الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              التنبيه الحادي والخمسون :

                                                                                                                                                                                                                              استشكل رؤية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم في الأرض . وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم ، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا وتكريما ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عند البيهقي وغيره : «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي جمرة : «رؤيته لهؤلاء الأنبياء تحتمل وجوها : الأول : أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها عن الموضع الذي عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك . ويشهد لهذا الوجه

                                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم : «رأيت الجنة والنار في عرض الحائط» .

                                                                                                                                                                                                                              وهو محتمل لوجهين أحدهما : أن [ ص: 132 ]

                                                                                                                                                                                                                              يكون صلى الله عليه وسلم رآهما من ذلك الموضع كما يقال رأيت الهلال من منزلي من الطاق والمراد من موضع الطاق ، الوجه الثاني : أن يكون مثل له صورتهما في عرض الحائط ، والقدرة صالحة لكليهما . الثاني : أن يكون صلى الله عليه وسلم عاين أرواحهم هناك في صورهم . الثالث : أن يكون الله عز وجل لما أراد الإسراء بنبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه عليه السلام وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن ، وإظهارا له عليه الصلاة والسلام القدرة التي لا يغلبها شيء ولا تعجز عن شيء وكل هذه الأوجه محتملة ولا ترجيح لأحدها على الآخر لأن القدرة صالحة لكلها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القيم في كتاب الروح «الأرواح قسمان : أرواح معذبة وأرواح منعمة ، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي . والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا ، فتكون كل روح معها رفيقها الذي هو على مثل عملها . وروح نبينا صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى . قال تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء : 69] وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث أبي هريرة : «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة» . الحديث . قال : فهذا نص في تذاكر الأرواح العلم ، وقد أخبر الله تعالى عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل هذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه : أحدها أنهم أحياء عند الله وإذا كانوا أحياء عند الله فهم يتلاقون .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنهم إنما يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم . الثالث : أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون وقد تواترت المرائي بذلك فذكر عدة منامات . ثم قال : وقد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها . قال ابن أبي الدنيا :

                                                                                                                                                                                                                              حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ أنبأنا الفضيل بن سليمان النميري حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن أبي أنيسة عن جده قال : لما مات بشر بن البراء بن معرور- بمهملات- وجدت أم بشر عليه وجدا شديدا ، فقالت : يا رسول الله إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة ، فهل يتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر ، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رؤوس الشجر» .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحديث وآثارا تؤيد ذلك ، ثم قال : «والروح ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء ، وتتحرك وتسكن ، وعلى هذا أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا : معرفة الروح والنفس ، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة ، وأن من قال [ ص: 133 ]

                                                                                                                                                                                                                              غيره لم يعرف نفسه وقد وصفها الله تعالى بالدخول والخروج ، والقبض والتوفي والرجوع ، وصعودها السماء وفتح أبوابها وغلقها عنها ، وقد ذكرت آيات وأحاديث كثيرة تشهد بما قاله» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال : «وأما إخباره صلى الله عليه وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة الإسراء به ، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم . قال : فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون . وقد رأى المصطفى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي ، وقد نعت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما رآهم بنعت الأشباح» .

                                                                                                                                                                                                                              ونازعهم آخرون وقالوا : هذه الرواية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم ، والأجساد في الأرض قطعا وإنما تبعث يوم تبعث الأجساد ، ولا تبعث قبل ذلك ، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنهم الأرض قبل يوم القيامة ، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور ، وهذه موتة ثالثة وهذا باطل قطعا ، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله تعالى إليها ، بل كانت في الجنة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إن الله تعالى حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو ، فهو أول من يستفتح باب الجنة ، وأول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق ، ولم تنشق عن أحد قبله ، ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري .

                                                                                                                                                                                                                              وقد سأله أصحابه : كيف تعرض عليك صلاتنا وقد بليت؟ فقال : «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»

                                                                                                                                                                                                                              ولو لم يكن جسده في ضريحه طريا لما أجاب بهذا الجواب . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم لما خرج بين أبي بكر وعمر قال : «هكذا نبعث» .

                                                                                                                                                                                                                              هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . وقد صح أنه رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة ، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراق عليه وتعلق به بحيث تصلي في قبره وترد سلام من سلم عليه وهو في الرفيق الأعلى .

                                                                                                                                                                                                                              ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان ، فأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب وإن كان بين بدنيهما غاية البعد ، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين في غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين ، وليس نزول الروح وصعودها ، وقربها وبعدها من جنس ما للبدن فهي تصعد إلى فوق سبع سموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره ، وهو زمن يسير لا يصعد [ ص: 134 ] البدن وينزل في مثله ، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة . وقد مثلها بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              قال شيخنا - يعني أبا العباس الحراني : وليس هذا مثالا مطابقا فإن نفس الشمس لا تزول من السماء والشعاع الذي على الأرض لا هو الشمس ولا صفتها بل عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها ، والروح نفسها تصعد وتنزل وبسط الكلام على ذلك ولهذا مزيد بيان في باب حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية