الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1782 1783 1784 1785 1786 1787 1788 ص: فلما كان هذا حكم التطوع، وقد جعلت ركعتا الفجر من أشرف التطوع وأكد أمرهما ما لم يؤكد أمر غيرهما من التطوع، وروي فيهما عن النبي - عليه السلام - ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، قال: ثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن محمد بن يزيد بن قنفذ ، عن ابن سيلان ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: " لا تتركوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل". .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا مسدد ، قال: ثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال: حدثني عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " إن رسول الله - عليه السلام - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر".

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، قال: ثنا حفص ، عن ابن جريج ، عن عطاء ... ، فذكر مثله بإسناده.

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال: ثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". .

                                                فلما كانتا أشرف التطوع كان أولى بهما أن يفعل فيهما أشرف ما يفعل في التطوع.

                                                وقد حدثني ابن أبي عمران ، قال: حدثني محمد بن شجاع ، عن الحسن بن زياد ، قال: سمعت أبا حنيفة -رحمه الله- يقول: "ربما قرأت في ركعتي الفجر جزأين من القرآن".

                                                فبهذا نأخذ، لا بأس أن تطال فيهما القراءة، وهي عندنا أفضل من التقصير; لأن ذلك من طول القنوت الذي فضله رسول الله - عليه السلام - في التطوع على غيره.

                                                وقد روي ذلك أيضا عن إبراهيم:

                                                [ ص: 139 ] حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر ، (ح).

                                                وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قالا: ثنا هشام الدستوائي، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم قال: "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا الركعتين اللتين قبل الفجر. قلت لإبراهيم : أطيل القراءة فيهما؟ قال: نعم إن شئت".

                                                التالي السابق


                                                ش: جواب "لما" هذه و"لما" الأخرى المعطوفة عليها هو قوله: "كان أولى بهما أن يفعل فيهما أشرف ما يفعل في التطوع"، و"الواو" في "وقد" جعلت للحال.

                                                قوله: "وروي فيهما" أي في ركعتي الفجر، وأخرج في فضلهما عن اثنين من الصحابة، وهما: أبو هريرة وعائشة - رضي الله عنها -.

                                                أما حديث أبي هريرة: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن سعيد بن سليمان الضبي أبي عثمان الواسطي المعروف بسعدويه، شيخ البخاري وأبي داود .

                                                عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان الواسطي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن إسحاق -ويقال: عبد الله بن إسحاق- المدني، روى له الجماعة البخاري مستشهدا.

                                                عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ بن جدعان التيمي المدني روى له الجماعة سوى البخاري ، عن ابن سيلان -بكسر السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف- عبد ربه بن سيلان، وقيل: هو جابر بن سيلان، وذكر ابن حبان عبد ربه بن سيلان في "الثقات" وقال: عبد ربه بن سيلان، وهو الذي يقال له عبد ربه الدوسي .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مسدد، نا خالد، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن إسحاق المدني- عن ابن زيد ، عن ابن سيلان ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل" انتهى.

                                                [ ص: 140 ] وقد اختلف في هذا الحديث، فقال عبد الحق في "أحكامه" بعد أن ذكره من جهة أبي داود: ليس إسناده بالقوي. وقال ابن القطان في "الوهم والإيهام": علته الجهل بحال ابن سيلان، ولا ندري أهو عبد الله بن سيلان أو جابر بن سيلان ، فجابر بن سيلان يروي عن ابن مسعود، روى عنه محمد بن زيد بن مهاجر كما ذكره ابن أبي حاتم، وذكره الدارقطني فقال: يروي عن أبي هريرة، روى عنه محمد بن زيد بن مهاجر وأيا كان فهو مجهول لا يعرف، وأيضا فعبد الرحمن بن إسحاق هو الذي يقال له عباد المقرئ، قال يحيى القطان: سألت عنه بالمدينة فلم أرهم يحمدونه. وقال أحمد: روى أحاديث منكرة.

                                                قلت: أما عبد الله بن سيلان فقد وثقه ابن حبان كما ذكرنا، وأما عبد الرحمن بن إسحاق فقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين واستشهد به البخاري، وإنما لم يعتمده في مذهبه لأنه كان قدريا فنفوه من المدينة، فأما رواياته فلا بأس بها.

                                                قوله: "ولو طردتكم الخيل" أي الفرسان، ومنه قوله تعالى: وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي بفرسانك ورجالتك، والخيل الخيول أيضا، قال تعالى: والخيل والبغال

                                                فإن قيل: ما جواب لو؟

                                                قلت: محذوف، والتقدير: ولو طردتكم الخيل لا تتركوها، وحذف لدلالة القرينة عليه.

                                                فإن قيل: على ماذا عطف ولو؟

                                                قلت: على المحذوف، والتقدير: لا تتركوا ركعتي الفجر إن لم تطردكم الخيل وإن طردتكم الخيل، وهذا كلام خارج مخرج المبالغة والمعنى لا تتركونهما ولو فرض أنكم في حالة طرد الخيل.

                                                واستدل به أصحابنا أن الرجل إذا انتهى إلى المسجد، والإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى; يصلي ركعتي

                                                [ ص: 141 ] الفجر عند باب المسجد ثم يدخل ولا يتركهما، وأما إذا خشي فوت الفرض فحينئذ يدخل مع الإمام ولا يصلي; لأن فوات الجماعة أعظم والوعيد بالترك ألزم بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين; لأنه يمكن أداؤها في الوقت بعد الفرض في القول الصحيح.

                                                وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عبد الملك بن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح المكي ، عن عبيد بن عمير بن قتادة .

                                                وأخرجه مسلم : حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا يحيى بن سعيد ... إلى آخره، غير أن في روايته: "قبل الصبح".

                                                وأخرجه البخاري : ثنا بيان بن عمرو، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت: "لم يكن النبي - عليه السلام - على شيء من النوافل أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر".

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مسدد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه "قبل الصبح".

                                                قوله:"تعاهدا" أي حفظا ورعاية وملازمة، وبظاهره أخذ الحسن البصري، وقال: إن سنة الصبح واجبة. وعن أشعث: كان الحسن يرى الركعتين قبل الفجر واجبتين.

                                                وقال القرطبي: هذا قول شاذ لا أصل له، والذي عليه جماعة العلماء أنهما سنة.

                                                وقال ابن رشد في "القواعد": اتفقوا على أنهما سنة.

                                                [ ص: 142 ] الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن عبد الله بن نمير الخارفي شيخ البخاري ومسلم ، عن حفص بن غياث النخعي الكوفي ، عن عبد الملك بن جريج ، عن عطاء بن رباح ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا حفص بن غياث ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت رسول الله - عليه السلام - يسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى عتمة".

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا محمد بن عبيد الغبري، ثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة، عن النبي - عليه السلام - قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا صالح بن عبد الله الترمذي، قال: ثنا أبو عوانة ... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه النسائي : أنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "خير من الدنيا" أراد به من شهوات الدنيا وزخارفها وملاذها.

                                                وقوله: "وما فيها" أي خير مما في الدنيا، أراد به كل نوع من الأعمال التي ليست بعبادة ولا فيها أجر، أو خير من الأعمال التي من جنسها مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ ولهذا صارت ركعتا الفجر من أشرف التطوعات واستدلت به طائفة في تأكيد منزلة ركعتي الفجر والترغيب في فعلها، ومن ذلك ذهب الحسن البصري إلى وجوبها.

                                                [ ص: 143 ] واستدل بعضهم بهذا الحديث على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، وهو قول الشافعي في القديم، وفي قوله الجديد الوتر أفضل.

                                                وحكى الرافعي قولا لبعض الشافعية أنهما سواء في الأفضلية.

                                                وحكى الرافعي أيضا عن أبي إسحاق المروزي أن صلاة الليل أفضل من سنة الفجر.

                                                قلت: لا شك أن الوتر أفضل; لأنه ملحق بالفرائض، وسنة الفجر ملحقة بالنوافل وباب النوافل أقصر من باب الفرائض، فافهم.

                                                قوله: "ولقد حدثني ابن أبي عمران ... " إلى آخره، أشار بهذا الكلام إلى أن مذهب أبي حنيفة استحباب طول القراءة في ركعتي الفجر، وأنه أيضا مختاره، وأنه أيضا مختار إبراهيم النخعي، وهو أيضا مختار سعيد بن جبير والحسن البصري ومجاهد .

                                                أما أنه مختار أبي حنيفة فلما رواه عن أحمد بن أبي عمران الفقيه البغدادي ، عن محمد بن شجاع البغدادي ابن الثلجي - بالثاء المثلثة، من أصحاب الحسن بن زياد، كان موصوفا بالزهد والعبادة والتلاوة، مات وهو ساجد في صلاة العصر، وأصحاب الحديث حملوا عليه كثيرا، وأمره إلى الله تعالى، فلا يخلو عن نوع تحامل.

                                                والحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب الإمام أبي حنيفة كان فقيها كبيرا عالما بالروايات وأقوال الناس، ولكن المحدثين تكلموا فيه كثيرا، والله أعلم بحاله، والظاهر أنه تحامل وكيف وقد قال يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد الهروي، ولي القضاء ثم استعفى منه، وكان محبا للسنة واتباعها حتى كان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه اتباعا لقوله - عليه السلام -: "ألبسوهم مما تلبسون".

                                                و"الحزب": ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب في اللغة: النوبة في ورود الماء.

                                                وأما أنه مختار نفسه فلقد أشار إليه بقوله: "فبهذا نأخذ".

                                                [ ص: 144 ] وأما أنه مختار إبراهيم النخعي فلما رواه عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي .

                                                والثاني: عن محمد بن خزيمة ، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي أبي عمر البصري، شيخ البخاري وأبي داود ، عن هشام الدستوائي ... إلى آخره.




                                                الخدمات العلمية