الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4410 [ ص: 302 ] (باب منه) وذكره النووي ، في (الباب الماضي) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ، ص 164 ج 15، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد، أن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أخبره: أن أباه سعدا، قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش، يكلمنه ويستكثرنه: عالية أصواتهن فلما استأذن عمر: قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم -يضحك- فقال عمر: أضحك الله سنك، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك: ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت، يا رسول الله! أحق أن يهبن. ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان -قط- سالكا فجا، إلا سلك فجا غير فجك ") .

                                                                                                                              [ ص: 303 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 303 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن سعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنه ؛ قال : استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعنده نساء من قريش) هن من أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ، لقوله : (يكلمنه ويستكثرنه) أي : يطلبن كثيرا من كلامه ، وجوابه : بحوائجهن ، وفتاويهن .

                                                                                                                              وقال القسطلاني : يطلبن منه ، أكثر مما يعطيهن .

                                                                                                                              وفي مسلم : "أنهن يطلبن النفقة" (عالية أصواتهن) . قال عياض : يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وآله وسلم . ويحتمل : أن علو أصواتهن ، إنما كان باجتماعها، لا أن كلام كل واحدة بانفرادها : أعلى من صوته صلى الله عليه وآله وسلم . أو كان ذلك من طبعهن . قاله ابن المنير .

                                                                                                                              (فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك -فقال عمر : أضحك الله سنك ، يا رسول الله !) . مراده : لازم الضحك ، وهو السرور . لا الدعاء بالضحك .

                                                                                                                              [ ص: 304 ] (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" . قال عمر: فأنت، يا رسول الله ! أحق أن يهبن) أي : يوقرن . (ثم قال عمر : أي عدوات أنفسهن ! أتهبنني ، ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قلن: نعم . أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              "الغليظ والفظ" : بمعنى . وهو عبارة عن : شدة الخلق ، وخشونة الجانب .

                                                                                                                              قال أهل العلم : وليست لفظة "أفعل" هنا : للمفاضلة ، بل هي بمعنى : "فظ غليظ" . قال عياض : وقد يصح حملها على المفاضلة ، وأن القدر الذي منها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هو ما كان من إغلاظه على الكافرين ، والمنافقين . كما قال تعالى : جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم . وكان يغضب ويغلظ ، عند انتهاك حرمات الله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                              وكان عمر مبالغا في الزجر عن المكروهات مطلقا ، وفي طلب المندوبات كلها .

                                                                                                                              [ ص: 305 ] قال النووي : وفي هذا الحديث فضل لين الجانب ، والحلم ، والرفق ، ما لم يفوت مقصودا شرعيا . قال تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين وقال تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . وقال تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم .

                                                                                                                              (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "والذي نفسي بيده ! ما لقيك الشيطان - قط - سالكا فجا ، إلا سلك فجا غير فجك") .

                                                                                                                              "الفج" : الطريق الواسع . ويطلق أيضا : على المكان المنخرق ، بين الجبلين .

                                                                                                                              قال النووي : وهذا الحديث محمول على ظاهره ؛ أن الشيطان متى رأى عمر سالكا فجا ، هرب هيبة من عمر ، وفارق ذلك الفج ، وذهب في فج آخر ؛ لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئا .

                                                                                                                              قال عياض : ويحتمل : أنه ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه ، وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد ، خلاف ما يأمر به الشيطان .

                                                                                                                              قال : والصحيح الأول . وهذا لا يقتضي عصمته ؛ لأنه ليس فيه إلا فرار الشيطان منه : أن يشاركه في طريق يسلكها . ولا يمنع ذلك من وسوسته له ، بحسب ما تصل قدرته إليه .




                                                                                                                              الخدمات العلمية