ومن أبعد التأويلات ما يقوله القائلون بوجوب في غسل الرجلين في الوضوء وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) من أن المراد به الغسل ، وهو في غاية البعد قوله تعالى : ( [1] لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرءوس والأرجل في المسح من غير ضرورة .
فإن قيل : العطف إنما هو على الوجوه واليدين في أول الآية ، وذلك موجب للتشريك في الغسل ، وبيان ذلك من وجهين : الأول : قوله تعالى ( إلى الكعبين ) قدر المأمور به من الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى المرفقين ، ولو كان الواجب هو المسح لما كان مقدرا كمسح الرأس .
الثاني : ما ورد من القراءة بالنصب من قوله تعالى ( وأرجلكم ) وذلك يدل على العطف على الأيدي دون الرءوس .
وأما الكسر فإنما كان بسبب المجاورة ، فإنها موجبة لاستتباع المجاور ، ومنه قول امرئ القيس :
كأن ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل
كسر ( مزمل ) استتباعا لما قبله ، وإلا فحقه أن يكون مرفوعا لكونه وصف ( كبير ) وإن سلمنا أن الأرجل معطوفة على الرءوس غير أنه ليس من شرط العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف عليه ، بل في أصله كما سبق تقريره ، وذلك مما قد وقع الاشتراك فيه ، فإن الغسل والمسح قد اشتركا في أن كل واحد منهما فيه إمساس العضو بالماء ، وإن افترقا في خصوص المسح والغسل ، وذلك كاف في صحة العطف ، ودليله قول الشاعر :
ولقد رأيتك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
عطف الرمح على التقلد بالسيف ، وإن كان الرمح لا يتقلد ، وإنما يعتقل به ، لاشتراكهما في أصل الحمل
[ ص: 63 ] وكذلك عطف الشاعر الماء على التبن في قوله ( علفتها تبنا وماء باردا ) [2] والماء لا يعلف لاشتراكهما في أصل التناول .
والجواب ، قولهم : إن العطف إنما هو على الأيدي ، فأبعد من كل بعيد لما فيه من ترك العطف على ما يلي المعطوف إلى ما لا يليه .
وأما التقدير بالكعبين فمما لا يمنع من العطف على الرءوس الممسوحة ، وإن لم يكن مقدرا في الآية كما عطف الأيدي على الوجوه في حكم الغسل ، وإن كان غسل اليدين مقدرا وغسل الوجوه غير مقدر . مسح الرءوس
وأما القراءة بالنصب ، فإنما كان ذلك عطفا على الموضع ، وذلك لأن الرءوس في موضع النصب بوقوع الفعل عليها ، غير أنه لما دخل الخافض على الرءوس ، أوجب الكسر ، ومنه قول الشاعر :
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
عطف ( الحديد ) على موضع ( الجبال ) إذ هي في موضع نصب ، غير أنها خفضت بدخول الجار عليها .
قولهم : إن الكسر بسبب المجاورة إنما يصح إذا لم يكن بين المتجاورين فاصل كما ذكروه من الشعر ، وأما إذا فصل بينهما حرف العطف فلا .
وإن سلمنا جوازه ، غير أنه مما لا يتحمل إلا لضرورة الشعر فلا ينتهض موجبا لاتباعه ، وترك ما أوجبه العطف .
ومثل ذلك ، وإن ورد في النثر كما في قولهم ( جحر ضب خرب وماء شن بارد ) فمن النوادر الشاذة التي لا يقاس عليها .
قولهم : إن العطف وإن وقع على الرءوس ، فذلك غير موجب للاشتراك في تفاصيل حكم المعطوف عليه .
قلنا : هذا هو الأصل ، وإنما يصار إلى خلافه لدليل ، ولا دليل ، وإنما ذكرنا هذه النبذة من مسائل التأويلات لتدرب المبتدئين بالنظر في أمثالها .
وبالجملة ، فالمتبع في ذلك إنما هو نظر المجتهد في كل مسألة فعليه اتباع ما أوجبه ظنه .