المسألة الخامسة عشرة
اتفق الكل على جواز كدلالة قوله تعالى : ( النسخ بفحوى الخطاب فلا تقل لهما أف ) على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى ، وعلى جواز نسخ حكمه ، وإنما اختلفوا في جواز والفحوى دون الأصل . نسخ الأصل دون الفحوى
غير أن الأكثر على أن نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى ; لأن الفحوى تابع للأصل ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع .
وأما ، فقد تردد فيه قول نسخ الفحوى دون الأصل فجوزه تارة ; نظرا إلى أن ذلك جار مجرى التنصيص على تحريم التأفيف ، وتحريم [ ص: 166 ] الضرب العنيف ، فكأنه قال : لا تقل لهما أف ولا تضربهما . فرفع حكم أحدهما يفيد رفع حكم الآخر ، ومنع منه تارة ، ووافقه على المنع القاضي عبد الجبار أبو الحسين البصري مصيرا منهما إلى أن تحريم التأفيف إنما كان إعظاما للوالدين ، فإذا أبيح ضربهما كان ذلك نقضا للغرض من تحريم التأفيف .
والمختار في ذلك أن يقال : إثبات تحريم الضرب في محل السكوت ، إما أن يقال : إنه ثابت بالقياس على تحريم التأفيف في محل النطق ، أو أنه ثابت بدلالة اللفظ لغة على اختلاف المذاهب فيه .
فإن كان الأول : فيجب أن يقال بأن نسخ حكم الأصل يوجب رفع حكم الفرع ; لاستحالة بقاء الفرع دون أصله ، وإن لم يسم ذلك نسخا لما سبق ، وأن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل ; إذ لا يلزم من رفع التابع رفع المتبوع .
وإن كان الثاني : فلا يخفى أن دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ ، وعلى تحريم الضرب بجهة الفحوى ، وهما دلالتان مختلفتان ، غير أن دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق ، وعند ذلك أمكن أن يقال بأن رفع حكم إحدى الدلالتين لا يلزم منه رفع حكم الدلالة الأخرى .
فإن قيل : فإذا كانت دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق فرفع الأصل مما يمتنع معه بقاء التابع .
وأيضا فإن الغرض من دلالة المنطوق إعظام الوالدين ، فرفع حكم الفحوى مما يخل بالغرض من دلالة المنطوق فيمتنع معه بقاء حكم المنطوق .
قلنا : أما الأول فمندفع ، وذلك لأن دلالة الفحوى وإن كانت تابعة لدلالة المنطوق فنسخ حكم المنطوق ليس نسخا لدلالته بل نسخا لحكمه ، ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا أنها تابعة لحكمه ، ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل نسخه ، فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع ، وما هو المرتفع ليس أصلا للفحوى .
وأما الثاني : فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ، ولا يخفى أن غرض إثبات التحريم للتأفيف مغاير لغرض تخصيصه بالذكر تنبيها بالأدنى على الأعلى ، ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الغرض الآخر .