الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4015 ) فصل : الشرط الرابع ، أن يكون الشقص منتقلا بعوض ، وأما المنتقل بغير عوض ، كالهبة بغير ثواب ، والصدقة ، والوصية ، والإرث ، فلا شفعة فيه ، في قول عامة أهل العلم ; منهم مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            وحكي عن مالك رواية أخرى في المنتقل بهبة أو صدقة ، أن فيه الشفعة ، ويأخذه الشفيع بقيمته . وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى ; لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة ، وهذا موجود في الشركة كيفما كان ، والضرر اللاحق بالمتهب دون ضرر المشتري ; لأن إقدام المشتري على شراء الشقص ، وبذله ماله فيه ، دليل حاجته إليه ، فانتزاعه منه أعظم ضررا من أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه . ولنا ، أنه انتقل بغير عوض ، أشبه الميراث ، ولأن محل الوفاق هو البيع ، والخبر ورد فيه ، وليس غيره في معناه ; لأن الشفيع يأخذه من المشتري بمثل السبب الذي انتقل به إليه ، ولا يمكن هذا في غيره ، ولأن الشفيع يأخذ الشقص بثمنه ، لا بقيمته ، وفي غيره يأخذه بقيمته ، فافترقا .

                                                                                                                                            فأما المنتقل بعوض فينقسم قسمين ; أحدهما ، ما عوضه المال ، كالبيع ، فهذا فيه الشفعة بغير خلاف ، وهو في حديث جابر ، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به . وكذلك كل عقد جرى مجرى البيع ، كالصلح بمعنى البيع ، والصلح عن الجنايات الموجبة للمال ، والهبة المشروط فيها ثواب معلوم ; لأن ذلك بيع ثبتت فيه أحكام البيع ، وهذا منها . وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا : لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثواب حتى يتقابضا ; لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض ، فأشبهت البيع بشرط الخيار .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه يملكها بعوض هو مال ، فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة ، كالبيع ، ولا يصح ما قالوه من اعتبار لفظ الهبة ; لأن العوض صرف اللفظ عن مقتضاه ، وجعله عبارة عن البيع ، خاصة عندهم ، فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصح الهبة فيه بالاتفاق .

                                                                                                                                            القسم الثاني ، ما انتقل بعوض غير المال ، نحو أن يجعل الشقص مهرا ، أو عوضا في الخلع ، أو في الصلح عن دم العمد ، فظاهر كلام الخرقي أنه لا شفعة فيه ; لأنه لم يتعرض في جميع مسائله لغير البيع . وهذا قول أبي بكر . وبه قال الحسن ، والشعبي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، حكاه عنهم ابن المنذر ، واختاره .

                                                                                                                                            وقال ابن حامد : تجب فيه الشفعة . وبه قال ابن شبرمة ، والحارث العكلي ، ومالك ، وابن أبي ليلى ، والشافعي . ثم اختلفوا بم يأخذه ؟ فقال ابن شبرمة ، وابن أبي ليلى : يأخذ الشقص بقيمته . قال القاضي : هو قياس قول ابن حامد ; لأننا لو أوجبنا مهر المثل ، لقومنا البضع على الأجانب ، وأضررنا بالشفيع ; لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى ، لتسامح الناس فيه في العادة ، بخلاف البيع .

                                                                                                                                            وقال الشريف أبو جعفر ، قال ابن حامد : إن كان الشقص صداقا ، أو عوضا في خلع ، أو متعة في طلاق ، أخذه الشفيع بمهر المرأة ، وهو قول العكلي ، والشافعي ; لأنه ملك الشقص ببدل ليس له مثل ، فيجب الرجوع إلى قيمة البدل في الأخذ بالشفعة ، كما لو باعه بعوض ، واحتجوا على أخذه بالشفعة بأنه عقار مملوك بعقد معاوضة ، فأشبه البيع .

                                                                                                                                            [ ص: 183 ] ولنا ، أنه مملوك بغير مال ، أشبه الموهوب والموروث ، ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل ; لما ذكره مالك ، وبالقيمة لأنها ليست عوض الشقص ، فلا يجوز الأخذ بها ، كالموروث ، فيتعذر أخذه ، ولأنه ليس له عوض يمكن الأخذ به ، فأشبه الموهوب والموروث ، وفارق البيع ، فإنه أمكن الأخذ بعوضه .

                                                                                                                                            فإن قلنا : إنه يؤخذ بالشفعة . فطلق الزوج قبل الدخول ، بعد عفو الشفيع ، رجع بنصف ما أصدقها ; لأنه موجود في يدها بصفته ، وإن طلقها بعد أخذ الشفيع ، رجع بنصف قيمته ; لأن ملكها زال عنه ، فهو كما لو باعته ، وإن طلق قبل علم الشفيع ، ثم علم ، ففيه وجهان ; أحدهما ، حق الشفيع مقدم ; لأن حقه أسبق ، لأنه يثبت بالنكاح ، وحق الزوج بالطلاق .

                                                                                                                                            والثاني ، حق الزوج أولى ; لأنه ثبت بالنص والإجماع ، والشفعة هاهنا لا نص فيها ولا إجماع . فأما إن عفا الشفيع ، ثم طلق الزوج ، فرجع في نصف الشقص ، لم يستحق الشفيع الأخذ منه . وكذلك إن جاء الفسخ من قبل المرأة ، فرجع الشقص كله إلى الزوج ، لم يستحق الشفيع أخذه ; لأنه عاد إلى المالك لزوال العقد ، فلم يستحق به الشفيع ، كالرد بالعيب .

                                                                                                                                            وكذلك كل فسخ يرجع به الشقص إلى العاقد ، كرده بعيب ، أو مقايلة ، أو اختلاف المتبايعين ، أو رده لغبن . وقد ذكرنا في الإقالة رواية أخرى ، أنها بيع ، فتثبت فيها الشفعة . وهو قول أبي حنيفة . فعلى هذا لو لم يعلم الشفيع حتى تقايلا ، فله أن يأخذ من أيهما شاء . وإن عفا عن الشفعة في البيع ، ثم تقايلا ، فله الأخذ بها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية