الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4558 [ ص: 534 ] باب في فضائل جعفر بن أبي طالب، وأسماء بنت عميس، رضي الله عنهما

                                                                                                                              ومثله في النووي. وزاد (وأهل سفينتهم).

                                                                                                                              التعريف بجعفر

                                                                                                                              أسلم "جعفر" قديما، وهاجر الهجرتين، وهو شقيق "علي" وأسن منه بعشر سنين. رضي الله عنه.

                                                                                                                              ويقال له: "ذو الجناحين" لحديث ابن عباس مرفوعا: "دخلت البارحة الجنة، فرأيت فيها "جعفرا" يطير مع الملائكة" رواه الطبراني.

                                                                                                                              وفي أخرى عنه "أن جعفرا يطير مع جبريل، وميكائيل، له جناحان: عوضه الله من يديه".

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة -عند الترمذي والحاكم- بإسناد على شرط مسلم: "أنه، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة، وهو مخضب الجناحين بالدم". وقال صلى الله عليه وآله وسلم لابنه عبد الله: "هنيئا لك أبوك، يطير مع الملائكة، في [ ص: 535 ] الماء" أخرجه الطبراني.

                                                                                                                              وكان قد أصيب "بمؤتة" من أرض الشام، وهو أمير بيده راية الإسلام، بعد زيد بن حارثة. فقاتل في الله، حتى قطعت يداه. فأري النبي، صلى الله عليه وآله وسلم -فيما كشف به- أن له جناحين مضرجين بالدم، يطير بهما في الجنة مع الملائكة. وكفى بذلك شرفا، وإكراما، وفوزا عظيما.

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 64 ج 16، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بلغنا مخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي (أنا أصغرهما) ؛ أحدهما: أبو بردة، والآخر: أبو رهم -إما قال: بضعا (وإما قال: ثلاثة) وخمسين "أو اثنين وخمسين": رجلا من قومي- قال: فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه، عنده.

                                                                                                                              [ ص: 536 ]

                                                                                                                              فقال جعفر: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعثنا، هاهنا وأمرنا بالإقامة؛ فأقيموا معنا. فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعا. قال: فوافقنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم -حين افتتح خيبر- فأسهم لنا -أو قال: أعطانا- منها. وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه. (إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه) : قسم لهم معهم.

                                                                                                                              قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا (يعني: لأهل السفينة) : نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس -وهي ممن قدم معنا- على حفصة "زوج النبي، صلى الله عليه وسلم": زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي، فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة -وأسماء عندها- فقال: عمر (حين رأى أسماء) من هذه؟

                                                                                                                              قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: آلحبشية هذه؟ آلبحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت، وقالت كلمة: كذبت، يا عمر! كلا. والله! كنتم مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنا في دار -أو في أرض- البعداء، البغضاء: في الحبشة. وذلك في الله، وفي رسوله. وايم الله! لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت: لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. ونحن كنا نؤذى، ونخاف. وسأذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأسأله. ووالله! لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك.

                                                                                                                              [ ص: 537 ]

                                                                                                                              قال: فلما جاء النبي، صلى الله عليه وسلم؛ قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم. وله ولأصحابه: هجرة واحدة. ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان".

                                                                                                                              قالت: فلقد رأيت أبا موسى، وأصحاب السفينة: يأتوني أرسالا، يسألوني عن هذا الحديث؛ ما من الدنيا شيء، هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم: مما قال لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني]
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي موسى رضي الله عنه؛ قال: بلغنا مخرج رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم) أي: مبعثه، أو خروجه إلى المدينة. "فمخرج": مصدر ميمي، أي: خروج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم (ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي -أنا أصغرهما-) هكذا هو في النسخ. والوجه: "أصغر منهما". (أحدهما: أبو بردة) عامر بن قيس (والآخر: أبو رهم) بضم الراء، وسكون الهاء: ابن قيس (إما قال: بضعا "وإما قال: ثلاثة" وخمسين "أو اثنين وخمسين": رجلا من قومي) الأشعريين.

                                                                                                                              [ ص: 538 ]

                                                                                                                              (قال: فركبنا سفينة) لنصل إلى مكة، (فألقتنا سفينتنا) أي: بسبب هيجان البحر والريح: (إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب "رضي الله عنه" -وأصحابه عنده- فقال جعفر: إن رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: بعثنا ههنا. وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا. قال: فأقمنا معه حتى قدمنا) أي: المدينة (جميعا. قال: فوافقنا جميعا رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم -حين افتتح خيبر-) سنة ست، أو سبع (فأسهم لنا -أو قال: أعطانا- منها).

                                                                                                                              هذا الإعطاء: محمول على أنه برضى الغانمين. وقد جاء في "صحيح البخاري": ما يؤيده. وفي رواية البيهقي: التصريح بأن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كلم المسلمين، فشركوهم في سهمانهم. (وما قسم لأحد "غاب عن فتح خيبر منها": شيئا، إلا لمن شهد معه -إلا لأصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه- قسم لهم معهم. قال: فكان ناس من الناس -سمي منهم عمر- يقولون لنا -يعني: لأهل السفينة-: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس) مع زوجها جعفر (وهي ممن قدم معنا) من أصحاب السفينة. (على حفصة "زوج النبي" صلى الله عليه) وآله (وسلم: [ ص: 539 ] زائرة -وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه- فدخل عمر، رضي الله عنه، على حفصة -وأسماء عندها- فقال عمر -حين رأى أسماء- من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر "رضي الله عنه": آلحبشية هذه؟) بمد همزة الاستفهام. وقال "الحبشية": لسكناها فيهم. (البحرية هذه؟) لركوبها البحر. (فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: منكم. فغضبت) أي: أسماء (وقالت كلمة: كذبت، يا عمر!) أي: أخطأت. وقد استعملوا، "كذب" بمعنى "أخطأ". (كلا والله! كنتم مع رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنا في دار -أو في أرض- البعداء) في النسب: بضم الباء، وفتح العين. وفتح الدال ممدودا.

                                                                                                                              ودار، وأرض: بغير تنوين؛ لإضافتهما إلى "البعداء": جمع بعيد.

                                                                                                                              (والبغضاء) في الدين، بضم الباء، وفتح الغين والضاد المعجمتين ممدودا، جمع: "بغيض".

                                                                                                                              (في الحبشة) لأنهم كفار، إلا النجاشي: وكان يستخفي بإسلامه عن قومه، ويوري لهم.

                                                                                                                              [ ص: 540 ]

                                                                                                                              (وذلك في الله، وفي رسوله صلى الله عليه) وآله (وسلم) أي: لأجلهما، وطلب رضاهما. (وايم الله! لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت لرسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف) بضم النون فيهما: مبنيين للمفعول.

                                                                                                                              (وسأذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، وأسأله، ووالله! لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك. قال: فلما جاء النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم) تأكيد لضمير الخفض (-أهل السفينة- هجرتان): هجرة من مكة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة.

                                                                                                                              وعند ابن سعد بإسناد صحيح، عن الشعبي: (قال: قالت أسماء: يا رسول الله! إن رجالا يفتخرون علينا، ويزعمون: أنا لسنا من المهاجرين الأولين. فقال: "بل لكم هجرتان: هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك").

                                                                                                                              (قالت) أي أسماء: (فلقد رأيت أبا موسى، وأصحاب السفينة: يأتونني أرسالا) بفتح الهمزة. أي: أفواجا؛ فوجا بعد فوج، وناسا بعد ناس.

                                                                                                                              [ ص: 541 ] يقال: "أورد إبله أرسالا" أي: متقطعة، متتابعة، و"أوردها عراكا" أي: مجتمعة.

                                                                                                                              (يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم: مما قال لهم رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم. قال أبو بردة) ليس هو أخا لأبي موسى.

                                                                                                                              (فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى) الأشعري (وإنه ليستعيد هذا الحديث مني).

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: فضيلة ظاهرة لجعفر بن أبي طالب. ومنقبة باهرة لأسماء بنت عميس "زوجته".

                                                                                                                              وفيه: أن لهما: "ثواب هجرتين" وأنهما من المهاجرة السابقة.




                                                                                                                              الخدمات العلمية