الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 150 ] المسألة التاسعة

          المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه : أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن ، ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلا ووقوعه شرعا .

          احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي .

          أما الجواز العقلي : فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) غير أن الكتاب متلو ، والسنة غير متلوة ، ونسخ حكم أحد الوحيين غير ممتنع عقلا ، ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلا .

          وأما الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور :

          الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده حتى إنه رد أبا جندل وجماعة من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من السنة .

          الثاني : أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة [1] وقد نسخ بقوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بالقرآن ، وهو قوله : ( فثم وجه الله ) ; لأن قوله فثم وجه الله تخيير بين القدس وغيره من الجهات ، والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عينا ، وذلك غير معلوم من القرآن .

          الثالث : أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة ، وقد نسخ ذلك بقوله تعالى : ( فالآن باشروهن ) .

          الرابع : أن صوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ، ونسخ بصوم رمضان في قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) .

          الخامس : أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزا بالسنة ، ولهذا قال [ ص: 151 ] يوم الخندق وقد أخر الصلاة : " حشا الله قبورهم نارا " ; لحبسهم له عن الصلاة [2] ، وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من صور نسخ السنة بالقرآن ، ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن نسخ رسمه وبقي حكمه ؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ، ولكن ما المانع أن يكون النسخ وقع بالسنة ، ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة .

          ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن الشافعي كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل ، وقد أنكر نسخ السنة بالقرآن ، ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحا ، ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة غير أنه معارض بالنص والمعقول .

          أما النص فقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) جعل السنة بيانا فلو نسخت لخرجت عن كونها بيانا ، وذلك غير جائز .

          وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته ; لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول ، وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) .

          الثاني : أن السنة ليست من جنس القرآن ; لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة ، وإذا لم يكن القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل وبالعكس .

          [ ص: 152 ] والجواب عن السؤال الأول : أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته صالح لإثباتها ، وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستندا إليها ، وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب النسخ عليها ، فبتقدير [3] وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه بتقدير نسخه .

          وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها ، وإمكان إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون ممتنعا .

          ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ ; لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره ، وما من منسوخ حكمه يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره ، وهو خلاف إجماع الأمة في الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ ، وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت ، وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه ، وعن المعارضة بالنص من وجهين :

          الأول : أن المراد بقوله : ( لتبين للناس ) إنما هو التبليغ ، وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره ، وليس فيه ما يدل على امتناع كون القرآن ناسخا للسنة .

          الثاني : وإن سلمنا أن المراد بقوله " لتبين للناس " إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ ، لكن لا نسلم دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان ، بل جاز مع كونه مبينا أن ينطق بغير البيان ، ويكون محتاجا إلى بيان .

          وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه :

          الأول : أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند الرسول من تلقاء نفسه ، وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) .

          الثاني : أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة ، وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ .

          [ ص: 153 ] الثالث : أن ما ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولا غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت أولا ، وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله .

          وعن المعارضة الثانية : أنه لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل واحد منهما - امتناع نسخ أحدهما بالآخر .

          وعلى هذا فنقول : القرآن يكون رافعا لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية