الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              التاسعة : وبتحريم التقدم بين يديه -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل ، وهو ذكر الرأي عنده ، أو فعله ، قبل رأيه -صلى الله عليه وسلم- ، قال الله- تبارك وتعالى- يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات - 1] لأن من قدم قوله أو فعله ، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قدم على الله ، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يأمر من أمر الله ، والمعنى لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به ، لأن "بين اليدين" ها هنا الإمام والقدام فتضمن حمله على قدام الأمر والنهي ، فقدم هنا بمعنى تقدم كما في قولهم بين وتبين وفكر وتفكر ، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ فالتقدم بين يدي نبيه ، بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم .

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة : وبأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستشفى به ، كذا قاله الرافعي وهو شامل لذاته الشريفة -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا كدعائه ومس يده والغسل بريقه والتمسح بفضل وضوئه ونخامته وعرقه ، وهذا أمر مشهور وقد تقدم بيان ذلك في المعجزات .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل ما وجه الخصوصية في ذلك وغيره من الأولياء قد كان يستشفى بدعائه ولمس يده وبريقه وشعره وعرقه ويتبرك بذلك ؟ فالجواب عن ذلك أن هذا الاستشفاء من النبي -صلى الله عليه وسلم- متيقن الإجابة بخلاف غيره ، فإنه مظنون وقد تتخلف الخصوصية في اليقين . [ ص: 455 ]

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة : وبأن النجس منا طاهر منه .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية عشر : ويستسقى به .

                                                                                                                                                                                                                              روى البزار والطبراني والحاكم والبيهقي بسند حسنه الشيخ عن عبد الله بن الزبير قال احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني الدم فقال : "اذهب فغيبه" فذهبت فشربته ، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي "ما صنعت ؟ " قلت غيبته قال "لعلك شربته" قلت : شربته .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارقطني في السنن عن أسماء بنت أبي بكر قالت : إن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم فدفع دمه إلى ابني فشربه ، فأتاه جبريل فأخبره فقال "ما صنعت ؟ " قال كرهت أن أصب دمك فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تمسك النار ، ومسح على رأسه وقال : "ويل للناس منك وويل لك من الناس" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال شج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فتلقاه أبي فلحس الدم عن وجهه بفمه وازدرده فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "من سره أن ينظر إلى رجل خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان" .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه سعيد بن منصور عن عمرو بن السائب مرسلا وروى البزار وأبو يعلى وابن أبي خيثمة والبيهقي في السنن والطبراني عن سفينة قال : احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس فذهبت فشربته ثم جئت فقال ما صنعت ؟ فأخبرته فضحك .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن عدي من طريق شريح بن يونس ثنا ابن أبي فديك ثنا برية بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده بلفظ : خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير أو قال الناس والدواب شك ابن أبي فديك .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو الحسن بن الضحاك قال : حدثنا أبو الحكم حدثنا أبو الغنائم حدثنا عبد الله بن عبيد الله أنبأنا أبو عبد الله المحاملي أنبأنا علي بن شعيب أنبأنا ابن أبي فديك فذكره .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى والطبراني والدارقطني والحاكم وأبو نعيم عن أم أيمن- رضي الله تعالى عنها- قالت قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليل إلى فخارة فبال فيها ، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها ، فلما أصبح أخبرته فضحك وقال "أما إنك لا يتجعن بطنك أبدا" ولفظ أبي يعلى "إنك لن تشتكي بطنك بعد يومك هذا أبدا" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره ، فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت بهم من أرض الحبشة فقال "أين البول الذي كان في القدح ؟ " قالت شربته قال : "صحة يا أم يوسف" وكانت تكنى أم يوسف ، فما مرضت قط حتى ماتت فيه . [ ص: 456 ]

                                                                                                                                                                                                                              وصحح ابن دحية أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين وهو واضح من اختلاف السياق وصحح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن ، وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام البلقيني كما دل عليه كلامه في "التدريب" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني والبيهقي بسند صححه الشيخ عن حكيمة بنت أميمة عن أمها قالت : كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره ، فقام فطلبه فسأل عنه فقال أين القدح : فقالوا : شربته برة خادم أم سلمة التي قدمت معها من أرض الحبشة ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لقد احتظرت من النار بحظار" .

                                                                                                                                                                                                                              وموضوع الدلالة من هذه الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على ابن الزبير ولا أم أيمن ولا من فعل مثل فعلها ، ولا أمرهم بغسل الفم ، ولا نهاهم عن العود إلى مثله ، ومن حمل ذلك على التداوي ، قيل له : قد أخبر -صلى الله عليه وسلم- "إن الله لا يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها" رواه ابن حبان في صحيحه فلا يصح حمل الأحاديث على ذلك بل هي ظاهرة في الطهارة .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشر : وبأن من زنا بحضرته واستهان به كفر .

                                                                                                                                                                                                                              قال الرافعي : والدليل على ذلك قوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا [الفتح - 8 ، 9] قال المفسرون معنى تعزروه أي تعظموه وتفخموه فالضمير عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فالوقف تام بقوله تسبحوه أي تسبحوا الله تعالى بكرة وأصيلا فيكون معنى الكلام راجعا إلى الله-عز وجل- وهو وسبحوه من غير خلاف ويكون بعض الكلام راجعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو التوقير والتعظيم وهو من باب اللف والنشر المشوش .

                                                                                                                                                                                                                              فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل إلى الخلق كافة ليأمرهم بالإيمان كذلك هو مرسل إليهم ليأمرهم بنصرته وتوقيره فمن خالف موجب ذلك كفر .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية