الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1214 ص: قال أبو جعفر - رحمه الله -: فلما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن من ذكرنا بعده ترك الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم ثبت أنها ليست من القرآن، ولو كانت من القرآن لوجب أن يجهر بها كما يجهر بالقرآن سواها ألا ترى أن بسم الله الرحمن الرحيم التي في النمل يجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن؛ لأنها من القرآن، فلما ثبت أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها، ويجهر بما سواها من القرآن؛ ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أن يخافت بها وأن يسر ، كما يسر التعوذ والافتتاح وما أشبههما، وقد رأيناها أيضا مكعوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير فاتحة الكتاب ليست بآية ثبت أيضا أنها في فاتحة الكتاب ليست بآية وهذا الذي بينا من نفي بسم الله الرحمن الرحيم أن تكون من فاتحة الكتاب، ومن نفي الجهر بها في الصلاة، هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بذلك إلى بيان الحكم الذي ظهر من الأحاديث والآثار المذكورة من ترك الجهر بالبسملة، فبين ذلك بوجهين:

                                                الأول: أنه لما ثبت عن رسول الله -عليه السلام-، وعن جماعة من الصحابة من بعده، وجماعة من التابعين من بعدهم ممن ذكروا في هذا الباب؛ ترك الجهر بالبسملة ، ثبت أنها ليست من القرآن؛ لأنها لو كانت من القرآن لوجب الجهر بها كما يجهر بالقرآن حين يجهر به، ألا ترى أن بسم الله الرحمن الرحيم التي في سورة النمل كيف يجهر بها لأنها من القرآن، فيجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن، وقال أبو بكر بن [ ص: 611 ] العربي : ويكفيك أنها ليست بقرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه، فإن إنكار القرآن كفر.

                                                فإن قيل: إذا لم تكن قرآنا لكان مدخلها في القرآن كافرا.

                                                قلت: الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن، فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد، ولما ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أيضا أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها لكونها ليست من القرآن، فكذلك ينبغي أن يخافت بالبسملة ويسر بها كما يسر بالتي قبل فاتحة الكتاب، كالتعوذ والاستفتاح وما أشبهها من الأدعية التي وردت قراءتها قبلها.

                                                الوجه الثاني: أنها لما كانت مكتوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير الفاتحة ليست بآية منها؛ فالنظر على ذلك أن لا تكون البسملة أيضا من الفاتحة.

                                                فإن قيل: نحن نقول: إنها آية من غير الفاتحة فكذلك نقول: إنها آية من الفاتحة.

                                                قلت: هذا قول لم يقل به أحد، ولهذا قالوا: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد؛ لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها من الفاتحة أو ليست بآية منها، ولم يعدها أحد آية من سائر السور.

                                                فإن قيل: قد نقلوا إلينا جميع ما في المصحف على أنه قرآن، وذلك كاف في إثباتها في السور في مواضعها المذكورة في المصحف.

                                                قلت: إنما نقلوا إلينا أنها منه، وإنما الكلام بيننا وبينكم في أنها من هذه السور التي هي مكتوبة في أوائلها، ونحن نقول بأنها من القرآن أثبتت هذه المواضع، لا على أنها من السور، وليس إيصالها بالسورة في المصحف وقراءتها معها يوجبان أن تكون منها؛ لأن القرآن كله متصل بعضه ببعض.

                                                [ ص: 612 ] فإن قيل: قد قلت أولا بأنها ليست من القرآن، وأقمت عليه برهانا، ثم تقول ها هنا: ونحن نقول بأنها من القرآن، أثبتت في هذه المواضع لا على أنها من السور.

                                                قلت: معنى قولنا: إنها ليست من القرآن: ليست من الفاتحة ولا من آيات كل سورة هي مكتوبة عليها، ومعنى قولنا: إنها من القرآن كونها آية مفردة مستقلة بذاتها أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من أول كل سورة، ولكن الذي يفهم من عبارة الطحاوي وأبي بكر بن العربي أنها ليست من القرآن مطلقا، وإنما هي لابتداء القراءة والفصل بين السورتين ، وأما التي في سورة النمل فلا خلاف فيه لأحد أنها من القرآن، ولكنها ليست بآية كاملة؛ لأن الآية الكاملة من قوله: إنه من سليمان إلى آخره.

                                                وروي أنه -عليه السلام-: كان يكتب في أوائل الكتب: باسمك اللهم حتى نزل: بسم الله مجراها ومرساها فكتب بسم الله، ثم نزل قوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب فوقه الرحمن، فنزلت قصة سليمان -عليه السلام - فكتبها حينئذ".

                                                وقال الشعبي ومالك وقتادة وثابت : "إن النبي -عليه السلام- لم يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل" .

                                                والحاصل أن مذهب المحققين أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة، في أول كل سورة كما تلاها النبي -عليه السلام- حين أنزلت عليه: إنا أعطيناك الكوثر وهذا قول

                                                [ ص: 613 ] ابن المبارك وداود ، وهو المنصوص عن أحمد ، وبه قالت جماعة من الحنفية ، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة .

                                                قلت: ولذلك قال الشيخ حافظ الدين النسفي : وهي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهذا القول فيه الجمع بين الأدلة، وعن ابن عباس : "كان النبي -عليه السلام- لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه: بسم الله الرحمن الرحيم وفي رواية: "لا يعرف انقضاء السورة" .

                                                رواه أبو داود ، والحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين وأما تلاوة النبي -عليه السلام- حين أنزلت عليه: إنا أعطيناك الكوثر

                                                فهو ما رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي : عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها، قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة" .

                                                فإن قيل: لو لم تكن التسمية من أول كل سورة لما قرأها النبي -عليه السلام- بالكوثر.

                                                قلت: لا نسلم أنه يدل على أنها من أول كل سورة، بل يدل على أنها آية مفردة، والدليل على ذلك ما ورد في حديث بدء الوحي: "فجاءه الملك فقال له: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ - ثلاث مرات - ثم قال له: اقرأ باسم ربك الذي خلق " فلو كانت البسملة من أول كل سورة، لقال: اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ بسم ربك .

                                                [ ص: 614 ] ويدل على ذلك أيضا ما رواه أصحاب السنن الأربعة: عن شعبة ، عن قتادة ، عن عباس الجشمي ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك " .

                                                وقال الترمذي : حديث حسن.

                                                ورواه أحمد في "مسنده" ، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" وصححه.

                                                وعياش الجهني يقال: إنه عياش بن عبد الله ، ذكره ابن حبان في "الثقات" ولم يتكلم فيه أحد فيما علمنا، ولو كانت البسملة من أول كل سورة لافتتحها -عليه السلام- بها، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية