها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية وتزوجها فسئل ما أصدقها ؟ قال : "نفسها" أي أنه أعتقها بلا عوض ، وتزوجها بلا مهر ، لا في الحال ولا فيما بعده

                                                                                                                                                                                                                              كما صححه ابن الصلاح والنووي في الروضة ، وقال : إنه اختيار المحققين ، وقطع به البيهقي . قال ابن الصلاح : فيكون معنى قوله "وجعل عتقها صداقها" أنه لم يجعل لها شيئا غير العتق يحل محل الصداق ، وإن لم يكن صداقا ، وهو من قبيل قولهم : "الفقر زاد من لا زاد له" .

                                                                                                                                                                                                                              وذهب الإمامان أحمد وإسحاق إلى عدم الخصوصية في ذلك ، واختاره الشيخ ، وقال ابن حبان : فعل ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقم دليل على أنه خاص به دون أمته ، فيباح لهم ذلك لعدم وجود تخصيصه فيه .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة : قيل : وبأن له أن يجمع بين الأختين والأم والبنت في وجه حكاه الحناطي ، قال القاضي جلال الدين : وهذا لا يحل حكاية لفساده ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرح بتحريم الجمع بين الأختين عليه ، وبتحريم نكاح بنت الزوجة المدخول بها .

                                                                                                                                                                                                                              فروى الشيخان عن أم حبيبة- رضي الله تعالى عنها- أنها قالت : يا رسول الله ، انكح أختي عزة ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أو تحبين ذلك ؟ " قالت : نعم ، يا رسول الله ، لست لك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن ذلك لا يحل لي" ، قلت : يا رسول الله ، فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة ، قال : "بنت أم سلمة ؟ " قلت : نعم ، قال : "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" . [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة : وبالخلوة بالأجنبية وإردافها وبالنظر إليها ، لأنه معصوم ، وكان يملك إربه عن زوجته فضلا عن غيرها مما هو له وهو المبرأ عن كل فعل قبيح .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن عن صفية الجهنية قالت : اختلفت يدي ويد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن خالد بن ذكوان قال : قالت الربيع بنت معوذ : جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل علي حتى دنا مني فجلس على فراشي كمجلسك مني .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فأطعمته ، ثم جلست تفلي رأسه ، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عنه أيضا قال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه وإلا على أم سليم ، فإنه كان يدخل عليها فقيل له في ذلك فقال : إني أرحمها ، قتل أخوها معي ، قال أبو عبد الله الحميدي وأم سليم هي أم أنس بن مالك ، ولعله أراد على الدوام ، فإنه كان يدخل على أم حرام ، وهي خالة أنس قال الحافظ أبو زرعة العراقي في شرح التقريب : أم حرام ليست محرما له -صلى الله عليه وسلم- ولا زوجة ، نعم ، قيل : أنها خولة بنت قيس ، وإنها كانت زوجة حمزة ، وقيل : زوجة حمزة غيرها ، فزوجة العم ليست محرما ، ولا يبعد عد ذلك في الخصائص ولم يذكره أصحابنا ، وقال الكرماني في الحديث الثاني : هذا محمول على أن ذلك قبل نزول آية الحجاب ، أو جاز النظر للحاجة وللأمن من الفتنة وقال الحافظ في فتح الباري في باب من "من زار قوما فقال عندهم" الذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها ، وتفليتها رأسه ، ولم يكن بينهم محرمية ولا زوجية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عمرو : أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أختها أم سليم ، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة ، فلذلك كانت تفلي رأسه وينام عندها ، وتنال منه ما يجوز لذي محرم أن يناله من محارمه ولا يشك مسلم أن أم حرام كانت محرما له ، ثم روي عن يحيى بن إبراهيم بن مزين قال : إنما استجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تفلي أم حرام رأسه ، لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته ، لأن أم عبد المطلب بن هاشم كانت من بني النجار .

                                                                                                                                                                                                                              ومن طريق يونس بن عبد الأعلى : قال لنا ابن وهب : أم حرام إحدى خالات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة فلذلك كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحضيري : ويؤيده ما في صحيح البخاري من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي [ ص: 445 ]

                                                                                                                                                                                                                              طلحة
                                                                                                                                                                                                                              حدثني أنس بن مالك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث خاله حراما أخا أم سليم في سبعين راكبا . الحديث . وهذا هو حرام بن ملحان فبهذا السن خال النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه لأم سليم ، ولكن ما هي إلا خؤولة الرضاعة ، قلت : وهذا الذي قاله فيه نظر ، بل الضمير في قوله في حديث أنس- رضي الله تعالى عنه- بعث لأم سليم عائدة على السن فإن حراما أخا أم سليم خال أنس بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي : اتفق العلماء على أنها- يعني أم حرام- كانت محرمة له -صلى الله عليه وسلم- واختلفوا في كيفية ذلك ، فقال ابن عبد البر وغيره : كانت إحدى خالاته -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : بل كانت خالة لأبيه أو لجده ، لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار ، وتعقبه ابن الملقن فقال : ما ذكر من الاتفاق على أنها كانت محرما له فيه نظر ، فمن أحاط بنسب النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسب أم حرام علم أنه لا محرمية بينهما ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم ، وقد نهي عن الخلوة بالأجنبية نهي تحريم ، فيحمل فعله هذا على الاختصاص وقد ادعاه بعض شيوخنا .

                                                                                                                                                                                                                              وأجيب عن النووي بأنه لم يرد أن أم حرام كانت محرما من جهة النسب ، فإنه أعلم الناس بنسبهما ، وإنما أراد محرمية الرضاع التي حكاها ابن عبد البر وذهب إليها بلا شك ، وحكى القاضي أبو بكر بن العربي : كلام ابن وهب وقال غيره : بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوما يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها ، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح ، وقوله رفث فكان ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- ثم قال : ويحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب ، قال الحافظ : ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب والقصة كانت بعد حجة الوداع .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ الدمياطي : زهل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو من النسب وكل من أثبت لها خؤولة تقتضي محرمية لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه -صلى الله عليه وسلم- معلومات ليس فيهن أحد من الأنصار البتة سوى أم عبد المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ، وأم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ، فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا من عامر بن غنم جدهما الأعلى ، وهذه الخؤولة المذكورة لا تثبت بها محرمية ، لأنها خؤولة مجازية ، وهي كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص : "هذا خالي" لكونه من بني زهرة وهي من أقارب أمه آمنة بنت وهب ، وليس سعد أخا لآمنة لا من النسب ولا من الرضاع ، ثم قال الدمياطي على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام ، ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع [ ص: 446 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وهو احتمال قوي لكنه لا يدفع الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس ، وكذلك النوم في الحجر قال : وأحسن الأجوبة عندي الخصوصية ، فلا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل ، لأن الدليل على ذلك واضح .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ الدمياطي : وهم في أم حرام من جعلها من خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو النسب وأثبت لها خؤولة توجب محرمية لأن أمهاته -صلى الله عليه وسلم- اللاتي ولدنه وأصهاره اللاتي أرضعنه كلهن من مضر وربيعة مرعى ولد إسماعيل وجرهم وقضاعة وخزاعة ، ومن بني عامر النجار ومن الأزد ليس فيهن من بني قبيلة الأوس والخزرج سوى أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن عدي بن النجار وحرام وسليم وأم حرام وأم سليم وأم عبد الله ، وكلهم أسلم وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- أولاد ملحان ، واسم ملحان : مالك بن خلال بن زيد بن حرام وجندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ، فلا يجتمع ملحان وسلمى إلا في عامر بن غنم ، وهذه خؤولة بعيدة لا تثبت محرمية ، ولا تمنع صالحا ، لكن العرب تستعملها كثيرا توسعا

                                                                                                                                                                                                                              كقوله -صلى الله عليه وسلم- في سعد بن أبي وقاص بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة "هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله" ،

                                                                                                                                                                                                                              وآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة من كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب .

                                                                                                                                                                                                                              وكقول عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فقلت : خالي يعني العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وأم عمرو بنت هاشم بن المغيرة بنت عم العاص

                                                                                                                                                                                                                              كما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل على بعض أزواجه بالمدينة فرأى امرأة حسنة فقال : من هذه ؟ فقالت : إحدى خالاتك يا رسول الله ، فقال : إن خالاتي في هذه الأرض لغرائب من هذه ؟ فقالت : هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة فقال : "سبحان الذي يخرج الحي من الميت" ، كان أبوها الأسود من المستهزئين ، مات كافرا ، وهي بنت خاله ، ونحوه هذا كثير ، إذا كانت أم الرجل من غير قبيلة أبيه كانت قبيلة أمه أخواله على وجه الاستعارة والمجاز ، وذكر كلاما ثم قال : فقد ثبت بمجموع ما ذكرنا من الخصائص لأم حرام وأم سليم (رضي الله عنه ) وهذا الحكم خاص بهما والله أعلم . [ ص: 447 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية