الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وحرم الله تعالى الجمع بين الأختين " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الجمع بين الأختين فحرام بنص الكتاب وإجماع الأمة ، وأما الجمع بينهما بملك اليمين ، وإن جمع بينهما في الملك بالشراء جاز ، إذا لم يجمع بينهما في الاستمتاع : لأن المقصود بالملك التحول دون الاستمتاع : ولذلك جاز أن يملك من لا يحل له وطئها من أخواته وعماته ، وخالف عقد النكاح الذي مقصوده الاستمتاع ، ولذلك لم يجز أن يتزوج من لا تحل له من أخت وعمة ، فلذلك بطل الجمع بينهما في النكاح ، ولم يبطل الجمع بينهما في الملك ، فأما إذا أراد أن يجمع بين الأختين بملك اليمين في الاستمتاع ، فيطأ كل واحدة منهما لم يجز . وهو قول عامة الصحابة والتابعين والفقهاء .

                                                                                                                                            [ ص: 202 ] وقال داود : يجوز الجمع بينهما في الاستمتاع وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وربما أضيف إلى عثمان بن عفان : واستدلالا بعموم قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم ولم يشترط في ملك اليمين تحريم الجمع بين أختين ، وكذلك في قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ النساء : 3 ] فأطلق ملك اليمين ، وكان على عمومه ، ثم قال : ولأن تحريم النكاح نوعان : تحريم عدد ، وتحريم جمع .

                                                                                                                                            فأما العدد : فهو تحريم الزيادة على الأربع .

                                                                                                                                            وأما تحريم الجمع : فهو الجمع بين الأختين .

                                                                                                                                            فلما لم يعتبر في ملك اليمين تحريم العدد وجاز أن يستمتع بأي عدد شاء من الإماء ، وجب أن لا يعتبر تحريم الجمع ، ويجوز أن يستمتع بأختين .

                                                                                                                                            قال داود : ولأن الجمع بينهما في الاستمتاع غير ممكن : لأنه لا يقدر إلا أن يطأ إحداهما بعد الأخرى ، والجمع بينهما في النكاح ممكن ، فلذلك حل الجمع بينهما في الاستمتاع بالملك لتعذره ، وحرم في النكاح لإمكانه ، وهذا خطأ .

                                                                                                                                            ودليلنا عموم قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ولم يفرق بين تحريمها بنكاح أو ملك : ولأن تحريم الجمع بينهما بملك اليمين مستفيض في الصحابة كالإجماع .

                                                                                                                                            روى مالك عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب : أن رجلا دخل على عثمان بن عفان ، فسأله عن الجمع بين الأختين بملك اليمين ، فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، والتحريم أولى ، فخرج السائل فلقي رجلا من الصحابة فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان من الأمر إلي شيء ثم وجدت رجلا يفعل هذا لجعلته نكالا .

                                                                                                                                            قال مالك : قال الزهري : أراه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه .

                                                                                                                                            وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وابن مسعود ، وعائشة ، وعمار ، من غير أن يظهر خلاف فصار إجماعا ، ولأن التحريم ضربان : تحريم تأبيد كتحريم أمهات الموطوءة وبناتها ، وتحريم جمع كتحريم أخوات الموطوءة وعماتها . فلما كان تحريم التأبيد معتبرا في وطء الإماء كالنكاح وجب بأن يكون تحريم الجمع معتبرا في وطئهن كالنكاح ، ولأن ثبوت الفراش بالوطء أقوى من ثبوته بالعقد : لأنه يثبت في فاسد الوطء إذا كان عن شبهة ، كما ثبت في صحيحه ، ولا يثبت في فاسد العقد ، وإن ثبت في صحيحه ، فلما ثبت تحريم الجمع في العقد كان تحريمه في الوطء أولى : ولأن تحريم الجمع في النكاح إنما كان ليدفع به تواصل ذوي الأرحام فلا يتقاطعون : لأن الضرائر من النساء متقاطعات وهذا المعنى موجود في الأختين بملك اليمين كوجوده فيهما بعقد النكاح ، فوجب أن يستويا في التحريم .

                                                                                                                                            [ ص: 203 ] فأما الاستدلال بعموم الآيتين فقد خصه قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ النساء : 23 ] وأما قوله بأن تحريم العدد لما حرم بالنكاح كذلك تحريم الجمع .

                                                                                                                                            فالجواب عنه : أن تحريم العدد إنما ثبت في الزوجات خوفا من الجور فيما يجب لهم من النفقة والكسوة والقسم ، وهذا معدوم في الإماء : لأن نفقاتهن وكسوتهن في أكسابهن ، ولا قسم لهن فأمن الجور فافترقا في تحريم العدد ، وهما في المعنى الذي أوجب تحريم الجمع سواء : لأن خوف التقاطع والتباغض والتحاسد ، وهذا موجود في الإماء كوجوده في الزوجات ، فاستويا في تحريم الجمع : لاشتراكهما في معناه ، وإن افترقا في تحريم العدد لافتراقهما في معناه .

                                                                                                                                            وأما قول داود : إن الجمع بينهما في الوطء غير ممكن ، فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قد يمكن الجمع بينهما في الاستمتاع بأن يضاجعهما معا ويلمسهما ، وهذا محرم في الأختين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قد ينطلق اسم الجمع على فعل الشيء بعد الشيء كالجمع بين الصلاتين ، كذلك بين الوطأين ، فيكون الجمع جمعين ؛ جمع متابعة وجمع مقارنة .

                                                                                                                                            والثالث : أن الصحابة قد جعلته من معنى الجمع ما نهت عنه ، ولم تجعله مستحيلا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية