الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                [ ص: 349 ] 1948 ص: فكان أكثر الآثار في هذا الباب هي الموافقة لهذا المذهب الأخير، فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأول، فكان النعمان بن بشير قد أخبر في حديثه أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ويسلم ويسأل، فاحتمل أن يكون النعمان علم من النبي - عليه السلام - السجود بعد كل ركعة، وعلمه من وافقه على أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتين ولم يعلمه الذين قالوا: ركع ركعتين أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد; لما كان من طول صلاته، فتصحيح حديث النعمان هذا مع هذه الآثار هو أن يجعل صلاته كما قال النعمان; ؛ لأن ما روي عن علي 5 وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - يدخل في ذلك ويزيد عليه حديث النعمان ، فهو أولى من كل ما خالفه.

                                                ثم قد شد ذلك ما حكاه قبيصة من قول رسول الله - عليه السلام -: "فإذا كان كذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة فأخبرنا أنه إنما يصلى في الكسوف كما تصلى المكتوبة.

                                                ثم رجعنا إلى قول الذين لم يوقتوا في ذلك شيئا لما رووه عن ابن عباس، فكان قول النبي - عليه السلام - في حديث قبيصة: " : فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" دليلا على أن الصلاة في ذلك موقتة معلومة لها وقت معلوم وعدد معلوم، فبطل بذلك ما ذهب إليه المخالفون لهذا الحديث.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى ترجيح المذهب الأخير وهو المذهب الخامس الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه، أي: فكان أكثر الأحاديث التي وردت في باب صلاة الكسوف هي الموافقة لهذا المذهب الأخير وهو مذهب الفرقة الخامسة; وذلك لأن أحاديث عبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب وأبي بكرة نفيع ، والنعمان بن بشير ، والمغيرة بن شعبة وقبيصة البجلي ، وقبيصة الهلالي; كلها توافق مذهب هؤلاء كما ذكرنا.

                                                قوله: "فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأول" إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين الأحاديث الواردة في هذا الباب المتضادة بعضها بعضا، بيان ذلك أن من جملة رواة

                                                [ ص: 350 ] صلاة الكسوف النعمان بن بشير; فإنه قد أخبر في حديثه أنه - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت، فيدل ذلك على أنه قد علم من النبي - عليه السلام - أنه سجد بعد كل ركوع واحد في كل ركعة من الركعتين كما هو كذلك في سائر الصلوات، وعلمه أيضا كذلك كل من وافقه من الصحابة في نحو روايته أنه صلى ركعتين.

                                                وأما الذين خالفوه وقالوا: إنه ركع ركوعين أو ثلاثا أو أربعا أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد فلم يكونوا علموا ذلك من النبي - عليه السلام -; لأجل ما كان يطول صلاته، فإذا كان الأمر كذلك توجه لنا أن نجعل صلاة النبي - عليه السلام - في الكسوف كما قال النعمان، وتكون روايته أصلا في ذلك; لأن ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - يدخل فيما قاله النعمان; لأن أحاديث الكل تدل على أنه - عليه السلام - قد صلاها ركعتين، ومع هذا يزيد على أحاديثهم حديث النعمان من قوله: "نحوا من صلاتكم هذه فيركع ويسجد" وفي رواية: "كما تصلون ركعة وسجدتين"، وفي رواية: "فجعل يصلي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت"، فإذا كان كذلك يكون الأخذ بحديث النعمان أولى من الأخذ بما خالفه.

                                                فإن قيل: يحتمل أيضا أن يكون قد ركع ركوعين في كل ركعة في حديث النعمان، ولئن سلمنا عدم احتماله ذلك وتعارض حديثه بأحاديث غيره; فالأخذ بأحاديث غيره مثل حديث علي وابن عباس وعائشة أولى لصحتها وشهرتها واشتمالها أيضا على الزيادة التي ليست في حديث النعمان; والزيادة من الثقة مقبولة.

                                                وقد روي عن عروة أنه قيل له: "إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة".

                                                قلت: صريح قول النعمان بن بشير: "صلى في كسوف الشمس نحوا من صلاتكم هذه، فيركع ويسجد" يقطع الاحتمال المذكور، ولا نسلم أولوية الأخذ بأحاديث غيره; لما عللتم بأنها صحيحة مشهورة; لأن حديث النعمان أيضا صحيح مشهور، وقد ذكرنا أن جماعة من العلماء منهم أبو عمر صححوا حديثه هذا، وأما

                                                [ ص: 351 ] الزيادة التي في أحاديث غيره فقد ذكرنا أن رواتها قد ظنوا ذلك لطول قيام النبي - عليه السلام - فيها، وأما الزيادة التي في حديث النعمان فصريحة ليس فيها مجال للظن والوهم، فحينئذ يجب قبول هذه الزيادة لكونها من الثقة.

                                                وأما قول عروة، فقد قال ابن حزم في "المحلى": عروة أحق بالخطأ من أخيه عبد الله الصاحب الذي عمل بعلم، وعروة أنكر ما لم يعلم. وقد ذهب ابن حزم إلى العمل بما صح ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة غير سنة.

                                                قلت: الصواب عندي أيضا أن لا يقال: اختلفوا في صلاة الكسوف، بل تخيروا، فكل واحد منهم تعلق بحديث ورآه أولى من غيره بحسب ما أدى اجتهاده إليه في صحته وموافقته للأصول المعهودة في أبواب الصلاة، فأبو حنيفة تعلق بأحاديث من ذكرناهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ورآها أولى من رواية علي وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - لموافقتها القياس في أبواب الصلاة، على أن في روايتهم احتمالا وهو ما ذكره محمد بن الحسن في "صلاة الأثر" فقال: يحتمل أنه - عليه السلام - أطال الركوع زيادة على قدر ركوع سائر الصلوات، فرفع أهل الصف الأول رءوسهم ظنا منهم أنه - عليه السلام - رفع رأسه من الركوع فمن خلفهم رفعوا رءوسهم، فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله - عليه السلام - راكعا ركعوا فمن خلفهم ركعوا، فلما رفع رسول الله - عليه السلام - رأسه من الركوع رفع القوم رءوسهم ومن خلف الصف الأول ظنوا أنه ركع ركوعين فرووه على حسب ما وقع عندهم، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة - رضي الله عنها - كانت واقفة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فنقلا كما وقع عندهما، فيحمل على هذا توفيقا بين الروايات، انتهى.

                                                وفيه نظر; لأن هذا الذي ذكره يمكن أن يتمشى في رواية من روى ركوعين، وأما من روى ثلاث ركوعات أو أربع ركوعات فكيف يتمشى فيه هذا؟! وقد ذكرنا

                                                [ ص: 352 ] أنه روي عن أبي بن كعب أنه روى عن النبي - عليه السلام - عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات، ففي هذا ما ذكره من المحال على ما لا يخفى، ولئن سلمنا نقل عائشة وابن عباس لكونهما في صف النساء والصبيان فلا نسلم ذلك في نقل عبد الله بن عمر وغيره.

                                                وقد قال مناظر لمحمد بن الحسن -رحمه الله-: ألم تعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أولى; لأن الجائي بها أثبت من الذي نقص الحديث؟ قال: نعم، قال المناظر: ففي حديثنا من الزيادة ما ينبغي أن يرجع إليه، قال محمد: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين. قال المناظر: قبلت، فالنعمان يزعم أن النبي - عليه السلام - صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجل الشمس فقام فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، أفنأخذ به؟ قال: لا. قلت: فأنت إذا تخالف قول النعمان وحديثنا. انتهى.

                                                قلت: لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواء: أنت تأخذ بحديث عائشة وجابر وابن عباس؟ فإن قال نعم. قيل له: قد صح عنهم ما ذكر من ثلاث ركعات في كل ركعة وست ركعات، وهذه زيادة، أتأخذ بها؟ فإن قال: لا. قيل له: فأنت إذا تخالف ما ذكرت أنك اعتمدته، وتخالف أيضا ما ذهبنا إليه من حجتنا.

                                                وقد رأينا حديث أبي بن كعب حديثا فيه زيادة.

                                                رواه الحكم : من حديث أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال: "انكسفت الشمس فصلى النبي - عليه السلام -، فقرأ سورة من الطول وركع خمس ركعات وسجد سجدتين"، وقال: الشيخان لم يخرجا لأبي جعفر الرازي، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة ورواته صادقون، وصححه أيضا أبو محمد الأشبيلي، وأقره الحافظان ابن القطان وابن المواق; فكان ينبغي أن يعمل بها من قال بقبول الزيادة من الثقة.

                                                [ ص: 353 ] قوله: "ثم قد شد ذلك" أي قد قوى وأيد ما ذكرناه من ترجيح حديث النعمان: ما حكاه قبيصة الهلالي من قوله - عليه السلام -: "فإذا كان كذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" فإنه أخبر في حديثه أن الذي يصلي في الكسوف هو كالذي يصلي من المكتوبة، والباقي ظاهر، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية