الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثامنة

          اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة



          [1] ، جوزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ، ومنع من ذلك أكثر أصحاب الشافعي ، وقد قيل : إنه منقول عن الشافعي .

          [ ص: 219 ] ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة ، واختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط ، فمنع منه الأكثرون وجوزه الأقلون .

          والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المنصوصة .

          والمختار إنما هو التفصيل ، وهو أن يقال : العلة الشرعية لا تخلو إما أن تكون قطعية أو ظنية ، فإن كانت قطعية ، فتخلف الحكم عنها لا يخلو : إما أن يكون لا بدليل أو بدليل ، لا جائز أن يقال بالأول لأنه محال ، وإن كان الثاني فالدليل إما ظني أو قطعي ، والظني لا يعارض القطعي ، وتعارض قاطعين أيضا محال ، إلا أن يكون أحدهما ناسخا للآخر .

          وإن كانت ظنية فتخلف الحكم عنها إما في معرض الاستثناء أو لا في معرض الاستثناء ، فإن كان الأول : كتخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له ، وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب صاع من التمر ، وتخلف وجوب الغرامة عمن صدرت عنه الجناية في باب ضرب الدية على العاقلة .

          وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا ونحوه ، فذلك مما لا يدل على بطلان العلة ، بل تبقى حجة فيما وراء صورة الاستثناء ، وسواء كانت العلة المخصوصة منصوصة أو مستنبطة ، وذلك لأن الدليل من النص ، أو الاستنباط قد دل على كونها علة ، وتخلف الحكم عنها حيث ورد بطريق الاستثناء عن قاعدة القياس كان مقررا لصحة العلة لا ملغيا لها .

          وأما إن كان تخلف الحكم عنها لا بطريق الاستثناء فلا يخلو إما أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطة ، فإن كانت منصوصة فلا يخلو إما أن يمكن حمل النص على أن الوصف المنصوص عليه بعض العلة ، وذلك [ ص: 220 ] كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين مأخوذا [2] من قوله عليه السلام : " الوضوء مما خرج " [3] ، فإنه إذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة ، وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد أو حمله على حكم آخر غير الحكم المصرح به في النص ، وذلك قوله [4] تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) معللا بقوله تعالى : ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) فإن الحكم المعلل المصرح به إنما هو خراب البيت ، وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فأمكن حمل الخراب على استحقاق الخراب وجد الخراب أو لم يوجد ، أو أنه لا يمكن ذلك فإن أمكن تأويل النص بالحمل على معنى خاص أو حكم آخر خاص وجب التأويل لما فيه من الجمع بين دليل التعليل بتأويله ودليل إبطال العلة المذكورة ، وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلية لما عارضها من النص النافي لحكمها . والعلة المنصوصة في معنى النص وتخلف حكم النص عنه في صوره [5] لما عارضه - لا يوجب إبطال العمل به في غير صورة المعارضة ، فكذلك العلة المنصوصة .

          وأما إن كانت العلة مستنبطة فتخلف الحكم عنها إما أن يكون لمانع أو فوات شرط أو لا يكون .

          فإن كان الأول : وذلك كما في إيجاب القصاص على القاتل بالقتل العمد العدوان ، وتخلف الحكم عنه في الأب والسيد بمانع الأبوة والسيادة ، فلا يكون [ ص: 221 ] ذلك مبطلا للعلية فيما وراء صورة المخالفة ; لأن دليل الاستنباط قد دل على العلية بالمناسبة والاعتبار ، وقد أمكن إحالة نفي الحكم على ما ظهر من المانع لا على إلغاء العلة ، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليل الدال على العلة والدليل الدال على مانعية الوصف النافي للحكم ، فإن الجمع بين الأدلة أولى من إبطالها .

          ولا يخفى أن القول بإبطال العلة بتخلف الحكم عنها مما يلزم منه إبطال الدليل الدال على العلة ، والدليل الدال على مانعية المانع ، فكان القول بإحالة نفي الحكم على المانع أولى .

          فإن قيل : لا نسلم أن المناسبة وقران الحكم بها فقط دليل العلية ، بل مع الاطراد وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إمكان تعليل انتفاء الحكم بالمانع لوجهين :

          الأول : أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف يتوقف على وجود المقتضي للحكم فيها ، فإنه لو لم يكن المقتضي للحكم موجودا فيها لكان الحكم منتفيا لانتفاء المقتضي لا للمانع ولا لفوات الشرط ، والقول بكون الوصف المذكور علة يتوقف في صورة التخلف على وجود المانع أو فوات الشرط ، فإنا إذا لم نتبين وجود المانع ولا فوات الشرط فالحكم يجب أن يكون منتفيا لانتفاء ما يقتضيه ، وعند ذلك نتبين أن الوصف المذكور ليس بعلة ، وإذا توقف كل واحد من المقتضي والمانع على الآخر كان دورا ممتنعا ، وهذا الامتناع إنما لزم من التعليل بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف فكان ممتنعا .

          الوجه الثاني : أن انتفاء الحكم في صورة التخلف كان متحققا قبل وجود المانع ، وفي تعليله بالمانع - تعليل المتقدم بالمتأخر وهو محال ، وسواء كان المانع بمعنى الأمارة أو الباعث .

          قلنا : جواب الأول : أنا إذا رأينا الوصف مناسبا والحكم مقترنا به ، غلب على الظن تأول النظر [6] إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في جميع مجاري العلة ، هل الحكم مقارن لها أو لا ؟

          [ ص: 222 ] وأما الاطراد فحاصله يرجع إلى السلامة عن النقض المعارض لدليل العلية ، وعدم المعارض غير داخل في دليل العلية ، وعن الدور من ثلاثة أوجه :

          الأول : لا نسلم أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع يستدعي وجود المقتضي .

          ودليله : أنه يصح انتفاؤه بالمانع مع وجود المقتضي ومع كون المقتضي معارضا للمانع ، فلأن يصح النفي به مع عدم المقتضي كان أولى .

          [7] الثاني : وإن سلمنا توقف التعليل بالمانع على وجود المقتضي ، ولكن لا نسلم توقف وجود المقتضي على وجود المانع ، فإن كون المقتضي مقتضيا إنما يعرف بدليله من المناسبة والاعتبار أو غير ذلك من الطرق ، وذلك متحقق فيما نحن فيه فيجب القضاء بكونه مقتضيا ، والمانع إنما هو من قبيل المعارض فإن وجد انتفى الحكم المقتضى مع بقاء المقتضي بحاله مقتضيا ، وإن لم يوجد ؛ عمل المقتضي عمله .

          الثالث : سلمنا توقف كل واحد منهما على الآخر ، لكن توقف معية أو توقف تقدم ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا فلا دور .

          وعن قولهم : فيه تعليل المتقدم بالمتأخر ، أن المعلل نفيه بالمانع إنما هو انتفاء الحكم الذي صار بسبب وجود المقتضى بعرضية الثبوت عرضية لازمة لا مطلق حكم ، وذلك مما لا يسلم تقدمه على المانع المفروض .

          وأما إن لم يظهر في صورة التخلف مانع ولا فوات شرط ، فالحق بطلان العلة وذلك لأن العلة المستنبطة إنما عرف كونها علة باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها ، وذلك إن دل على اعتبارها ، فتخلف الحكم عنها مع ظهور ما يكون مستندا لنفيه يدل على إلغائها وليس أحد الدليلين أولى من الآخر فيتقاومان ، ويبقى الوصف على ما كان قبل الاعتبار ولم يكن قبل ذلك علة فكذلك بعده .

          فإن قيل : مناسبة الوصف وقران الحكم به دليل ظاهر على كونه علة وكذلك سائر طرق الاستنباط ، وهذا الدليل قائم وإن وجد النقص ، وتخلف الحكم [ ص: 223 ] عن الوصف غايته أنه يوجب الشك في فساد العلة وتقاوم احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو وجود المعارض على السواء ، وإذا كان دليل العلة ظاهرا ودليل الفساد مشكوكا فيه فالمشكوك فيه لا يقع في مقابلة الظاهر . ودليل وقوع الشك في فساد العلة في صورة النقض وتقاوم الاحتمال فيها - أنه يحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض من وجود مانع أو فوات شرط ، ويحتمل أنه لفساد العلة وهما متقاومان . وبيان التقاوم أن احتمال الانتفاء لانتفاء العلة وإن كان الأصل بالنسبة إلى احتمال انتفائه للمعارض ; دفعا لمحذور المعارضة غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى إبطال العلة مع قيام الدليل الدال على كون الوصف علة . واحتمال انتفاء الحكم للمعارض وإن كان على خلاف الأصل لما فيه من نفي الحكم مع قيام دليله ؛ غير أنه على وفق الأصل من جهة موافقة الدليل الدال على كون الوصف علة . فإذا احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة موافق للأصل من وجه ومخالف له من وجه فيتقاوم الاحتمالان على السواء ، وذلك مما يوجب الشك في فساد العلة ، والشك لا يعارض الظاهر بوجه .

          قلنا : إذا اعترف بالشك في دليل فساد العلة فيلزم منه الشك في فساد العلة ، ويلزم من الشك في فساد العلة انتفاء الظن بكونها علة ; لأن الصحة والفساد متقابلان فمهما وقع الشك في أحد المتقابلين وقع الشك في الآخر ، وإن كان أحدهما ظاهرا والآخر بعيدا فالقول بوقوع الشك في أحد المتقابلين مع ظهور الآخر ممتنع كما يمتنع الشك في الغيم مع ظن الصحو ، والشك في موت زيد مع ظن حياته ، وهذا بخلاف ما إذا شككنا في الطهارة وحكمنا بالنجاسة نظرا إلى النجاسة السابقة ، فإن الشك في هذه الصورة لا يجامع النظر إلى الأصل بل عند النظر إلى الأصل يترجح أحد احتمالي الشك على الآخر فلا يبقى الشك متحققا ، حتى إنه لو وقع الشك في النجاسة أو الطهارة مع النظر إلى الأصل لبقي الشك معمولا به ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الشك إنما وقع في فساد العلة في صورة النقض مع النظر إلى دليل العلة ، ولولا النظر إلى دليل العلة لكان الظاهر انتفاء الحكم لا انتفاء العلة ، ومهما كان كذلك فلا يمكن القضاء بظهور العلة مع أن تقاوم الاحتمال إنما كان بالنظر إلى دليل العلة .

          [ ص: 224 ] كيف وإنه قد يمكن أن يقال : انتفاء الحكم مع وجود الوصف دليل ظاهر على أنه ليس بعلة ، وثبوت الحكم على وفقه مع مناسبته مما يوجب الشك في صحة التعليل به في محل الاعتبار ، والمشكوك فيه لا يعارض الظاهر ، وبيان وقوع الشك في صحة التعليل في الأصل المستروح إليه أنه وإن كان ثبوت الحكم به على وفق الأصل ، غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ، وثبوت الحكم لغيره وإن كان على خلاف الأصل مع عدم الظفر به إلا أنه على وفق الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ، ويلزم من ذلك تقاوم الاحتمالات في صحة العلة ، وإن كان الظاهر قد دل على فسادها فلا يترك بالمشكوك فيه .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من دلائل عدم الانتقاض في الصور المذكورة معارض من ثمانية أوجه :

          [8] الأول : وهو اختيار أبي الحسين البصري أن تخصيص العلة مما يمنع من كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع ، سواء ظن بها أنها جهة للمصلحة أو لم يكن ظن بها ذلك .

          وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلا هي كونه موزونا ، ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا مع أنه موزون ، لم يخل إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص ، فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقايس بها الرصاص على أصل مباح لكونه أبيض مثلا ، فإنا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلا إلا بكونه موزونا غير أبيض ، فإنا لو شككنا في كونه أبيض لم نعلم قبح بيعه متفاضلا كما لو شككنا في كونه موزونا ، فبان أنا لا نعلم بعد التخصيص تحريم شيء لكونه موزونا فقط ، فبطل أن يكون الموزون [ ص: 225 ] مع كونه غير أبيض ، وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا دل على إباحة بيع الرصاص نص ، وسواء علمت علة الإباحة أو لم تعلم .

          الثاني : قال بعض أصحابنا : اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر ، فإن اعتبر لم تكن العلة علة إلا عند انتفاء المعارض ، وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس هو تمام العلة بل بعضها ، وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل يكون الحكم حاصلا ، وذلك يقدح في كون المعارض معارضا .

          الثالث : أنه لا بد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل وبين كون المانع مانعا حقيقيا بالفعل ; منافاة بالذات ، وشرط طريان أحد المتنافيين بالذات انتفاء الأول وليس انتفاء الأول لطريان اللاحق ، وإلا لزم الدور وحيث كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضي عن كونه مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق ، وإلا لزم الدور ، فإذا المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته ، وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك لا يصلح للعلية .

          الرابع : أن الوصف وإن وجد مع الحكم في الأصل فقد وجد مع الحكم في صورة النقض مع عدم الحكم ، ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علة لذلك الحكم ، ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقض يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم في تلك الصورة ، والوصف الحاصل في الفرع كما إنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو مثل الوصف الحاصل في صورة النقض ، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، فلم يجز الحكم عليه بكونه علة .

          الخامس : قالوا : لا طريق إلى صحة العلة الشرعية سوى جريانها مع معلولها ، فإذا لم تجر معه لم يكن إلى صحتها طريق .

          السادس : قالوا : العلة الشرعية إذا دل الدليل على تعلق الحكم بها ، امتنع تخصيصها كالعلة العقلية .

          [ ص: 226 ] السابع : قالوا : العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفرع ، فإذا وجدت العلة في نوعين امتنع أن تكون طريقا إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية .

          الثامن : قالوا : لو جاز وجود العلة الشرعية في فروع يثبت الحكم معها في البعض دون البعض لم يكن البعض بالإثبات أولى من البعض الآخر .

          وما ذكرتموه من دليل الانتقاض في الصورة الأخيرة معارض من أربعة أوجه :

          [9] الأول : إجماع الصحابة على ذلك ، ودليله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول : هذا حكم معدول به عن سنن القياس [10] واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعا .

          الثاني : أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع ووجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارة ، فإنه ليس من شرط كون الأمارة أمارة على شيء أن يكون ذلك الشيء ملازما لها دائما ، بدليل وجود جميع الأمارات الشرعية على إثبات الأحكام وإن لم تكن الأحكام ملازمة لها قبل ورود الشرع ، وبدليل الغيم الرطب فإنه أمارة على وجود المطر وإن لم يكن المطر ملازما له ، ولذلك فإن وقوف مركوب القاضي على باب الملك أمارة على كونه في دار الملك ، ولا يخرج في ذلك عن كونه أمارة لوجوده [11] في بعض الأوقات ، والقاضي غير موجود [ ص: 227 ] في دار الملك بأن يكون مركوبه مستعارا ، وكذلك خبر الواحد فإنه أمارة على وجود الحكم وتخلف حكمه عند وجود النص الراجح المخالف له لا يخرجه عن كونه أمارة عليه عند عدم ذلك النص .

          [12] الثالث : أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة .

          الرابع : أن كون الوصف أمارة على الحكم في محل ، إما أن يتوقف على كونه أمارة على ذلك الحكم في محل آخر أو لا يتوقف ، فإن توقف فإما أن لا يتعاكس الحال في ذلك أو يتعاكس [13] ، الأول محال لما فيه من الدور .

          والثاني أيضا محال لعدم الأولوية ، وإن لم يتوقف فهو المطلوب .

          والجواب عن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على امتناع التخصيص : أنا وإن سلمنا أن علة القياس أمارة على حكم الفرع معرفة له ، وأنه إذا تخلف الحكم عنها في صورة أخرى للمعارض لا يمكن إثبات الحكم بها في فرع من الفروع دون العلم بانتفاء ذلك المعارض لها المتفق عليه ، ولكن لا يلزم أن يكون انتفاء ذلك المعارض من جملة المعرف للحكم ، بل المعرف للحكم إنما هو ما كان باعثا عليه في الأصل ، وانتفاء المعارض إنما توقف إثبات حكم الأمارة عليه ضرورة أن الحكم لا يثبت مع تحقق المعارض النافي له ، فكان نفيه شرطا في إثبات حكم الأمارة لا أنه داخل في مفهوم الأمارة .

          وعن الثانية : أنه وإن سلم أن اقتضاء العلة للحكم لا يتوقف على عدم المعارض فما المانع منه قولهم إنه يكون الحكم حاصلا ، وإن حصل المعارض لا نسلم ذلك فإن العلة وإن كانت مقتضية للحكم فإنما يلزم وجود الحكم أن لو انتفى المعارض الراجح أو المساوي .

          [ ص: 228 ] وعلى هذا فلا يلزم من النفي القدح في المعارض ولا في العلة .

          وعن الثالثة : لا نسلم المنافاة بين اقتضاء المقتضي واقتضاء المانع ، ولا استحالة الجمع بينهما وإن استحال الجمع بين حكمهما .

          وعلى هذا فلا يلزم من تحقق المانع خروج المقتضي عن جهة اقتضائه لا بذاته ولا بغيره بخلاف المتنافيات بالذات .

          وعن الرابعة : أنه وإن كان وجود الوصف مع الحكم في الأصل لا يوجب القطع بكونه علة لكنه يغلب على الظن كونه علة ، ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقص لا نسلم أنه يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم ، بل الظن بالعلية باق بحاله وانتفاء الحكم إنما كان لوجود المعارض النافي للحكم على ما هو معلوم من قاعدة القائلين بتخصيص العلة .

          وعن الخامسة : لا نسلم أن اطراد العلة طريق إلى صحتها كما يأتي مفصلا من كونه [14] لا طريق سواه .

          وعن السادسة : لا نسلم أن العلة العقلية يمتنع تخلف الحكم عنها ، بل ذلك جائز عند فوات القابل لحكمها كما بيناه في الكلاميات . وإن سلمنا امتناع تخلف حكمها عنها فليس ذلك لدلالة الدليل على تعلق الحكم بها ولا لكونها علة ، بل إنما كان ذلك بكونها مقتضية للحكم لذاتها ، وذلك غير متحقق في العلة الشرعية فإنها ليست مقتضية للحكم لذاتها وإنما هي علة بوضع الشارع لها أمارة على الحكم في الفرع .

          وعن السابعة : أنه ليست العلة في امتناع الافتراق في الدليل العقلي المتعلق بمدلولين ، وامتناع الافتراق في الإدراك المتعلق بمدركين كونه طريقا لا دليلا ، بل لكون الدليل العقلي موجبا لذاته ولكون الإدراك مما يجب العلم بالمدرك عنده عادة [15] بخلاف العلل الشرعية على ما سبق .

          [ ص: 229 ] وعن الثامنة : أنه إنما اختص البعض بتخلف الحكم دون البعض لاختصاصه بمعارض لا تحقق له فيما كان الحكم ثابتا فيه .

          وعن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على التخصيص : أنه لا دلالة لقول ابن مسعود على أن القياس الذي كان الحكم ثابتا على خلافه أنه حجة ، فالإجماع على ذلك لا يكون مفيدا .

          وإن كان حجة لكن يمكن حمله على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ، ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة .

          وعن الثانية : لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة من غير معارض لا يخرجها عن كونها أمارة ، وذلك لأنه إما أن يكون كل ما توقف عليه التعريف في صورة كانت الأمارة أمارة فيه قد تحقق في صورة تخلف الحكم أو لم يتحقق .

          فإن كان الأول فتخلف الحكم عنه ممتنع .

          وإن كان الثاني فالموجود في صورة التخلف ليس هو الأمارة التي توقف عليها التعريف بل البعض منها .

          وعلى هذا يكون تخريج كل ما ذكروه من الصور .

          [16] وعن الثالثة : بمنع كون المستنبطة مع تخلف الحكم عنها من غير معارض أمارة ، وعلى هذا فلم يوجد الجامع بين الأصل والفرع ، وإن دلوا على كونها أمارة مع التخصيص بطريق آخر فهو كاف في المطلوب ، وخروج عن خصوص هذه الدلالة .

          وعن الرابعة : أن المختار مما ذكروه من الأقسام قسم التوقف من الطرفين .

          قولهم : إن ذلك يفضي إلى الدور ، إنما يلزم إن لو توقف كون الأمارة في كل واحدة من الصورتين على كونها أمارة في الصورة الأخرى توقف تقدم ، أما إذا كان ذلك بطريق المعية فلا كما عرف ذلك فيما تقدم ، والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية