الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة السادسة

          اشترط قوم أن تكون العلة ذات وصف واحد لا تركيب فيه كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ونحوه ، ومنع من ذلك الأكثرون وهو المختار .

          وذلك كتعليل وجوب القصاص بالمحدد بالقتل العمد العدوان .

          ودليله أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما يقوم الدليل على ظن التعليل بها إما بمناسبة أو شبه أو سبر وتقسم أو غير ذلك من طرق الاستنباط والتخريج مع اقتران الحكم بها حسب دلالته على علية الوصف الواحد ، فكانت علة .

          فإن قيل : ما ذكرتموه وإن دل على جواز التعليل بعلة ذات أوصاف ، غير أنه معارض بما يدل على امتناعه .

          [ ص: 213 ] وبيانه من أربعة أوجه :

          المعارضة الأولى : أن مجموع الأوصاف إذا كان علة للحكم فالعلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف ، ودليله أمران :

          الأول : أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف ونجهل كونها علة والمعلوم غير المجهول .

          الثاني : أنه يحسن أن يقال : الهيئة الاجتماعية من الأوصاف علة فنصفها بها ، والصفة يجب أن تكون غير الموصوف ، وعند ذلك فإما أن تكون صفة العلية بتمامها قائمة بكل واحد من الأوصاف أو بواحد منها أو أنها مع اتحادها قائمة بالمجموع ، كل بعض منها قائم بوصف .

          لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان كل وصف علة مستقلة ; لأن العلة مجموع الأوصاف وهو خلاف الفرض ، كيف وإن ذلك محال كما يأتي .

          وإن قيل بالثاني : فالعلة ذلك الوصف الذي قامت به صفة العلية لا مجموع الأوصاف ، وهو أيضا خلاف الفرض .

          ولا جائز أن يقال بالثالث ; لأن صفة العلية متحدة فيلزم من ذلك تعدد المتحد لقيامه بالمتعدد أو اتحاد المتعدد وهو محال .

          المعارضة الثانية : أنه لو كانت العلية صفة لأوصاف متعددة فهي متوقفة على كل واحد من تلك الأوصاف ، ويلزم من ذلك أن يكون عدم كل وصف منها علة مستقلة لعدم صفة العلية ضرورة انتفائها عند عدمه ، وذلك محال لوجهين :

          الأول : أنه إذا انتفت جميع الأوصاف فإما أن يكون عدم كل وصف علة مستقلة لعدم العلية أو البعض دون البعض ، أو أنه لا واحد منها مستقل بل المستقل الجميع .

          لا جائز أن يقال بالأول ; لأن معنى استقلال عدم كل واحد من الأوصاف بعدم العلية لا معنى له سوى أنه المفيد لذلك دون غيره ، ويلزم من ذلك امتناع استقلال كل واحد منها .

          ولا جائز أن يقال بالثاني ، لأنه لا أولوية لاختصاص البعض بذلك دون البعض .

          [ ص: 214 ] ولا جائز أن يقال بالثالث لما فيه من إخراج كل واحد من تلك الأوصاف عن الاستقلال بالعلية ، وقد قيل إنه مستقل .

          الوجه الثاني : أنه إذا كان عدم كل وصف منها يستقل عند انفراده بعدم العلية فبتقدير انتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف ، يلزم منه أنه إذا انتفى بعد ذلك وصف آخر من تلك الأوصاف أن لا يكون موجبا لعدم العلية لكونها معدومة ، ويلزم من ذلك نقض العلة العقلية وهو محال .

          المعارضة الثالثة : أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من تلك الأوصاف مناسبا للحكم ، أو لا واحد منها مناسب له ، أو المناسب البعض دون البعض .

          فإن كان الأول ، فيلزم من مناسبة كل واحد للحكم مع اقتران الحكم به أن يكون مستقلا بالتعليل ، وعند ذلك فالحكم إما أن يضاف إلى كل واحد على سبيل الاستقلال ، أو إلى البعض دون البعض ، أو إلى الجملة ، والكل محال لما تقدم في المعارضة السابقة .

          وإن كان الثاني : فضم ما لا يصلح للتعليل إلى ما يصلح له لا يكون مفيدا للتعليل .

          وإن كان الثالث : فذلك هو العلة المستقلة لمناسبته وقران الحكم به ولا مدخل لغيره في التعليل .

          المعارضة الرابعة : أن كل واحد من الأوصاف إذا لم يكن علة عند انفراده فعند انضمامه إن تجددت صفة العلية له فلا بد من تجدد أمر يقتضي العلية .

          وذلك الأمر المتجدد لا بد له من علة متجددة توجبه ، والكلام في ذلك المتجدد كالكلام في الأول ، وهو تسلسل ممتنع .

          الجواب عن المعارضة الأولى من ثلاثة أوجه :

          الأول : أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علة سوى أن الشارع قضى بالحكم رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة ، وليس ذلك صفة لها فلا يلزم ما ذكروه ، إلا أن هذا يناقض ما ذكر من الوجه الأول في امتناع التعليل بالعدم الثاني .

          الثاني : أنه إن كانت العلية صفة للأوصاف غير أنه يمتنع أن تكون صفة وجودية ، وبيانه من وجهين :

          [ ص: 215 ] الأول : أنها لو كانت صفة وجودية لكانت عرضا ، والصفات المعلل بها أعراض ، والعرض لا يقوم بالعرض كما بيناه في ( أبكار الأفكار ) وغيره .

          الثاني : أنها صفة إضافية ، وقد بينا فيما تقدم أن المفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي ، وما ذكروه من المحال إنما يلزم بتقدير كونها صفة وجودية وليس كذلك .

          غير أن هذين الجوابين يناقضان ما ذكر من الوجه الأول في امتناع التعليل بالعدم .

          الثالث : أن ما ذكروه منتقض بكون القول المخصوص خبرا أو استخبارا أو وعدا أو وعيدا أو غير ذلك ، مع تعدد ألفاظه وحروفه فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه ، ومع ذلك لم يمتنع وصفه بما وصف به ، فما هو الجواب هاهنا يكون جوابا في محل النزاع .

          وعن الثانية : أنها مبنية على كون عدم الأوصاف علة لعدم العلية ، وليس كذلك لوجهين :

          الأول : أن العدم لا يصلح أن يكون علة لما تقدم .

          الثاني : أن وجود كل واحد من الأوصاف شرط في تحقق العلية ، فانتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف أو كلها إنما هو لانتفاء الشرط لا لعلة عدم العلية .

          وعن الثالثة : أنه وإن لم يكن كل واحد من الأوصاف مناسبا للحكم مناسبة استقلال ، فلا يمتنع أن تكون مناسبة الاستقلال ناشئة أو ملازمة للهيئة الاجتماعية من الأوصاف ، كما في القتل العمد العدوان بالنسبة إلى وجوب القصاص ونحوه .

          وعن الرابعة : أن المتجدد والمستلزم للعلية إنما هو الانضمام الحادث بالفاعل المختار ، فلا تسلسل ثم يلزم على ما ذكروه تجدد الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة ، فإنها غير متحققة في كل واحد واحد من الأوصاف مع لزوم ما ذكروه ، فما هو الجواب عن تجدد الهيئة الاجتماعية يكون جوابا عن تجدد صفة العلية .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية