تقديم عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الذي جعل الإنسان مكرما بأصل الخلق لما أودع فيه من الخصائص والقابليات والطاقات التي تؤهله لفهم الحياة وعمارة الكون، وأمكنه من القدرة على تسخيره بتزويده بكل أدوات التسخير، ذلك التسخير الأمثل الذي يأتي كثمرة لفهم السنن الفاعلة في الأنفس والآفاق، التي أرشد إليها الوحي منذ خطوات البشرية الأولى التي أعقبت الهبوط الأول للإنسان على الأرض، وجعل رحلة الحياة الطويلة ميدانا لاكتشافها،
قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء: 70) ، وقال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ، وقال: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53) .
هذه الدعوة لتبين الآيات والوصول إلى الحق، أو رحلة الكشف العملي للسنن والقوانين التي تحكم الحياة والأحياء، أرشد إليها الوحي [ ص: 11 ] ابتداء، فوضع الإنسان على أول الطريق أو على الجادة، وبين له مخاطر الطريق بتعليمه الأسماء كلها، حيث لم يقتصر الوحي على بيان الطريق والمنهج، وإنما عرض لبيان الإصابات والمخاطر المحتملة التي تكتنف رحلة الحياة إذا غاب الحذر واليقظة أو نفد التزود المستمر.
ولعل من أعلى مظاهر التكريم التي منحها الله للإنسان، الذي خلق مزودا بهذه الطاقات الهائلة، هي ما يتمتع به من حرية الإرادة وملكة الاختيار، حيث لم يخلقه مبرمجا بمراكز غريزية ضاغطة ودافعة كعالم الحيوان، ولا محكوما بقوالب جامدة وقوانين جبرية كعالم الأكوان والأفلاك لأنه سيد لها، ولأنها محل تسخيره وأدواته في تحقيق خلافته على الأرض ومهمته في استعمارها.
والصلاة والسلام على الرسول الهادي إلى الصراط المستقيم، المنقذ من الضلال، الذي لم يقتصر مهمته على إبلاغ رسالة الله إلى الخلق دون أن يقدم أنموذجا مجسدا لهذه القيم من نفسه في مجالات الحياة جميعا، ويربي جيلا متكاملا على عينيه ليشكل أيضا أنموذجا مجتمعيا، يستمر المسلمون في مقاربته وتلمس سبله للارتقاء والنهوض، فقال: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ) (أخرجه البخاري ) . [ ص: 12 ]
فالرسول القدوة لم يقتصر- كما أسلفنا- على إبلاغ النص وإيصاله ونقله، على أهمية ذلك وضرورته، وإنما اعتبر أن الجانب الآخر لا يقل شأنا وأثرا، وهو إعمال النص أو الوحي في واقع الحياة وإحداث التغيير الاجتماعي.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثالث والسبعون: " الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري.. أنموذج مالك بن نبي " للأستاذ بدران بن مسعود ابن الحسن ، في سلسلة " كتاب الأمة التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر ، مساهمة في بناء الوعي الحضاري الإسلامي المعاصر، ومحاولة البحث في منهج النهوض وشروطه وأدواته، وتقديم دراسات منهجية لاستدعاء هذا الفقه الحضاري الذي لم يتحقق بعد في واقع المسلمين اليوم بالأقدار المطلوبة، واسترداد دور الوحي وعطائه في حياة الناس، وتقويم مسيرة الأمة الإسلامية لإخراجها من جديد لتقوم برسالتها في إلحاق الرحمة بالعالمين، والمشاركة في الحضارة الإنسانية بتصويب مسارها وتخليصها من أزماتها، وتحديد الموقع المناسب لدور المسلمين فيها حماية لإنسانية الإنسان، وتحريك الطاقات المعطلة في المسلم المعاصر، وشحذ همته، واستعادة عافيته، وإدراك رسالته ومسئوليته، وتحرير معاييره التي أسسها له الوحي [ ص: 13 ] مما لحق بها من اجتهادات البشر، وما تراكم عليها من آثار الغزو الثقافي والتحكم الفكري.
وقد يكون من الأهمية بمكان العمل على تحرير المسلم المعاصر وتقديمه للساحة الحضارية بمعايير سليمة تمكنه من التبادل المعرفي، وتحقق له التوازن المنهجي الذي ينقذه من حالتي الارتماء والانغلاق، لأن كلتا الحالتين تشكل نوعا من الأمراض الثقافية البعيدة عن مصباح الوحي، والتأكيد على أن فترات التألق والإنجاز الحضاري في التجربة التاريخية الإسلامية جاءت ثمرة لنظرة متكاملة، وإنجازية لجميع جوانب الحياة، بعيدا عن الانشطار الثقافي أو الغياب عن الميدان وممارسة الحضارة والتغيير الاجتماعي.
بل لعلنا نقول: إن الحضور الميداني وممارسة الفعل الحضاري والمجاهدة والجهاد، بمفهومه الكبير وفضائه الواسع، هو سبيل الهداية للسنن والقوانين وشروط السقوط والنهوض،
يقول تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت : 69) .
فالنفرة لهذا الجهاد الكبير، ومعرفة الواقع بكل مكوناته، ومحاولة تحليله وإرجاعه إلى عوامل نشوئه، وأسباب علله وأمراضه ونهوضه [ ص: 14 ] وإنجازه، هو من الفروض الحضارية التي تمنح الفقه والهداية والتبيين والموعظة والوقاية من الإصابة،
قال تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران:137-138) ، ذلك أن النص هنا يدعو صراحة لعدم الانكفاء على الذات والاقتصار على التجربة الذاتية، على الرغم من أنها مسددة بحراسة الوحي، وإنما يطلب التوغل في التجربة البشرية ودراستها، بأمر الوحي نفسه، لأن هذا السير الذي يعتبر مصدر معرفة حضارية هو من عطاء الوحي أيضا.
وهذا السير، حتى يحقق عبرته ووقايته سلبا أو إيجابا، لا بد له من معيار دقيق وسليم، فإذا فقد المعيار أو شابته شائبة كان الارتماء، وإذا قصرت الرؤية لعطاء الوحي وخلوده كان الانكفاء، وإذا استصحب الوحي كما ينبغي كان التبادل المعرفي، وإغناء التجربة الذاتية من خلال الفضاء الحضاري.
وتزداد أهمية هذا التبادل المعرفي، لأنه يبصر بـ (الآخر) بعقيدته وثقافته وتاريخه وحاضره، ويشكل دليل العمل والتعامل معه من منطلق شرعي، وهو أن رسالة الإسلام رسالة عالمية إنسانية، ولاختيار للمسلم في وجوب إبلاغها (للآخر) ، وكيف يتحقق هذا الإبلاغ إذا لم نعرف (الآخر) تماما. [ ص: 15 ]
ذلك أن أي نهوض أو بناء حضاري يتجاهل (الآخر) أو يتجاوزه، فلا يفيد من إيجابياته لينميها ويعتبر بسلبياته فيتجنبها، هو نهوض معزول عن الرؤية الإنسانية، ميدان الرسالة الإسلامية الطبيعي، ومنقوص منهجيا، وعلى الأخص في هذا العصر، الذي بلغ شأوا مذهلا في الاتصال والتواصل، فالذي لا يذهب إلى العالم يجيء العالم إليه، والذي لا يعد العدة للتعامل مع العالم لا يمكن أن ينجو بنفسه وإنما سوف يسقط من التاريخ والحاضر والمستقبل، والذي لا يحسن الإفادة من العطاء العالمي يحرم الكثير، والذي لا يعتبر بالتجارب العالمية ويبدأ من حيث انتهى (الآخر) ، ينتهي إلى الانقراض والتآكل ويكون عبرة لغيره، فالعاقل من يعتبر بغيره، والأحمق من يصير عبرة لغيره، والرسالة الإسلامية لم تكن بدعا من الرسالات، ولا الرسول كان بدعا من الرسل، وإنما هو امتداد لتاريخ النبوة مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.
لقد جاء الإسلام لبنة في بناء فأكسبه الاكتمال ووسمه بالكمال، والدين الذي أكمله الله بالإسلام ليس الصورة الأخيرة، وإنما هوالدين التاريخي للنبوة الذي انتهى بكل عطائه وعبره إلى الرسالة الخاتمة، ذلك أن الخاتمية تعني من بعض الوجوه استيعاب (الآخر) وتقويم تجربته واستقرارها في النبوة الخاتمة، فالله سبحانه وتعالى يقول: [ ص: 16 ] ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة ) (المؤمنون:52) ، على مدى تاريخ النبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( الأنبياء أبناء علات ) (أخرجه مسلم ) ، ويقول: ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولن: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) (أخرجه البخاري ) .
لذلك نقول: إن معرفة (الآخر) والإحاطة به عقيدة وتاريخا وواقعا يعتبر من اللبنات الأولى للدعوة إلى الله، وبدون ذلك قد تصبح الدعوة نوعا م الخبط عشواء، كما يقال.
ولو استعرضنا الكثير من سور القرآن الكريم لوجدنا أن الحديث عن (الآخر) بعقائده وعباداته وعلاقاته الاجتماعية وممارساته اليومية ومواقفه من النبوة وعواقب تصرفاته تشكل مساحة تعبيرية، بل مساحات تعبيرية كبيرة وكبيرة جدا تكاد تفوق الحديث عن العقيدة الإسلامية والدعوة والعبادة والسيرة الذاتية لمحمد عليه الصلاة والسلام ومسيرة الدعوة وتاريخ الجماعة المسلمة، وما ذلك إلا لأهمية ذلك وضرورته لأمة الرسالة الخاتمة، التي لا بد لها لتقوم برسالتها بشكل سليم من استيعاب تاريخ الأمم السابقة. [ ص: 17 ]
بل لعنا نقول: إن إيراد ذلك جميعه من حيث الهدف والمقصد والمصب النهائي يشكل رصيدا عظيما وتجارب غنية وأعمارا متطاولة تضاف إلى رصيد وتجربة وعمر الرسالة الإسلامية، لتجعل جذورها ممتدة تبدأ مع تاريخ البشرية الأولى منذ بدأ الخلق، وتتحقق بالخلود والاستمرار حتى ينشئ الله النشأة الآخرة. ذلك أن الخارطة الفكرية والثقافية والاجتماعية والعقيدية للمجال الذي يطلب من الملم العمل فيه يعتبر من البصائر، التي تمكنه من كيفية التعامل معه بدقة ومنهجية وعلم حتى لا يكذب بما لم يحط بعلمه.
لذلك نقول: إن استحضار الحضارات والثقافات وتاريخ الأمم السابقة وتاريخ النبوة وعدم القطيعة معها هو دين من الدين،
يقول تعالى: ( قل سيروا في الأرض ) (الروم:42) ، ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90) ، ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) (الأحقاف:35) .
هذا الاستحضار أو هذا الشهود الحضاري، هو الذي يحقق المناعة والوقاية الحضارية، أو بعبارة أخرى: إن هذا الهضم الحضاري الذي يتحقق للمسلم المستهدي بمعرفة الوحي هو الذي يمكنه من التقوى بالعناصر المفيدة ليقوى وينمو على مختلف الأصعدة، ويؤهله للوراثة الحضارية، كما يمكنه من طرح الفضلات الحضارية ومحاصرة امتدادها [ ص: 18 ] وآثارها والتطهر منها، وعلى ذلك فلا يمكن اعتبار معرفة (الآخر) والتحاور معه والإفادة منه عدول عن منهج الإسلام، وإنما هو عين المنهج الإسلامي، أو هو المنهج القرآني.
وهنا قضية قد يكون من المفيد التوقف عندها بما يمكن أن يسمح به المجال وهي ما يتم حاليا من القراءة النصفية لمعرفة الوحي، حيث يرى بعض المشتغلين بالأمر الثقافي أو الهم الحضاري، أن التاريخ هو المختبر الحقيقي والصحيح لسلامة الأفكار وصدقها، هكذا بإطلاق، وأن الله سبحانه وتعالى أمر بالسير في الأرض وتلمس المعرفة التاريخية واكتشاف السنن الفاعلة في الأنفس والآفاق والتحقق بالبراهين الماثلة في الحياة، وجعل هذا السير والاطلاع التاريخي سبيلا للإيمان بوحي الله، أكثر من الدعوة إلى بناء الإيمان بإيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تطلب من الناس أن يؤمنوا بالاقتصار على إبلاغهم بأن الله هو الرب، وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت .. إلخ
والأمر فيه بعض أو نصف الصواب، لكنه مشبع بكثير من المجازفة والاهتزاز وانعدام ضبط النسب في قراءة مدلولات الوحي واستيعابها وتكامل أدلته.
فابتداء نقول: إن الذي وجه إلى قراءة التاريخ والتوغل فيه والتعرف على سنن السقوط والنهوض وأتى لذلك بأمثلة وتدريبات هو الوحي نفسه، الكتاب والسنة. [ ص: 19 ]
فالتوجه للتاريخ وقوانين الحركة الاجتماعية واستكناه ذلك، والاستدلال عليه، هو من عطاء الوحي، الذي وضع العقل المسلم على الجادة الحضارية الحقيقة. وليس هذا فحسب، وإنما قدم الوحي للمسلم قراءة للكون من حوله، ودعاه إلى النظر في هذا الكون، وجعل هذا النظر وهذه القراءة ثمرة مكملة للقراءة الأولى في نصوص الوحي.
فالقراءة في آيات القرآن والبيان النبوي هي المنطلق للنظر في الكون والتأمل فيه واكتشاف سننه، الذي يشكل إحدى المرتكزات لمعرفة الوحي، كما أن السير في الأرض والتبصر بتاريخ الأمم والتعرف على سنن السقوط والنهوض هو مرتكز آخر لا بد منه.. وكذلك التوجه صوب الإنسان والتعرف على فطرته وكينونته بكل تعقيداتها بما يمكن أن يسمى بعلم الإنسان البيولوجي والسيكولوجي هو من القراءت المطلوبة والمرتكزات الأساس أيضا لمعرفة الوحي، ومنبع ذلك كله إنما يتحقق من قراءة وحي الله المسطور.
وتأتي قراءة النفس والكون المنظور والعبور لأعماق التاريخ ثمرة وتجربة أو عطاء ميدانيا، واقترانا للفكر بالفعل، وتأكيدا للنظرية بالبرهان، وتصديقا للقيم بالواقع، وخضوع الحركة الاجتماعية لسنن دقيقة كالحركة الكونية، لكن ذلك لا يدعو إلى المجازفة والقراءة [ ص: 20 ] النصفية لنصوص الوحي نفسه، وجعل قراءة التاريخ والسير الحضاري معا مقابلا حاكما على صدقية الوحي.. فهل كانت دعوة نبي الله نوح إلى قومه بعد أن ( واستكبروا استكبارا ) (نوح:7) غير صحيحة وغير صادقة، حيث رفضت ولم تحدث تغييرا اجتماعيا؟ وهل جاءت خارج السنن الاجتماعية التي شرعها الله؟ نعم هي جاءت لتدلل على أن الأمة المعرضة المستكبرة مستحقة للهلاك، وهذه سنة أيضا من سنن الانقراض والاستبدال الحضاري، لكن تبقى المشكلة في القراءة، فسنة سقوط الأمة والسقوط التاريخي هي التي حكمت القوم، وليس دعوة نوح التي رفضها القوم ولم تحقق أهدافها فيهم، ولم تحدث أثرا تاريخيا، بل لعل وحي الله إلى نوح الذي أكد على ما لحق بقوم نوح وقدمهم كعبرة للأمم.
إضافة إلى أن هناك بعض الأحاديث والآثار الصحيحة تدل على أن النبي يبعث ولا يؤمن به أحد، ( فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد... ) (أخرجه البخاري ) . وهذا يدل من بعض الوجوه على أن الحياة موقف وثبات على الحق ولو لم يجد هذا الحق ممرا إلى التجمع البشري.. فهل دعوة النبي الذي لا أتباع له ولم يتحقق لها تصديق في الواقع التاريخي هي [ ص: 21 ] غير صحيحة في ضوء المختبر التاريخي، كما يراه بعضهم ويحكم عليها بالفشل؟!
وهنا قد تطرح الإشكالية التي تقتضي مزيدا من النظر والإحاطة وحسن الإدراك لضبط النسب: هل الإنسان هو الذي يصنع التاريخ ويستطيع من خلال فهم الحركة التاريخية أن يقوم بالمداخلة وتحويل المسار، أم أن التاريخ هو الذي يصنع الإنسان ويسيره على هواه، وأن الإنسان في ذلك مسلوب الإرادة وخاضع للحركة التاريخية التي تحكمه والتي تتحقق بالصرامة كحركة الكواكب؟!
إن التاريخ الذي هو مجموع الفعل البشري، ليس معيارا لصواب وصحة الفعل البشري ومصدرا لتقويمه، وليس معيارا لاختبار الوحي والحكم عليه، وإنما الوحي بمصدريته هو المعيار وهو الحاكم على الفعل البشري، والمصوب لمسيرة المجتمع، والمقوم لها، المبين لمواطن الجنوح والخطأ وأسباب السقوط والانقراض.. فالوحي هو مصدر الأحكام والتشريع، وليس التاريخ.. والوحي هو الذي يحدد وظيفة التاريخ، ويلفت النظر نحو سنته وعبرته.. فعلو الكفر والظلم والاستبداد السياسي لفترات تاريخية قد تفوق أعمار أجيال متتابعة لا يعني أن الامتداد التاريخي يختبر صوابية وصحة المسير ويؤكدها، بل إن الوحي يعتبر ذلك الالتواء مؤذنا بخراب العمران، ومورثا للعواقب المدمرة، ولم [ ص: 22 ] يكن علو فرعون وامتداده لمئات السنين دليل صحة مساره وخطأ دعوة الرسل، وإنما جاءت النبوة لتؤكد أن هذا الركام التاريخي وهذه المساحة الزمنية وهذا العلو في الأرض هو نوع من الغثاء والعبث والفساد في الأرض، وأن المستضعفين من قوم موسى سيرثون الأرض ويؤمون أهلها إل الخير ويصوبون مسيرة التاريخ،
قال تعالى: ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) (القصص:5-6)
ولا أدل على أن الوحي هو المعاير والحاكم على التاريخ كفعل بشري من أنه هو الذي بين السنن المطردة والحاكمة للمسيرة البشرية: سنن أكد صدق الوحي واطراد سنة الله في حياة الناس، وليس العكس أو القراءة المعكوسة.
والسنة التي تحكم حياة البشر من أفراد وجماعات ليست حتمية، فالاطراد لا يعني الحتمية بحيث تلغى إرادة الإنسان واختياره، وتحاصر قدراته ليصبح أسيرا لمجرى التاريخ، عاجزا عن أية قدرة على التحويل،
وإنما هي قدر من أقدار الله: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب:38) ، يمكن مدافعتها بأقدار أخرى. [ ص: 23 ]
وهذه المداخلة لحركة السنن، أو المدافعة للقدر بقدر، ليتحقق التسخير وتفعل الإرادة وتتحقق المسئولية التي هي في النهاية ثمرة للإرادة والحرية ومن لوازمها، هذه المدافعة أو المداخلة تأتي ثمرة لفهم السنن وسيرورتها، وهذا الفهم وهذه الإحاطة هي التي تمكن من المداخلة.
ولعلنا نقول: إن القدرة على المدافعة والمداخلة وبلوغ الحد الأعلى من إمكانية التسخير إنما يتحقق بالمزيد من فهم السنن، لذلك فإن فهم السياق الحضاري للحضارات الأخرى، هو الذي يمكن من الإفادة الحضارية، ويمكن من المدافعة الحضارية وتوجيه الحضارة، أو التمكين من المداخل لكنهها ونسقها وسياقها ومن ثم توجيهها.
نعود إلى القول: بأن الإنسان بما منحه الله من التكريم عن سائر الخلق حيث جعله حرا مختارا، يبقى في الرؤية الإسلامية هو المسؤول الأول عن الكسب والبناء والنهوض الحضاري، كما أنه المسؤول عن التخاذل والتخلف والسقوط الحضاري، لأن لأن المسئولية فرع الحرية، وحرية الإرادة هي الإنسان في القراءة النهائية لعناصر الحضارة وتفعليها وتحليلها وتركيبها، فهو مناط التغيير وإحدى وسائله الأساسية، وهو صانع التاريخ وصانع الحضارة ومصنوع بهما، حتى إن معرفة الوحي التي تشكل الإطار المرجعي والعطاء المعصوم الذي يحمي الإرادة من [ ص: 24 ] الانحراف، والطاقات من الهدر، والعقل من المجازفات والكهانات والخوارق والخرافات، تعتبر من ثمرات الإرادة، فالإيمان بالوحي هو التزام أو يبدأ التزما وينتهي إلزاما.
وقضية التدين تعتبر أعلى درجات الحرية وأرقى مجالات الاختيار،
يقول تعالى: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) ، ( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22) ، ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) ..
ذلك أن محل العقيدة القلب، ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الدليل والبرهان الذي يقود إلى الاختيار- والاختيار هنا الالتزام عن قناعة وطواعية، والإسلام لغة: انقياد "اخيار" وإذعان- فلن ينفع معه الإكراه، لأن الإكراه قد يصنع قناعا مزيفا ولكنه لا يحقق قناعة.
ومن هنا نقول: إن الإنسان أساس الحضارة ومحورها ووسيلتها وهدفها، ولذلك تعظم مسؤوليته ويعظم حسابه عن حمل أمانة الاستخلاف والقيام بأمر العمران، ولقد أكد القرآن الكريم ذلك بخطابه لأكرم جيل وخير قرن،
للصحابة الكرام: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) ، فلا مسئولية بدون حرية، ولا حرية بدو مسئولية. [ ص: 25 ]
وهذه الحرية أو هذه المسئولية عن العمل تشكل المؤشر الصحيح والهاجس الدائم لفحص العمل واختباره واستبصاره، وتصويب نيته، والعزم عليه قبل تنفيذه، واختباره واستبصاره، وتصويب نيته، والعزم عليه قبل تنفيذه، واختبار مدى استقامته بعد حصوله، ومحاولة تجاوزه بالتوبة وجبر الخطأ وإسقاط المسئولية، في حالة حصول أو فعل سيئة وحدوث تقصير، فالإنسان هو المسئول الأول.
ولقد أدرك ذلك آدم أبو البشر عليه السلام ، عندما وقع بالخطيئة وأكل من الشجرة المحرمة بعدما انحل عزمه وغلبته شهوته، فتاب،
قال تعالى : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) (طه:115) ..
وعلى الرغم من أن الشيطان هو الذي تولى توهين العزم وإثارة وتحريك غريزة النزوع إلى الخلود، وأزل آدم وزوجه فأقدما على الخطأ، اعترفا بأن المسئولية مسئوليتهما والخطيئة خطيئتهما، على الرغم من بروز دور الشيطان في ذلك،
فقالا: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف:23) ، فالعمل جاء نتيجة الإرادة، وما ترتب عليها من المسئولية التي انتهت بهما إلى الهبوط إلى الأرض.
وكون الإنسان هو وسيلة التغيير الحضاري، وإرادته واختياره هو الأساس والمرتكز في هذا التغيير، فإن ذلك لا يعني التضاد والتصادم بين السنن (أقدار الله) والحرية الإنسانية، فوحي الله الذي مكنه [ ص: 26 ] من مفاتيح الكون وأرشده إلى سننه وسبله، لأن الله الذي خلق الإنسان حرا مختارا دون سائر الخلق، وعلمه الأسماء، ومكنه من الأرض واستعمره فيها، ودعاه إلى التفكير في اكتشاف السنن وامتلاك القدرة على تسخيرها- ومن التسخير مدافعة قدر بقدر وسنة بسنة- هو الذي أراد له أن يريد، وأن تكون إرادته في التغيير الحضاري هي أساس التغيير، فالله أراد للإنسان أن يريد، وتصبح إرادته هي الفاعلة في التغيير الحضاري.
بل لعل الأمر أدق وأبعد مدى مما يتصور الإنسان عما منحه الله من طاقات إرادية تكاد تكون مطلقة، عندما جعل حصول التغيير بإرادة الله لا يتحصل ولا يجئ إلا ثمرة لإرادة التغيير عند الإنسان،
لذلك فعندما يقول تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ، نرى أن الضمير في " لا يغير " يعود إلى الله سبحانه وتعالى ، والواو في قوله تعالى " يغيروا " يعود إلى البشر، فأية فاعلية إرادية حضارية أكبر من ذلك، وأي تكريم من مواضعات وقوانين البشر يصل إلى مستوى ذلك؟ فهل يمكن بعد ذلك الإلقاء بتبعة التخلف الحضاري على الإسلام والإيمان بقضاء الله وقدره، بينما هو في حقيقته بسبب الانسلاخ عن الإسلام وانطفاء فاعلية المسلم، الذي تخاذل وبدأ يبحث عن مسوغات لتخلفه، ويجعل ذلك مسئولية خارجة عن نفسه؟! [ ص: 27 ]
وهنا قضية قد يكون من المناسب استدعاؤها لساحة الاهتمام والتفكير في سبيل للخروج، وهي أننا أضعنا أوقاتا كثيرة وطاقات كبيرة في الحديث عن الأصالة، والتراث، والإمكان الحضاري، ومنهج النقل الذي تفردت به الأمة المسلمة لحماية معرفة الوحي في الكتاب والسنة، حتى أطلق علينا بحق أمة الإسناد، إضافة إلى الزهو والفخر بالتجربة الحضارية التاريخية وامتلاك المعيار والأنموذج المشهود له من المعصوم في خير القرون، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن هذا الإمكان هو الذي حمى الأمة من الذوبان، وأكسبها المنعة الحضارية والوقوف في وجه الغزو الثقافي والذوبان.. إلخ، إلا أن هذا الإمكان الحضاري المفترض له أن يؤهل للوثبة النوعية والإقلاع من جديد، تحول على يد مسلم اليوم المتخاذل المتخلف إلى معوق ومانع حضاري.
ولعلنا نقول: إن هذا الإمكان تحول ليصبح صفعة حضارية، وعلى الأخص عندما تنعكس عقلية التخلف على تفسيره وكيفية التعامل معه، والوقوف عند الاشتغال بالوسائل، وغياب المقاصد والأهداف، أو بعبارة أخرى التحول والاقتصار على تحرير النصوص وإثباتها، وتحقيق التراث وتصويب الإسناد، عن إعمال هذه النصوص والمواريث الثقافية في حياتنا وتنزيلها على واقعنا وإجابتها عن مشكلاتنا، وإعادة قراءتها في مناخ جديد ومعطى عالمي جديد وشروط جديدة. [ ص: 28 ]
إن إثبات النص وتحقيق المخطوطات وحفظ التراث على أهميته وجلال قدره إنما يقع في إطار الوسائل، التي سوف تفقد جدواها إذا لم تؤد إلى إعمال النص في واقع الحياة والتقدم به لحل مشكلة الناس، ومنحهم دليل العمل والتعامل.
ونحن هنا لا نريد أن يفهم من كلامنا بخس تلك الأعمال التي تشكل نصف الطريق، ومرتكزات النهوض والاحتفاظ بالإمكان الحضاري حتى يهيئ الله الجيل الذي يفعله وينزله على واقع الناس ببرامج وخطط تبنى في ضوء الاستطاعات والإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، وإنما الذي نريد استدعاءه إلى ساحة الاهتمام هو هذا الهاجس والقلق الحضاري، الذي يعيد الفاعلية للمسلم ويعيد المسلم إلى قلب الحضارة ليمارس دوره ورسالته في ضوء معرفة الوحي والميراث الثقافي وأنموذجية خير القرون في الفهم والتطبيق، وإلا أصبحنا كالذي يوبخ نفسه، ويبرهن واقعه المتخلف على عدم صحة دعواه.
فامتلاكنا للنص الإلهي السليم الخالد، لا نرى له إنتاجا دالا على خلوده في حياتنا، وإعجازه العلمي لم ينتج في حياتنا المعاصرة علما ولا فرع علم إضافي.
والتراث المعجزة، لم يجب عن الكثير من أسئلتنا المعاصرة، وبقي عند حدود الفخر، أو عند عقدة الفخر بالماضي، التي قد تتحول إلى تغطية مركب النقص الذي نعاني منه. [ ص: 29 ]
والأحاديث التي بلغنا الأوج في تحرير رواياتها، لم نبذل إلا القليل في تحقيق أهدافها ومقاصدها في الواقع، حتى أصبح النص والتراث والأصالة أشبه بشعارات معلقة على السقوف والجدران والمنابر، وأشبه بتمائم محمولة على العقول بدل الصدور والأعناق، نحاصرها ونبطل جدواها بتخلفنا وعجزنا.
ومدارسنا ومؤسسات التربية عندنا، ليست أحسن حالا، فهي لا تزال قائمة على النقل والتلقين بدل الاجتهاد والتفكير، ليتحول الجيل القادم إلى نسخ مستقبلية مكررة عن الواقع دون تغيير أو تبديل في الذهنية، بل لعلنا نقول: إن النسخ الأصلية تبقى أوضح من النسخ المكررة عنها.
وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية، ما تزال تقوم على الشحن من الكتب والتفريغ على رءوس الطلبة، الذي هو اليوم أشبه بالشروح والمختصرات التي حفل بها عصر الانحطاط الثقافي، والأكثر حفظا هو الأعلى علامة.. والرسائل العلمية العليا التي من المفترض لها أن تشكل طلائع ثقافية متقدمة لا تخرج بعمومها في موضوعاتها عن هذه العقلية: الشحن والتفريغ، لكن بأشكال وتقاليد وأسوار أكاديمية مستعارة من (الآخر) في غالب الأحيان، وقد يحاكم الطالب فيها إلى الأشكال والوسائل أكثر مما يحكم إلى الأهداف والمقاصد، أو على [ ص: 30 ] الأقل وضع الطالب أمام أدواته البحثية من أشكال ووسائل، وهل أعملها فعلا؟ وماذا أنتجت؟
والأمر بمجموعه، من منبر الجامع إلى ما تحت قبة الجامعة إلى المدارس والمعاهد وحتى رياض الأطفال محكوم بثقافة واحدة، فالكلام يتمحور حول عظمة الإسلام، ومعجزة تراثه، وتعظيم تجربته التاريخية، أو الإمكان الحضاري بشكل عام، دون التفكير ولو بأقدار بسيطة في كيفية رسم خطوة سليمة لاستعادة هذه العظمة، والتعامل مع هذا التراث، وتوظيف هذا الإمكان هذا الإمكان الحضاري في انتشال واقع الأمة واسترداد دورها.
ولعل هذا، أو هذه العقلية، أو هذا المناخ المتخلف، هو الذي مكن لـ (الآخر) من حياتنا رغم الإمكان الحضاري الذي نمتلكه.
وأي صوت خارج عن هذا الإيقاع يعتبر نشازا شاذا، إن لم يمكن إيقافه تحاصر آثاره وتأثيراته، لذلك تجيء كثير من محاولات التغيير الحضاري والاجتماعي أقرب ما تكون إلى مجازفات ومغامرات غير نضيجة، تمكن أكثر فأكثر لإيقاع السكون والتخلف، بدل أن تسهم في تغييره.
لذلك نقول: بأن فقه التغيير أو فكر التغيير، والقدرة على تحقيق مقاصد النص وإعماله في واقع الناس، والقدرة على توظيف مخزون [ ص: 31 ] التراث للإجابة عن أسئلة الحاضر والمساهمة برؤية المستقبل أو استبصاره، والإفادة من التجربة الحضارية التاريخية، والقدرة على وضع الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة ومحاولة الاعتبار بعبرته، أو ما يسمى بكلمة مختصرة: " الفقه الحضاري " ، ما يزال غائبا إلا من بعض الإشارات والإضاءات والبروق والالتماعات التي لا تلبث أن يعقبها الظلام والخبط الأعشى.
أما المسلم المعاصر فهو يعيش في نوع من الانهزام الحضاري، فلا هو قادر على تمثل حضارته وقيمه وتراثه، ذلك أن ارتباطه هو ارتباط انحياز وحماس فقط، ومفاخرة بإنجاز الأجداد تغطية لمركب النقص أمام حضارة (الآخر) ، كما أسلفنا، ولا هو واجد في الحضارة الغالبة اليوم سعادته بما تمثل من قطيعة مع شخصيته وهويته وتراثه وقيمه، أي لا هو في مستوى إسلامه ولا في مستوى عصره، فهو يعيش الغربتين.
ولعلنا نقول: إن من يكن في مستوى إسلامه لا بد أن يكون في مستوى عصره أيضا، لأن هذا الانشطار المدعى لا يخرج عن أن يكون نظريا أو مسوغا لحالات الانطفاء والتخلف.
ولا شكل أن السباق الحضاري والحوار الحضاري يؤدي إلى النمو والارتقاء واكتساب قدرات إضافية للقيام بالتسخير وأداء مهمة [ ص: 32 ] العمران البشري، كما يؤدي إلى اكتشاف الكثير من السنن التي تحكم الحياة والأحياء وتمكن من مغالبة قدر بقدر أو سنة بسنة.
ولا بد من الاعتراف هنا أن السبق الحضاري يشكل نوعا ولونا من ألوان الارتهان الثقافي، ويقود إلى التفكير ضمن أطر مسبقة لحضارة الغالب، مقارنة ومقاربة ومواجهة وحوارا وغير ذلك من ملامح هذا الارتهان على مستويات الاقتصاد إنتاجا واستهلاكا، والسياسة، والثقافة، والتربية، والتعليم، حيث لا يمكن تجاهل وتغييب سطوة (الآخر) بسبب سبقه وغلبته، تلك الغلبة التي تعرض قيم الأمة المعطلة لامتحان وتحد رهيب، وتدعو إلى البحث عن سر ذلك: هو العطالة والانطفاء في الأمة بسبب عجزها عن التعامل مع قيمها، أو هو في ذات القيم؟
إن هذا التحدي الحضاري أدى شكل من الاختلاط في الألوان والعجز عن التمييز بين القيمة والذات، كما أدى إلى قدر أكبر من الضياع والضلال كرس تخلف الأمة وعجزها، لتوهم كثير من مفكريها أن سبب التخلف جاء نتيجة للاستمساك بالإسلام وليس ثمرة للانسلاخ منه، ولا ندري لماذا لا تدعو هذه الرحلة الطويلة من الانسلاخ التي انتهت إلى الضياع لإعادة فحصها واختبارها والحكم عليها بشجاعة!! [ ص: 33 ]
ويزداد الارتهان الثقافي والحضاري أكثر فأكثر اليوم، حيث أصبع ذراع الحضارة ممتدا إلى البيوت والأسواق والميادين العسكرية، وعقلها وفلسفتها يشكل المناخ السائد والمؤثر للتربية والتعليم والإعلام والأدب والثقافة والسياسة، وأدواتها ومناهجها المعرفية تكاد تصبح متفردة في عالم التربية والثقافة. والأمر الذي يمكن لذلك هو التوجه صوب العولمة، والحضور في كل المواقع للأنماط الحضارية الواحدة في محاولة لتنميط الحياة وفق الأنموذج الغالب.
وتأتي سطوة الحضارة وقدراتها أو إمكانها من توجهها صوب العالمية أيضا، لأن هذا التوجه يحاول أن يحتوي جميع الخبرات العالمية ويجذبها ويمتصها من مواقعها لتصبح دماء متجددة وجديدة تضخ باستمرار في شرايين الحضارة المعاصرة، إضافة إلى أن هذه الحضارة بتوجهها صوب العالمية تحاول السيطرة الجغرافية على أماكن بزوغ الحضارات وأفولها واستيعاب الهجرات الحضارية واحتواء دوراتها..
فمختبرات العالم جميعه يراد لها أن توظف لخدمتها.. وطاقات العالم أيضا تحت قبضتها، وأسواقه، وخدماته، وجامعاته، وأرضه، وسماؤه، وطرائق تدينه أيضا، لا تخرج عن سيطرة المدى الإعلامي للحضارة المتحكمة.
ونستطيع القول: إن الحضارة المعاصرة لم تعد صناعة أمة واحدة، [ ص: 34 ] وجغرافية واحدة، أو خبرة واحدة، وإنما هي خلاصة لخبرات عالمية تتراكم وتتحكم فيها الحضارة المعاصرة، وكلما تقدمت في العالمية كلما كانت الأقدار على البقاء والاستحواذ والاحتواء لحركة الحضارة، فهي تشبه من بعض الوجوه وإلى حد بعيد سحابة هارون الرشيد رحمه الله، أينما تحركت ستمطر على أرضه، وينعم بخيراتها.
لذلك فليس من المستغرب أن تتداخل فيها الدورات الحضارية الثلاث، وتتجاور في وقت واحد، وليس من المستغرب أيضا أن تتقوى بغيرها، وأن تكتشف أمراضها، وتحاول أن تداوي نفسها بنفسها..
والدراسات والإحصاءات كثيرة حول أمراض الحضارة وأزماتها وسبل العلاج والإنذار بسوء العواقب من قبل أهلها، والكثير ن الذين ينتظرون سقوط الحضارة اليوم وينظرون في أزماتها إنما يعيشون على إحصاءات أصحابها وإنذارات أصحابها، فالحضارة المعاصرة اليوم تداوي نفسها بنفسها، لذلك سوف تطول حقبتها، لأنها تستفيد من الطاقة، والخبرة والعلاج، وتستوردها وتستحوذ عليها من كل الدنيا.
ومن هنا نقول: إن عصر العولمة هذا يقضي بأن تكون لكل أمة موقع في الحضارة العالمية، قد يتسع وقد يضيق، ولكل أمة نصيب منها أيضا، سواء في ذلك الإنتاج الحضاري، أو الاستهلاك لمنتجات الحضارة على حد سواء. [ ص: 35 ]
لذلك فمحاولات الرفض والإدانة والانسحاب لم تعد مجدية، لأنه لا يمكن أن توجد جزر معزولة عن سطوة الحضارة يأوي إليها الهاربون في عالم الغد، وإنما التقلب بين جنباتها.
فلا مناص للمسلم من عملية استيعاب الحضارة أو التفكير بكيفية التعامل معها، من خلال المرجعية الشرعية والقيم الثابتة في الكتاب والسنة، وتحديد الموقع بدقة من هذا العطاء الحضاري الواسع، وما يمكن للأمة أن تقدمه بحيث يشكل إضافة مفقودة في الحضارة المعاصرة، أو على الأقل يشكل غيابها الكثير من المعاناة والأزمات..
فأي تفكير بمنازلة الحضارة أو مسابقتها في المجال التقني أو المادي يمكن أن يكون لونا من الانتحار وضياع الأوقات والطاقات، لأن السبق الحضاري قطع مسافات من الصعب طيها بسهولة، والتحكم الحضاري للغالب يستحوذ على كل شيء، ولا يسمح بأية محاولة خارجة على إيقاعه إلى أن يشاء الله.
إن هذه العولمة، بكل المنتجات الإعلامية والثقافية التي تمد لها وتصنعها وتؤهل العالم لقبولها، تشكل لنا حلا – نحن المسلمين- يمنحنا التقدم بما عندنا للعالم بقدر ما تشكل لنا إشكالية إذا نحن انكفأنا ولم ندرك موقعنا منها بدقة ونوع العطاء الذي يشكل اليوم حاجة عالمية على مستوى الفرد والجماعة، فالنبوات التي ورثناها [ ص: 36 ] وانتهت إلى النبوة الخاتمة تاريخيا لم تأت لمسابقة الحضارات القائمة بكسبها المادي في إعمار الأرض ونحت بيوت أقوى أو بناء أهرامات أعلى وأمكن، أوبتكديس الثروات، أو بالتأله على عباد الله والاستكبار في الأرض.
وإنما جاءت لتعيد الحضارات إلى عقلها ورشدها، وتقضي على الظلم، وتشيع العدل، وتستعيد إنسانية الإنسان، وتخلصه من الاستكبار والشقاء.. جاءت لتعدل الحضارة وتضبط حركتها بأهداف خيرة وتوازن سليم، جاءت لتربط العلم بأهدافه الخيرة، وتزيح فوارق اللون والجنس والقوم، وتزيل كل أسباب التعصب والتمييز والعلو في الأرض، وتحقق المساواة، وتعتبر أن ميزان الكرامة هو كسبي ومن صنع الإنسان.
وبذلك نقول: إن الحضارة الإسلامية مؤهلة اليوم لإنقاذ الحضارة وإنقاذ إنسانها، وهذا لن يتأتى بالادعاء، وإنما باستيعاب الحضارة والتخصص بشعبها المعرفية، لتوجيه مسارها من الداخل صوب غايات خيرة.. والذي يمكن من هذا الدور أن العرب والمسلمين يشكلون حيزا كبيرا في جوف الحضارة والمعاصرة، وسوقا كبيرا لاستهلاك منتجاتها، سواء في ذلك السواعد، أو الأدمغة، أو مخزن الطاقات التي تدير عجلتها، إضافة إلى الوجود الإسلامي المنتشر والمستقر في المواقع [ ص: 37 ] جميعا، وما يتملكه من القيم الإسلامية التي لم تعبث فيها أيدي البشر، ولا تخص فئة أو طائفة أو قوما أو منطقة جغرافية، المدعمة بالتطبيق الأنموذج على يد النبوة، وعطاء التجربة التاريخية الحضارية، ودعوة الحضارة الإسلامية إلى العالمية منذ خطواتها الأولى.
ويمكن أن نقول بأن هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب، لأنه يعتبر محاولة جادة وإسهاما متقدما في تأسيس منهج لفهم الحضارة الأوروبية المعاصرة، بأبعادها الفلسفية وتاريخها الثقافي، ومنظومتها المعرفية، وإنتاجها المادي الذي جاء ثمرة لذلك كله، حيث تشتد الحاجة إلى هذا الفهم وامتلاك هذه الأدوات البحثية اليوم أكثر من أي وقت مضى، لما تشكل هذه الحضارة من حضور في كل موقع، ونكاد نقول: في كل بيت بشكل أو بآخر، لتفرض أنماطها الاجتماعية والسياسية والإعلامية والمعرفية، لتفرض أنماطها الاجتماعية والسياسية والإعلامية والمعرفية، وتغرق الأسواق بإنتاجها المادي، وترتهن الناس بسبقها الحضاري، وتحاول من خلال دعوتها إلى العالمية احتياز العالم بخبراته وطاقاته وثقافاته، ومحاولة اكتشاف أمراضها ومداواة نفسها بنفسها، مما جعل التداول الحضاري والدوران الحضاري يتم في داخل دائرة الحضارة نفسها وعلى محورها.
ولا سبيل أمام المسلم للقيام برسالته في إلحاق الرحمة بالعالمين إلا بفهم هذه الحضارة، وتحديد موقعه منها، والتفكير في كيفية [ ص: 38 ] التعامل معها، ومن ثم حسن توظيفها وتوجيهها لما فيه خيرها، من خلال حوار حضاري تتحقق فيه أولى مستلزماته، من فهم (الآخر) واستيعاب حضارته وثقافته، وفهم إمكانيات الذات، ومدى ما تستطيع أن تقدمه وفق رؤية إستراتيجية مدروسة، لأن الانفصال عن الحضارة المعاصرة اليوم يعني الخروج من الحياة.
والمؤسف أن المسلمين المعاصرين على الرغم مما يتوفر لهم من القيم السماوية الثابتة الخالدة والتجربة التاريخية الحضارية، ما يزالون يفتقرون إلى بلورة نظرية حضارية تعتمد المنهج السنني الذي أكد عليه القرآن والسنة، وأتى على ذكر الكثير من التطبيقات من الحياة الأمم السابقة، وأكد على أن الدولة والحضارة العادلة مستمرة ولو كانت كافرة، وأن الدولة الظالمة آيلة للسقوط ولو ادعت الإيمان، لأنها تلبس إيمانها بظلم فتفتقد الأمن والاستقرار والاستمرار.
ويمكن أن نقول: بأن الدراسات في هذا المجال ما تزال ضنينة أو نضيجة على الأقل، حيث ما تزال الكثير من الدراسات تراوح عند عتبة ابن خلدون رحمه الله من القرن السابع الهجري دون أي إضافة تذكر. ولعل في ظاهرة " مالك بن نبي " رحمه الله، الذي خبر الحضارة الغربية من داخلها وأحاط بأبعادها، ما يشكل شهادة حضارية أمينة، تشكل إحدى حواس العقل المسلم الغائبة، لأنه يعتبر شاهد [ ص: 39 ] هذه الحضارة المعاصرة بحق، على الرغم مما يجري عليه من الخطأ والصواب شأن كل أبناء آدم.
والأمل كبير ان يحقق هذا الكتاب برؤيته وأنموذجه نقلة مهمة في الذهنية الإسلامية، فتتحول من التقليد إلى التفكير، ومن الاقتصار على حفظ النصوص إلى كيفية إعمالها في الحياة، وتنزيلها على الواقع، وإخراج الناس بها من الظلمات إلى النور.
ذلك أن قيمة أي كتاب قد تتحدد عندما يلمح القارئ تطويرا في نظرته، وتغيرا في ثقافته، واكتسابا لأدوات بحثية جديدة تفسر له الكثير من المغاليق الحضارية- بعد قراءته- أي يصبح إنسانا آخر عما كان عليه قبل القراءة، والمسلم اليوم بحاجة إلى المزيد من مثل هذه الدراسات الغائبة، والتي أصبحت من الفروض الحضارية والمسئوليات الشرعية.
والله المستعان. [ ص: 40 ]