الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            الحالة الخامسة ، إذا اختلفا في أصل الوكالة ، فقال : وكلتني . فأنكر الموكل ، فالقول قول الموكل ; لأن الأصل عدم الوكالة ، فلم يثبت أنه أمينه ليقبل قوله عليه .

                                                                                                                                            ولو قال : وكلتك ، ودفعت إليك مالا . فأنكر الوكيل ذلك كله ، أو اعترف بالتوكيل ، وأنكر دفع المال إليه ، فالقول قوله ; لذلك . ولو قال رجل لآخر : وكلتني أن أتزوج لك فلانة ، بصداق كذا ، ففعلت . وادعت المرأة ذلك ، فأنكر الموكل ، فالقول قوله . نص عليه أحمد ، فقال : إن أقام البينة ، وإلا لم يلزم الآخر عقد النكاح . قال أحمد : ولا يستحلف .

                                                                                                                                            قال القاضي : لأن الوكيل يدعي حقا لغيره . فأما إن ادعته المرأة ، فينبغي أن يستحلف ; لأنها تدعي الصداق في ذمته ، فإذا حلف لم يلزمه الصداق ، ولم يلزم [ ص: 62 ] الوكيل منه شيء ; لأن دعوى المرأة على الموكل ، وحقوق العقد لا تتعلق بالوكيل . ونقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد ، أن الوكيل يلزمه نصف الصداق ; لأن الوكيل في الشراء ضامن للثمن ، وللبائع مطالبته به ، كذا هاهنا . والأول أولى ; لما ذكرناه .

                                                                                                                                            ويفارق الشراء ; لأن الثمن مقصود البائع ، والعادة تعجيله وأخذه من المتولي للشراء ، والنكاح يخالفه في هذا كله ، ولكن إن كان الوكيل ضمن المهر ، فلها الرجوع عليه بنصفه ; لأنه ضمنه عن الموكل ، وهو مقر بأنه في ذمته . وبهذا قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي .

                                                                                                                                            وقال محمد بن الحسن : يلزم الوكيل جميع الصداق ; لأن الفرقة لم تقع بإنكاره ، فيكون ثابتا في الباطن ، فيجب جميع الصداق . ولنا ، أنه يملك الطلاق ، فإذا أنكر فقد أقر بتحريمها عليه ، فصار بمنزلة إيقاعه لها تحرم به . قال أحمد : ولا تتزوج المرأة حتى يطلق ، لعله يكون كاذبا في إنكاره . وظاهر هذا تحريم نكاحها قبل طلاقها ; لأنها معترفة بأنها زوجة له ، فيؤخذ بإقرارها ، وإنكاره ليس بطلاق .

                                                                                                                                            وهل يلزم الموكل طلاقها ؟ يحتمل أن لا يلزمه ; لأنه لم يثبت في حقه نكاح ، ولو ثبت لم يكلف الطلاق . ويحتمل أن يكلفه ، لإزالة الاحتمال ، وإزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه . فأشبه النكاح الفاسد . ولو ادعى أن فلانا الغائب وكله في تزوج امرأة ، فتزوجها له ، ثم مات الغائب ، لم ترثه المرأة ، إلا أن يصدقه الورثة ، أو يثبت ببينة . وإن أقر الموكل بالتوكيل في التزويج ، وأنكر أن يكون الوكيل تزوج له ، فهاهنا الاختلاف في تصرف الوكيل ، والقول قول الوكيل فيه ، فيثبت التزويج هاهنا .

                                                                                                                                            وقال القاضي : لا يثبت . وهو قول أبي حنيفة ، لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه ، لكونه لا ينعقد إلا بها . وذكر أن أحمد نص عليه . وأشار إلى نصه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة من أصلها . ولنا ، أنهما اختلفا في فعل الوكيل ما أمر به ، فكان القول قوله ، كما لو وكله في بيع ثوب فادعى أنه باعه ، أو في شراء عبد بألف فادعى أنه اشتراه به .

                                                                                                                                            وما ذكره القاضي من نص أحمد فيما إذا أنكر الموكل الوكالة ، فليس بنص هاهنا ; لاختلاف أحكام الصورتين وتباينهما ، فلا يكون النص في إحداهما نصا في الأخرى . وما ذكره من المعنى لا أصل له ، فلا يعول عليه . ولو غاب رجل ، فجاء رجل آخر إلى امرأته ، فذكر أن زوجها طلقها وأبانها ، ووكله في تجديد نكاحها بألف . فأذنت له في نكاحها ، فعقد عليها ، وضمن الوكيل الألف ، ثم جاء زوجها فأنكر هذا كله ، فالقول قوله ، والنكاح الأول بحاله .

                                                                                                                                            وقياس ما ذكرناه أن المرأة إن صدقت الوكيل ، لزمه الألف ، إلا أن يبينها زوجها قبل دخوله بها . وحكي ذلك عن مالك ، وزفر . وحكي عن أبي حنيفة ، والشافعي ، أنه لا يلزم الضامن شيء ; لأنه فرع عن المضمون عنه ، ولم يلزم المضمون عنه شيء ، فكذلك فرعه .

                                                                                                                                            ولنا ، أن الوكيل مقر بأن الحق في ذمة المضمون عنه ، وأنه ضامن عنه ، فلزمه ما أقر به ، كما لو ادعى على رجل أنه ضمن له ألفا على أجنبي ، فأقر الضامن بالضمان وصحته وثبوت الحق في ذمة المضمون عنه ، وكما لو ادعى شفعة على إنسان في شقص اشتراه ، فأقر البائع بالبيع ، وأنكره المشتري ، فإن الشفيع يستحق الشفعة في أصح الوجهين . وإن لم تدع المرأة صحة ما ذكره الوكيل ، فلا شيء عليه .

                                                                                                                                            ويحتمل أن من أسقط عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة ، ومن أوجبه أوجبه في الصورة الأخرى ، فلا يكون فيها اختلاف . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية