وما أحسن ما قاله فيما حكاه عنه الإمام الشافعي أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد ، فليعرضها على نصوص الكتاب ، فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر ، ثم الآحاد ، فإن أعوزه لم يخض في القياس ، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب ، فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات ، من قياس ، وخبر ، فإن لم يجد مخصصا حكم به ، وإن لم يعثر على ظاهر ، من كتاب ولا سنة ، نظر إلى المذاهب ، فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع ، وإن لم يجد إجماعا خاض في القياس ، ويلاحظ القواعد الكلية أولا ، ويقدمها على الجزئيات ، كما في القتل بالمثقل ، فتقدم قاعدة " الردع " على مراعاة الاسم ، فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص ، ومواقع الإجماع ، فإن وجدها في معنى واحد ألحق به ، وإلا انحدر به القياس ، فإن أعوزه تمسك بالشبه ، ولا يعول على طرد انتهى . الغزالي :
وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية ، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول ، فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى .
قال الماوردي : - ينقسم إلى ثمانية أقسام : الاجتهاد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم
[ ص: 738 ] ( أحدها ) : ، كاستخراج علة الربا ، فهذا صحيح عند القائلين بالقياس . ما كان الاجتهاد مستخرجا من معنى النص
( ثانيهما ) : ، كالعبد ، لتردد شبهه بالحر في أنه يملك ; لأنه مكلف ، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك ; لأنه مملوك ، فهذا صحيح ، غير مرفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له ، غير أن المنكرين له جعلوه داخلا في عموم أحد الشبهين . ما استخرجه من شبه النص
( ثالثها ) : ، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله : ما كان مستخرجا من عموم النص أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه ( يعم الأب والزوج والمراد به أحدهما ) وهذا صحيح يتوصل إليه بالترجيح .
( رابعها ) : كقوله في المتعة : ما استخرج من إجماع النص ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فيصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين .
( خامسها ) : كقوله في التمتع : ما استخرج من أحوال النص فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه ، وإذا رجع إلى أهله فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى .
( سادسها ) : ، كقوله : ما استخرج من دلائل النص لينفق ذو سعة من سعته فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين ، بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مدين ، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء أن لكل مسكين مدا .
( سابعها ) : ، كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى : ما استخرج من أمارات النص وعلامات وبالنجم هم يهتدون فيكون الاجتهاد في القبلة بالأمارات والدلائل عليها ، من هبوب الرياح ومطالع النجوم .
[ ص: 739 ] ( ثامنها ) : ، فاختلف في صحة الاجتهاد ، فقيل : لا يصح حتى يقترن بأصل . ما استخرج من غير نص ولا أصل
وقيل : يصح لأنه في الشرع أصل انتهى .
وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وجعل كل ذلك دأبه ، ووجه إليه همته ، واستعان بالله - عز وجل ، واستمد منه التوفيق ، وكان معظم همه ، ومرمى قصده ، الوقوف على الحق ، والعثور على الصواب ، من دون تعصب لمذهب من المذاهب ; وجد فيهما ما يطلبه ، فإنهما الكثير الطيب ، والبحر الذي لا ينزف والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال ، والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف ، فاشدد يديك على هذا ، فإنك إن قبلته بصدر منشرح ، وقلب موفق ، وعقل قد حلت به الهداية ; وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنا ما كان .
فإن استبعدت هذا المقال ، واستعظمت هذا الكلام ، وقلت كما قاله كثير من الناس : إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث ، فمن نفسك أتيت ، ومن قبل تقصيرك أصبت ، وعلى نفسها براقش تجني ، وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم موفقين وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية .
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى
فإذا عشقت فعند ذلك عنف