الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3729 ) فصل : وإذا كان لرجلين دين لسبب واحد ; إما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره ، فقبض أحدهما منه شيئا ، فللآخر مشاركته فيه . هذا ظاهر المذهب . وقد روي عن أحمد ما يدل على أن لأحدهما أن يأخذ حقه دون صاحبه ، ولا يشاركه الآخر فيما أخذه . وهو قول أبي العالية ، وأبي قلابة ، وابن سيرين ، وأبي عبيد قيل لأحمد : بعت أنا وصاحبي متاعا بيني وبينه ، فأعطاني حقي ، وقال : هذا حقك خاصة ، وأنا أعطي شريكك بعد . قال : لا يجوز . قيل له : فإن أخره أو أبرأه من حقه دون صاحبه ؟ قال : يجوز . قيل : فقد قال أبو عبيد : له أن يأخذ دون صاحبه إذا كان له أن يؤخر ، ويبرئه دون صاحبه ؟ ففكر فيها ، ثم قال : هذا يشبه الميراث إذا أخذ منه بعض الورثة دون بعض ، وقد قال ابن سيرين وأبو قلابة وأبو العالية : من أخذ شيئا فهو من نصيبه .

                                                                                                                                            قال : فرأيته قد احتج له وأجازه . قال أبو بكر : العمل عندي على ما رواه حرب وحنبل ، أنه لا يجوز وهو الصحيح . وقد صرح به أحمد في أول هذه الرواية ، ولم يصرح بالرجوع عما قاله ; وذلك لأنه لا يجوز أن يكون نصيب القابض ما أخذه ، لما في ذلك من قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك ، فيكون المأخوذ والباقي جميعا مشتركا ، ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه ، سواء كان باقيا في يده ، أو أخرجه عنها برهن أو قضاء دين أو غيره ، وله أن يرجع على الغريم ; لأن الحق يثبت في ذمته لهما على وجه سواء ، فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشيء ; لأن حقه يثبت في أحد المحلين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الآخر ، وليس للقابض منعه من الرجوع على الغريم ، بأن يقول : أنا أعطيك نصف ما قبضت .

                                                                                                                                            بل الخيرة إليه من أيهما شاء قبض ، فإن قبض من شريكه شيئا ، رجع الشريك على الغريم بمثله ، وإن هلك المقبوض في يد القابض ، تعين حقه فيه ، ولم يضمنه للشريك ; لأنه قدر حقه فيما تعدى بالقبض ، وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته في الأصل مشتركا . وإن أبرأ أحد الشريكين من حقه ، برئ منه ; لأنه بمنزلة تلفه ، ولا يرجع عليه غريمه بشيء .

                                                                                                                                            وإن أبرأ أحدهما من عشر الدين ، ثم قبضا من الدين شيئا ، اقتسماه على قدر حقهما في الباقي ; للمبرئ أربعة أتساعه ، ولشريكه خمسة أتساعه . وإن قبضا نصف الدين ، ثم أبرأ أحدهما من عشر الدين كله ، نفذت براءته في خمس الباقي ، وما بقي بينهما على ثمانية ; للمبرئ ثلاثة أثمانه ، وللآخر خمسة أثمانه ، فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا . وإن اشترى أحدهما بنصيبه من الدين ثوبا ، فللآخر إبطال الشراء فإن بذل له المشتري نصف الثوب ، ولا يبطل البيع ، لم يلزمه ذلك . وإن أجاز البيع ليملك نصف الثوب ، انبنى على بيع الفضولي ، هل يقف على الإجازة أو لا ؟ وإن أخر أحدهما حقه من الدين ، جاز ; فإنه لو أسقط حقه جاز ، فتأخيره أولى .

                                                                                                                                            فإن قبض الشريك بعد ذلك شيئا ، لم يكن لشريكه الرجوع عليه بشيء . ذكره القاضي . والأولى أن له الرجوع ; لأن الدين الحال لا يتأجل بالتأجيل ; فوجود التأجيل كعدمه . فأما إن قلنا بالرواية الأخرى ، وأن ما يقبضه أحدهما له دون صاحبه ، فوجهها أن ما في الذمة لا ينتقل إلى العين إلا بتسليمه إلى غريمه أو [ ص: 49 ] وكيله ، وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض ، ولا لوكيله ، فلا يثبت له فيه حق ، وكان لقابضه ; لثبوت يده عليه بحق ، فأشبه ما لو كان الدين بسببين .

                                                                                                                                            وليس هذا قسمة الدين في الذمة ، وإنما تعين حقه بقبضه ، فأشبه تعيينه بالإبراء ، ولأنه لو كان لغير القابض حق في المقبوض ، لم يسقط بتلفه ، كسائر الحقوق ، ولأن هذا القبض لا يخلو إما أن يكون بحق أو بغير حق ، فإن كان بحق ، لم يشاركه غيره فيه ، كما لو كان الدين بسببين ، وإن كان بغير حق ، لم يكن له مطالبته ; لأن حقه في الذمة لا في العين ، فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالا ، فعلى هذا ما قبضه القابض يختص به دون شريكه ، وليس لشريكه الرجوع عليه . وإن اشترى بنصيبه ثوبا ، صح ، ولم يكن لشريكه إبطال الشراء .

                                                                                                                                            وإن قبض أكثر من حقه بغير إذن شريكه ، لم يبرأ الغريم مما زاد على حقه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية