الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري (أنموذج مالك بن نبي)

بدران بن مسعود بن الحسن

وقفة

آفـاق الاستفـادة

المقصود بهذه الوقفـة هو النـظر في بعـض جـوانب فـكـر ابن نبي (رحمه الله) فيما يتعلق بدراسته للحضارة عموما، ودراسته للحضارة الغربية خصوصا فيما يحتاج إلى تطوير ومزيد من الدراسة، إذ تبين أن ابن نبي في عموم أطروحته الحضارية كان يملك منظورا ومنهجا وأدوات متميزة، يمكن أن نطلق عليها المنظور الحضاري.. ورأينا أهم خصائص منهجه من حيث الأصالة والموضوعية والسننية.

غير أن ابن نبي وفيما يتعلق بالحضارة الغربية، كانت له مجموعة من الأفكار تحتاج إلى وضوح وتطوير أكثر، وذلك راجع إما إلى جدة هذه الأفكار، وبالتالي عدم تبين الصلة بينها وبين الإطار العام للمنظور الحضاري الذي وظفه ابن نبي وطوره، وإما إلى المنهج الذي اعتمد عليه في التوظيف التكاملي لمختلف العلوم، وبالتالي من الصعوبة بمكان تقدير عمق المصطلحات التي استمدها من هذه العلوم وأدخلها في نسقه العام ووظفها في دراسته وفق أدواته في التحليل ومنظوره الحضاري، ووفق منهجه الثقافي. [ ص: 199 ]

ولعل من أهم ما خرج به ابن نبي من دراسته للظاهرة الحضارية الغربية هي الدعوة إلى علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، باعتبار أن الظواهر الأوروبية (الغربية ) ظواهر نسبية تحتاج منا إلى دراسة وفحص، ومن هذه الظواهر علم الاجتماع الغربي المرتبط بالحالة الغربية والإطار الجغرافي التاريخي والحضاري الغربي، وبالتالي لا يمكن تطبيقه على الظواهر التي تنشأ في مجال حضاري مختلف، مع مراعاة ما تسير إليه الإنسانية من الاقتراب بفعل العامل التكنولوجي الغربي خصوصا، ومن التوحد في مصيرها من جراء العالمية المركزية الغربية التي تهيمن على العالم، وتحاول تنميطه وفق الرؤية المادية الغربية. كما أنه قدم مصطلحات تحتاج إلى مناقشة بما تثيره من أسئلة من حيث امتداداتها الدلالية، أو من حيث أصالتها.

نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي

كما سبق القول، فإن ابن نبي (رحمه الله) في نقده لجهود التجديد في العالم الإسلامي، يرى أن المعالجة أو النظرة الحدية التي يتميز بها الفكر الإسلامي إذا تعلق الأمر بأوروبا والغرب، ترجع إلى [ ص: 200 ] عدم الإحاطة بالظـاهرة الأوروبية ومدى نسبيتها [1] ، ومن هنا فهو يدعو إلى دراسة الحالة الأوروبية في جذورها التاريخية وتطورها، ولهذا نجد الوعي التاريخي حاضرا عنده [2] ويركز عليه كثيرا لتتبع تطور الحضارة الغربية ونشأة العلوم فيها وارتباطها بالمستوى الحضارى الذي تعيشه الحضارة الغربية نفسها، كما ترتبط إلى حد ما بالرؤىة الغربية ذات المرتكز المادي، والطامحة للهيمنة على العالم.

ومن بين الأمور النسبية في الغرب نشأة العلوم، فهذه العلوم التي تطورت في الإطار الحضاري الغربي، وارتبطت بالتحديدات العقلانية التي صاغها ( ديكارت ) ، كما ارتبطت بتجريبيته وتجريبية ( بيكون ) ووضعية ( أوجست كونت ) ، ونمت في إطار التطور التاريخي للغرب، وتركزت أساسا في علاج مشكلاته، هذه العلوم لا شك أنها تحمل نوعا من التحيز سواء في نظرياتها أو في أبعادها الفلسفية، أو في تطبيقاتها العملية واستخلاصاتها التي توصلت إليها وصارت في شكل قوانين علمية يحاول الغرب تعميمها وجعلها نماذج موحدة للدراسة والتحليل.

وإذا كانت العلوم الطبيعية أقل تحيزا، وإن لم تخل من هذا [ ص: 201 ] التحيز [3] ، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية تبدو أكثر تـأثرا بالخلفيات الفلسفية والنظرية لمؤسسيها [4] ، وتتجلى فيها الخصوصية بشكل واضح، ذلك أنها تدرس الإنسان كفرد أو في جماعة، ومعلوم أن دراسة الإنسان والعلاقات الإنسانية لا تخلو من تدخل التصورات التي يحملها الإنسان عن الكون وعن الحياة، وعن الإنسان ذاته ورسالته في هذا الوجود، وصلته بخالقه، وارتباطه بمثله الأعلى ومآله الأخروي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العلوم الاجتماعية تجيب في حقيقتها عن أسئلة الإنسان، وتحاول تفسير وتحليل أسباب مشكلاته، وتعمل على تطوير أدائه ارتباطا مع شبكة العلاقات الاجتماعية التي يتصل بها هذا الإنسان.. كما أن هذه العلوم التي [ ص: 202 ] تطورت في الغرب، تدرس علائق الإنسان الغربي ارتباطا بالمرحلة الحضـاريـة التي يعيشها الإنسان الغـربي، وعلى الرغم من أن هذا لا ينفي وجود الجانب المشترك من المعرفة الإنسانية التي اشتركت فيها أجيـال الإنسانيـة وتطـورت بمشـاركة كل الأمـم، فـإن الأمر كما يطرحه ابن نبي يأتي من جانبين:

الأول: الجانب العلمي; من حيث إن الرؤية الغربية المرتكزة أساسـا على المادة تستـبعد الجانب الغيـبي من الاعتـبار العلمي، كما أنها برؤيتها العالمية المركزية ترى نفسها وعلومها نموذجا عالميا وحيدا [5] ، وعن طريق فعاليتها الحضارية ذات المرتكز المادي فإنها تدرس الظواهر وتقدم الحقائق ارتباطا بمنطق الفعالية الذي يعني في العرف الغربي الحسم بأية وسيلة، وهي تستبعد الجانب الأخلاقي من خلال تقديمها لذوق الجمال على حساب الجانب القيمي الروحي.

والثاني: الجانب العملي; من جهة اتصاله بجهود النهضة في العالم الإسلامي والتي تحتاج إلى علوم خاصة بدراسة الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامية وفق المرحلة التي تعيش فيها الأمة حضاريا، وتعمل على تحليل أسباب التخلف الكامنة في الذات الإسلامية [ ص: 203 ] طيلة قرون، والعمل على تفكيك خيوط شبكة (الأفكار الميتة والمميتة ) [6] المتصلة بالحقيقة الموضوعية الموجودة في العالم الإسلامي.

ولهذا فإنه اقترح تأسيس علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، يدرس مشكلاته المتصلة بمرحلة الاستقلال السياسي، وهي المرحلة التي أعقبت الاستعمار المباشر، يقول ابن نبي : (ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال ) [7] ومع أن ابن نبي لم يكن صاحب اختصاص في علم الاجتماع، من الناحية الأكاديمية العلمية، فإن اتصاله بعلم الاجتماع يبدو في نظر خبراء الاجتماع يتجاوز الاطلاع العام إلى امتلاك رؤية تحليلية اجتماعية [8] وكما سبق أن ذكرنا، فإن هذه الدعوة لا تنطلق من دافع التميز الحضاري فقط، وإنما من الناحية الموضوعية أيضا، باعتبار أن المجتمع الإسلامي [ ص: 204 ] يختلف في نشأته وتطوره عن المجتمع الغربي، وإن هذا العلم الاجتماعي تطور بشكل كبير في أحضان أرضية المجتمع الغربي، ثم إن علم الاجتماع الحديث من حيث نظرياته ومفاهيمه ومناهجه ومقولاته نشأ في واقع اجتماعي يختلف في طبيعته وتكوينه وتطوره اختلافا جذريا عن الواقع الإسلامي.

وتطبيقا لهذه الدعوة، فإن ابن نبي (رحمه الله) قدم نموذجا للدراسة الاجتماعية من منظور علم اجتماع إسلامي، يعتمد على الوحي في منطلقاته، وتتمثل هذه المحاولة في دراسته التي صدرت في كتاب (ميلاد مجتمع -شبكة العلاقات الاجتماعية ) ، الذي درس فيه تعريف المجتمع من وجهة سوسيولوجية إسلامية، وقدم فيه نظريته الاجتماعية، مرتكزا على الأبعاد النفسية والتاريخية، منتقدا منهج علم الاجتماع الحديث في بعض تحديداته.

وإذا كانت قضية -أسلمة العلوم الاجتماعية- من القضايا التي اهتم بها المعنيون في حقل المعرفة الإسلامية في حقبة الثمانينيات، فلا بد أن نسجل هنا أن ابن نبي كان رائدا في إثارة هذه القضية، بل في الإسهام في التنظير لها، ومعالجتها) [9] وهي خطوة تعتبر رائدة [ ص: 205 ] من حيث تقديم بديل نظري وتطبيقي لعلم الاجتماع الحديث باتجاهاته الماركسية أو الليبيرالية . وهذه الخطوة جاءت بعدها كثير من الدراسات الطموحة إلى تأسيس علم اجتماع إسلامي، متميز في موضوعه بدراسته لمشكلات العالم الإسلامي، ومتميز في منهجه من خلال تحريره من الإحالات الفلسفية المادية المتمركزة على الذات الغربية [10]

كما أن ابن نبي قدم محاولة أولية في تحديد موضوع علم الاجتماع الخاص بالعالم الإسلامي، وهي دراسة المشكلات المتصلة بالمرحلة الحضارية التي يعيشها العالم الإسلامي بعد الاستقلال.. كما أنه قدم محاولة أخرى تتعلق بتحديد منهج هذا العلم، وذلك بقوله: (ينبغي أن يكون هذا المنهج شاملا، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أوتاريخها من ناحية أخرى ) [11] هذا الاقتراح أو المحاولة التي تقدم بها ابن نبي، تعد أولية تحتاج إلى جهود تنضجها، وتحولها إلى خط علمي واضح المعالم، وهو ما تقوم به اتجاهات الأسلمة منذ السبعيـنيات، حيث حولت [ ص: 206 ] هذه الـدعوة التي تقـدم بها ابن نبي إلى هم فكري ومعرفي يقوم على تحقيقه الكثير من الباحثين والعلماء المسلمين، وبعض المنظمات العلمية الإسلامية.

شبكة المفاهيم الجديدة

يرى الأستاذ محمد المبارك رحمه الله، أن ابن نبي لم يكن باحثا أكاديميا نظريا، منكبا على أوراق بحثه في مكتب منعزل عن الحقيقة التي فيها أمته، بل إنه شعر في عمق ذاته بالمأزق الذي تعيشه، فراح يبحث لها عن حل عملي يخرجها مما هي فيه [12] ولهذا لا يمكن عده من الناحية الأكاديمية متخصصا في واحدة من العلوم الاجتماعية بقدر ما هو باحث عن حلول لأمته، جعلته يوظف كل العلوم المتاحة لديه ويأخذ منها بعض مصطلحاتها وأدواتها، ولكنه يطوعها لمنظوره وإطاره التحليلي، ويوظفها داخل نسقه الخاص بعد تخليصها من صلتها بالعلم الذي أخذت منه، وهذا ما يمكن أن نسميه التوظيف التكاملي للعلوم من أجل خدمة هدف محدد.

غير أن السـؤال الذي يبـقى مطـروحـا أمام الباحثين في فكر [ ص: 207 ] ابن نبي هو مدى قدرة هذه المصطلحات على أن تصير مصطلحات مفتوحة أمام الباحثين وسهلة التعامل، ومقبولة من قبل العرف العلمي المشترك ؟ كما أن هناك من المصطلحات -كمصطلح القداسة مثلا- التي قد تثير بعض الجدل في مدى أصالتها واتصالها بحقل المعرفة الإسلامية، وذلك على الرغم من حرص ابن نبي على انتقاء مصطلحاته.. وفي هذا تقول الباحثة ( فوزية بريون ) : (وبالرغم من بعض المصطلحات اللغوية والفنية التي حجزت كتبه عن الوصول إلى القارئ العادي، فإن أفكار ابن نبي وتأملاته مثيرة للنفوس، كما أن مؤهلاته العلمية واضحة في الميدان الفكري، وهو معروف جيدا بعنايته الفائقة في تحديد مصطلحاته، وترتيب مقدماته، والوصول إلى نتيجته) [13]

لكن يمكن القول: إن ابن نبي من الوعي بحيث في كل مرة يستعمل مصطلحا ذا دلالات سلبية يحاول إرفاقه بتفسير خاص من عنده، مثلما أورد قصة بلال رضي الله عنه وصبره أمام التعذيب، إذ يتحرر الفرد جزئيا من قانون الطبيعة المفطور في جسده، ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية [ ص: 208 ] في نفسه، (بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح الذي كان يحكم بلالا حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قولته (أحد.. أحد..) ، إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب) [14]

وإذا كان هذا مقبولا في حالة ابن نبي ، الذي كان في مرحلة تاريخية كانت السيادة فيها للمفاهيم الغربية في العلم والمعرفة، فإن دور البـاحثين المسلمين اليوم هو التخلص من هذه الهيمنة في المصطلحات والمفاهيم الغربية ذات المحتوى السـلبي، والانتقال إلى مرحلة صياغة المصطلح الإسلامي الذي يحمل دلالات تنسجم وحقل المعرفة الإسلامية وارتباطه بالعقيدة والتصور الإسلاميين.

ولعل من الأمور التي تحتاج إلى تطوير وإنضاج أيضا فيما ترك لنا ابن نبي من تراث، وخاصة فيما يتعلق بالحضارة الغربية ودراستها، ما ذكره ابن نبي فيما يتعلق بالاستشراق، إذ يرى أن الاستشراق حقل معرفي غربي أنشأه الغرب لفهم الشرق عموما والعالم الإسلامي بشكل خاص، ولا يمكن دراسته بمعزل عن التطور [ ص: 209 ] التاريخي الغربي في صلته بالعالم الإسلامي، كما أن الاستشراق له ارتباط بكثير من حقول المعرفة التي أنشأها الغرب خصوصا، لتوجيه الشعوب إلى خدمة أهداف العالم الغربي والحضارة الغربية، وتحقيق بسط الهيمنة والنفوذ على العالم والوصول إلى عالمية الحضارة الغربية وجعلها النموذج المقتدى من قبل الجميع [15]

ولما تحدث ابن نبي عن الموقف الحدي للمسلمين من الحضارة الغربية، انتقد كلا الموقفين; الموقف الذي يرى في الغرب النموذج والمثال المقتدى، والموقف الذي يرى في الغرب أنه مصدر كل شر، ورأى -بدل الموقفين السابقين- أن الأمر يتعلق بتنظيم العلاقة مع هذا الغرب، وذلك بجعل العلاقة بيننا وبينه قائمة على العلم، أي بمعرفة أن الظاهرة الغربية في عمومها، والظواهر الغربية الجزئية مسألة نسبية قابلة للدراسة، عند ذلك يمكن فهم الغرب والتعامل معه بإيجابية. ومن هذه الجهة يدعو إلى ما يمكن أن يطلق عليه علم الاستغراب [16] لفهم الغرب ومعرفة تاريخ تطوره، وكيفية سير [ ص: 210 ] أنظمته الفكرية والحضارية. وهي دعوة نادى بها ابن نبي في ظرف كان التعامل مع الاستشراق تعاملا تجزيئيا وتناولا في إطار الجزئيات دون وجود رؤية كلية تجعل الاستشراق في سياقه العلمي والتاريخي والحضاري، كأحد الأدوات المعرفية الغربية التي تربط بالحضارة الغربية في تعاملها مع الآخر الشرقي، أي الإسلامي بالأخص.

وفي الختام نلاحظ أن هناك الكثير من الأفكار الجنينية التي كانت حاضرة في فكر ابن نبي الحضاري عموما، وفيما يتصل بدراسة الظاهرة الحضارية الغربية خاصة، تحتاج إلى أن ترتبط بها جهود أخرى لتدفع بها إلى النضج على المستوى العلمي والعملي، لتكون جهود ابن نبي مهمة من حلقات التجديد الفكري والحضاري، تمثل في جانب منها مرحلة نضج في التفكير والطرح على مستوى الرؤية والمنهج، وتمثل في الجانب الأاخر مقدمات أولية تحتاج إلى من يدفع بها إلى أن تتعمق وتتأسس. [ ص: 211 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية