الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة عبدين ، كل واحد منهما يساوي ألفا ، فأعتقهما المضارب فعتقه باطل عندنا ، وعند زفر - رحمه الله - نافذ في ربع كل واحد منهما ، وقيل على قول أبي يوسف ومحمد - رحمه الله - : ينبغي أن يكون الجواب كذلك ; بناء على أصلهما أن الرقيق يقسم قسمة واحدة فكان هذا بمنزلة جنس واحد من المال فيملك المضارب حصته من الربح ، وعند أبي حنيفة - رحمه الله - لا يجري في الرقيق قسمة الجبر فيستسعى كل واحد من العبدين على حدته ، وكل واحد منهما مشغول برأس المال ، والأصح عند علمائنا الثلاثة - رحمهم الله - أن لا ينفذ عتق المضارب في شيء منها ; لأنهما يريان قسمة الجبر على الرقيق عند إمكان اعتبار المعادلة إذا رأى القاضي النظر في ذلك ، فعند عدم هذا الشرط كل واحد منهما معتبر على حدة ، لا فضل في كل واحد منهما على رأس المال فلا ينفذ عتق المضارب في شيء منها ، فزفر - رحمه الله - يقول : العبدان في حكم المضاربة كعبد واحد ، ورأس المال ألف درهم فيتيقن بوجود الفضل فيهما على رأس المال ; فينفذ عتق المضارب في حصته ، وهو الربع كما في العبد الواحد .

( ألا ترى ) أنه لو أعتقهما رب المال كان ضامنا حصة المضارب خمسمائة ، فإذا ظهر نصيب المضارب في حق وجوب الضمان له عند إعتاق رب المال فلأن يظهر نصيبه في تنفيذ العتق كان أولى .

ولنا أن بإعتاق رب المال إياهما يصل إليه رأس المال ; فيظهر الفضل ، فأما بإعتاق المضارب إياهما لا يصل إلى رب المال شيء ، ولا فضل في واحد منهما على رأس المال فيعتبر كل واحد منهما على حدة ، كأنه ليس معه غيره ، فلا ينفذ عتق المضارب في واحد منهما يوضحه أن للمضارب هنا حقا يتقرر عند وصول رأس المال إلى رب المال لا قبله .

( ألا ترى ) أنه لو هلك أحدهما كان الباقي كله لرب المال برأس ماله ، وباعتبار الحق يجب الضمان ، ولكن لا ينفذ العتق ، وإنما ينفذ باعتبار الملك ، ولا ملك له في واحد منهما عند الإعتاق ; فلهذا لا ينفذ عتقه ، وإن زادت قيمتهما بعد ذلك كان العتق باطلا أيضا ; لأنه إنما يملك نصيبه الآن حين ظهر الفضل فيهما على رأس المال بزيادة قيمتهما ، ومن أعتق ما لا يملك ، ثم ملك لا ينفذ عتقه ، ولو أعتقهما رب المال معا عتقا ; لأن كل واحد منهما ملكه لكون كل واحد منهما مشغولا بملك رأس المال ، وألف ربح فيضمن حصة المضارب من ذلك وهو [ ص: 112 ] خمسمائة موسرا كان أو معسرا ولا سعاية على العبد عندهم جميعا ; لأن كل واحد منهما عتق كله بإعتاق المالك إياه فلا يلزمه السعاية ، ورب المال صار متلفا حق المضارب من الربح بالعتق ; فيضمن له موسرا كان أو معسرا .

فإن أعتق أحدهما قبل صاحبه عتق الأول كله ، وولاؤه له ويعتق من الثاني نصفه ; لأنه حين نفذ عتقه في الأول منهما ، قد وصل إليه كمال رأس ماله وبقي العبد الآخر ربحا ، والربح مشترك بينهما نصفان فهو بإعتاق الثاني ، أعتق عبدا مشتركا بينه وبين غيره ، وحكم هذا في الخيار ، والاستسعاء ، والتضمين معروف ، ولو كان المضارب اشترى بها عبدين يساوي أحدهما ألفين والآخر ألفا فأعتقهما المضارب معا ، أو متفرقين وهو موسر فعتقه في دين قيمته ألف درهم باطل ; لأنه لا فضل في قيمته على رأس المال ، فلا يملك هو شيئا منه ، وأما الذي قيمته ألفان فالمضارب مالك لربعه حين أعتقه فيعتق منه ربعه ، ثم باع الذي قيمته ألف درهم فيستوفي رب المال من ذلك رأس ماله ; لأن رأس المال يحصل من شراء الأموال ، وذلك مالية العبد الذي لقي فيه عتقه بطريق البيع ، فقد تعذر البيع في معتق العبد فإذا وصل إليه رأس ماله ظهر أن العبد الثاني كله ربح ، وأن نصيب المال منه ألف درهم فيضمن المضارب ذلك لرب المال إن كان موسرا ، ويرجع بها على العبد في قول أبي حنيفة ويستسعيه أيضا في خمسمائة تمام نصيبه ; لأنه حين أعتق ما كان يملك منه إلا الربع ، فإن حدث له ملك في ربع آخر بعد ذلك بأن وصل إلى رب المال رأس ماله لا ينفذ ذلك العتق فيه ; فلهذا يستسعيه في هذا الربع لتتميم العتق .

ولو لم يعتقهما المضارب ، وأعتقهما رب المال في كلمة واحدة ، فالعبد الذي قيمته ألف جزء من مال رب المال ، ولا سعاية عليه ، وأما العبد الذي قيمته ألفان فثلاثة أرباعه جزء من مال رب المال ; لأن عتقه إنما نفذ فيه بقدر ملكه فيهما وقت الإعتاق ، وقد كان مالكا جميع العبد الأوكس ; لأنه لا فضل فيه على رأس المال وثلاثة أرباع الأرفع فينفذ عتقه في ذلك القدر ، وأما الربع الباقي فإن كان رب المال موسرا فالمضارب في قول أبي حنيفة - رحمه الله - بالخيار : إن شاء أعتق ذلك الربع ، وإن شاء استسعى العبد فيه ، وإن شاء ضمنه رب المال ويرجع به رب المال على العبد .

وإن كان معسرا : فإن شاء أعتق ، وإن شاء استسعى ، وهذا ظاهر وضمن المضارب أيضا رب المال تمام حصته من الربح ، وذلك خمسمائة موسرا كان أو معسرا ; لأنه بالإعتاق صار متلفا مقدار ألفين وخمسمائة : ألف من ذلك رأس ماله ، وألف وخمسمائة ربح ، وقد وصل إلى [ ص: 113 ] المضارب خمسمائة ، إما بالتضمين أو بالاستسعاء فيسلم مثله لرب المال بقي ألف درهم بما أنفقه : فنصفها حصة المضارب ; فلهذا غرم له خمسمائة موسرا كان أو معسرا .

والحاصل أن كل شيء زاد به نصيب المضارب بعد عتق رب المال فالضمان فيه على رب المال ، ولا ضمان فيه على العبد ، وكل ما كان الملك فيه ظاهرا للمضارب وقت إعتاق رب المال ، فالحكم فيه بالتضمين والاستسعاء يختلف باليسار والإعسار ، كما بينا ، ثم رب المال لا يرجع على العبد بما ضمن للمضارب من هذه الخمسمائة الأخرى ; لأنه التزم ذلك بالإتلاف فإن كان رب المال أعتق الذي قيمته ألفان أولا عتق منه ثلاثة أرباعه لما بينا ، ثم تبين بوصول رأس المال إلى رب المال أن الآخر كله ربح مشترك بينهما فإنما ينفذ عتق رب المال في نصفه فالحكم فيه بمنزلة الحكم في العبد المشترك يعتقه أحد الشريكين .

وإن كان أعتق الذي قيمته ألف درهم أولا عتق الأول كله وصار رب المال مستردا جميع رأس ماله فيظهر أن الآخر كله ربح ، وأنه مشترك بينهما ، وإنما ينفذ عتق رب المال في نصفه وللمضارب الخيار في نصيبه ، كما بينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية