الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 428 ] ذكر الصلاة على حمزة وقتلى أحد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجي ببردة ، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم ، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة . وهذا غريب وسنده ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال السهيلي : ولم يقل به أحد من علماء الأمصار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر : إنه ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ آل عمران : 152 ] فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة ; سبعة من الأنصار واثنين من قريش وهو عاشرهم ، فلما رهقوه قال : رحم الله رجلا ردهم عنا قال : فقام رجل من الأنصار [ ص: 429 ] فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رهقوه أيضا قال : رحم الله رجلا ردهم عنا . فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : ما أنصفنا أصحابنا . فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : الله أعلى وأجل . فقالوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم . ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا ، ويوم نساء ويوم نسر ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا سواء ، أما قتلانا فأحياء يرزقون ، وقتلاكم في النار يعذبون . قال أبو سفيان : قد كانت في القوم مثلة ، وإن كانت لعن غير ملأ منا ، ما أمرت ولا نهيت ، ولا أحببت ولا كرهت ، ولا ساءني ولا سرني . قال : فنظروا ، فإذا حمزة قد بقر بطنه ، وأخذت هند كبده فلاكتها ، فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أأكلت منه شيئا ؟ قالوا : لا . قال : ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار . قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه ، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه ، فرفع الأنصاري ، وترك حمزة ثم جيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه ، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة . تفرد به أحمد . وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة [ ص: 430 ] عطاء بن السائب . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والذي رواه البخاري أثبت ، حيث قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، أن جابر بن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ، ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير إلى أحد قدمه في اللحد وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة . وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصل عليهم ، ولم يغسلوا . تفرد به البخاري دون مسلم . ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد : حدثنا محمد ، يعني ابن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري ، عن ابن جابر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد : فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة . ولم يصل عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير ، كما قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا زكريا بن عدي ، [ ص: 431 ] أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين ، كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : إني بين أيديكم فرط ، وأنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض ، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال : فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه البخاري في مواضع أخر ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأموي : حدثني أبي ، حدثنا الحسن بن عمارة ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : قالت عائشة : خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر ، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لبث قليلا يشهد الهيجا حمل



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالت : فنظرنا ، فإذا أسيد بن حضير ثم مكثنا بعد ذلك ، فإذا بعير قد أقبل ، عليه امرأة بين وسقين . قالت : فدنونا منها ، فإذا هي امرأة عمرو بن [ ص: 432 ] الجموح فقلنا لها : ما الخبر ؟ قالت : دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ من المؤمنين شهداء ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا . ثم قالت : لبعيرها : حل . ثم نزلت ، فقلنا لها : ما هذا ؟ قالت : أخي وزوجي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن إسحاق : وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه ، وكان أخاها لأبيها وأمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام : القها فأرجعها ; لا ترى ما بأخيها فقال لها : يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي . قالت : ولم ، وقد بلغني أنه مثل بأخي ، وذلك في الله ؟ ! فما أرضانا ما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله . فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك ، قال : خل سبيلها . فأتته فنظرت إليه ، وصلت عليه ، واسترجعت واستغفرت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن ، ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش - وأمه أميمة بنت عبد المطلب - وكان قد مثل به ، غير أنه لم يبقر عن كبده ، رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال السهيلي : وكان يقال له : المجدع في الله . قال : وذكر سعد أنه هو [ ص: 433 ] وعبد الله بن جحش دعوا بدعوة فاستجيبت لهما ; فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه ، فكان ذلك ، ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله ، فكان ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الزبير بن بكار أن سيفه يومئذ انقطع ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا ، فصار في يد عبد الله بن جحش سيفا يقاتل به ، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار . وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر . وقد تقدم في " صحيح البخاري " أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد ، بل في الكفن الواحد وإنما أرخص لهم في ذلك ; لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحدا ، ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن ، وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد ، كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام ، والد جابر وبين عمرو بن الجموح ; لأنهما كانا متصاحبين ، ولم يغسلوا ، بل تركهم بجراحهم ودمائهم ، كما روى ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على القتلى يوم أحد قال : أنا شهيد على هؤلاء ، إنه ما من جريح يجرح في الله ، إلا والله يبعثه يوم [ ص: 434 ] القيامة يدمى جرحه ، اللون لون دم ، والريح ريح مسك . قال : وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : ما من جريح يجرح في الله ، إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك . وهذا الحديث ثابت في " الصحيحين " من غير هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وقال : ادفنوهم بدمائهم وثيابهم . ورواه أبو داود ، وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أبو داود في " سننه " : حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم ، عن حميد بن هلال ، عن هشام بن عامر ، أنه قال : جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا : قد أصابنا قرح وجهد ، فكيف تأمرنا ؟ فقال : احفروا وأوسعوا ، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد . قيل : [ ص: 435 ] يا رسول الله ، فأيهم يقدم ؟ قال : أكثرهم قرآنا . ثم رواه من حديث الثوري ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال ، عن هشام بن عامر فذكره ، وزاد " وأعمقوا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : ادفنوهم حيث صرعوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، وعتاب ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني ، حدثني أبي ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : استشهد أبي بأحد فأرسلني أخواتي إليه بناضح لهن ، فقلن : اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل ، فادفنه في مقبرة بني سلمة . فقال : فجئته وأعوان لي ، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بأحد فدعاني فقال : " والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته " فدفن مع أصحابه بأحد . تفرد به أحمد . [ ص: 436 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح ، عن جابر بن عبد الله أن قتلى أحد حملوا من مكانهم ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه أبو داود ، والنسائي من حديث الثوري ، والترمذي من حديث شعبة ، والنسائي أيضا ، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة كلهم عن الأسود بن قيس به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا نبيح العنزي ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم ، وقال لي أبي عبد الله : يا جابر ، لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا ، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي ، لأحببت أن تقتل بين يدي . قال : فبينا أنا في النظارين ، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي ، عادلتهما على ناضح ، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا ، إذ لحق رجل ينادي : ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى ، فتدفنوها في [ ص: 437 ] مصارعها حيث قتلت . فرجعنا بهما ، فدفناهما حيث قتلا ، فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال : يا جابر بن عبد الله ، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا ، فخرج طائفة منه . فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته ، لم يتغير إلا ما لم يدع القتل ، أو القتيل . ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه ، كما هو ثابت في " الصحيحين " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة ، استصرخناهم إليهم ، فأتيناهم فأخرجناهم ، فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما . وفي رواية ابن إسحاق ، عن جابر قال : فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس . وذكر الواقدي أن معاوية لما أراد أن يجري العين ، نادى مناديه : من كان له قتيل بأحد فليشهد . قال جابر : فحفرنا عنهم ، فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته ، ووجدت جاره في قبره عمرو [ ص: 438 ] بن الجموح ، ويده على جرحه فأزيلت عنه ، فانبعث جرحه دما . ويقال : إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك ، رضي الله عنهم أجمعين ، وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا حسين المعلم ، عن عطاء ، عن جابر قال : لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي : ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك ، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن علي دينا فاقض ، واستوص بأخواتك خيرا . فأصبحنا فكان أول قتيل ، فدفنت معه آخر في قبره ، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر ، فاستخرجته بعد ستة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته ، هنية غير أذنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في " الصحيحين " من حديث شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر أنه لما قتل أبوه ، جعل يكشف عن الثوب ويبكي ، فنهاه الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكيه أو لا تبكيه ، لم تزل الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه . وفي رواية ، أن عمته هي الباكية . [ ص: 439 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا فيض بن وثيق البصري ، حدثنا أبو عبادة الأنصاري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر : يا جابر ، ألا أبشرك ؟ قال : بلى ، بشرك الله بالخير . فقال أشعرت أن الله أحيا أباك فقال : تمن علي عبدي ما شئت أعطكه . قال : يا رب ، ما عبدتك حق عبادتك ، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا ، فأقتل مع نبيك ، وأقتل فيك مرة أخرى . قال : إنه قد سلف مني أنه إليها لا يرجع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الإسفراييني ، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد ، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال : سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمي قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لي أراك مهتما ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، قتل أبي ، وترك دينا وعيالا . فقال : ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء [ ص: 440 ] حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا ، وقال له : يا عبدي ، سلني أعطك . فقال : أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا . فقال : إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب ، فأبلغ من ورائي . فأنزل الله : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآية . [ آل عمران : 169 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن إسحاق : وحدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، سمعت جابرا يقول : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أبشرك يا جابر ؟ قال : قلت : بلى . قال : إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ، ثم قال له : ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال : أي رب ، أحب أن تردني إلى الدنيا ، فأقاتل فيك ، فأقتل مرة أخرى . وقد رواه أحمد ، عن علي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي ، عن ابن عقيل ، عن جابر وزاد ، فقال الله : إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن عبد الله ، عن جابر [ ص: 441 ] بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا ذكر أصحاب أحد : أما والله لوددت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل . يعني سفح الجبل . تفرد به أحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة ، عن قطن بن وهب ، عن عبيد بن عمير ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه ، فوقف عليه ، فدعا له ثم قرأ : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية . [ الأحزاب : 23 ] قال : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فأتوهم وزوروهم ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة ; إلا ردوا عليه . وهذا حديث غريب ، وروي عن عبيد بن عمير مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب ، عن عباد بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء ، فإذا أتى فرضة الشعب قال : " السلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار " ثم كان [ ص: 442 ] أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله ، وكان عثمان بعد عمر يفعله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الواقدي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم كل حول ، فإذا تفوه الشعب يقول : السلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار . ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول ، ثم عمر ثم عثمان ، وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم ، فتبكي عندهم وتدعو لهم ، وكان سعد يسلم ، ثم يقبل على أصحابه فيقول : ألا تسلمون على قوم يردون عليكم . ثم حكى زيارتهم ، عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمر وأم سلمة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أبي الدنيا : حدثني إبراهيم ، حدثني الحكم بن نافع ، حدثنا العطاف بن خالد ، حدثتني خالتي قالت : ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي ، وما في الوادي داع ولا مجيب ، إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي ، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي : السلام عليكم . قالت : فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض ، أعرفه كما أعرف أن الله عز وجل خلقني [ ص: 443 ] وكما أعرف الليل والنهار فاقشعرت كل شعرة مني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن إسحاق : عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب إخوانكم يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ; لئلا ينكلوا عن الحرب ، ولا يزهدوا في الجهاد ؟ فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى مسلم ، والبيهقي من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرواحهم كطير خضر ، تسرح في أيها شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش . قال : فبينما هم كذلك ، إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة ، فقال : سلوني ما شئتم . فقالوا : يا ربنا ، وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ؟ ! فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا ، نقتل في سبيلك . قال فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية