الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري (أنموذج مالك بن نبي)

بدران بن مسعود بن الحسن

الخاصية الأولى: العـالمـية المـركـزيـة

مفهوم العالمية المركزية

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الظاهرة الواضحة للعيان، والتي لا تحتاج إلى كبير تأمل; هي ظاهرة عالمية الحضارة الغربية. وإذا كان في تحليله لدورة الحضارة -كما سبق- يؤكد أن كل حضارة لها مجالها الحيوي، وقيمها المميزة لها، المحددة لمسارها في التاريخ، فإنه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن ظاهرة القرن العشرين هي عالمية الحضارة الغربية، إذ يقول: (فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية التي تطرد بدافع من قوتها الخاصة، ومن تطور الشعوب التي تعيش على المحور الآخر) [1] فما مقصوده عندما يقول: إن الحضارة الغربية حضارة عالمية ؟ وما مفهوم العالمية الذي يعطيه لها كخاصية ؟ وكيف تكون عالمية مركزية ؟ وما صلة هذا المفهـوم بـبقية المفاهيم، مثـل الاستعمار، والتحيـز، والقـوة، والمـركزية الغربية، والعنصـرية، وغيـرها ؟ وما هو مسار تشكل هذه العالمية ؟ وهل مرت بمراحل مختلفة ؟ وما هي مستوياتها؟ [ ص: 108 ]

للوصول إلى إجابة عن هذه الأسئلة المتعددة، فإن ابن نبي (رحمه الله) يدعونا إلى البحث في جذور الحضارة الغربية، ومآلاتها، وواقعها الحالي، وما أضافته من إنجاز إلى التراث البشري، وما أحدثته من فوضى في العالم، كما أنه يدعونا إلى التفريق بين مستويين من التحليل، المستوى الأول يرتبط بإعطاء حكم قيمي، وأما الثاني فيهمه أن يرصد الظاهرة في حركتها على مسرح التاريخ، وميدان التغيير الاجتماعي، أي كما هي في الواقع. ومن هذا المستوى الأخير يمكن أن نلحظ مظاهر الهيمنة الغربية على العالم، وانتشار منتجاتها الحضارية في كل مكان، وتحكمها في مسيرة الإنسانية خلال القرنين الأخيرين على الأقل.

ومن هذه الوجهة فإن الحضارة الغربية تعتبر عالمية، من خلال توحيدها للمشكلة الإنسانية، إذ (حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي ) [2] [ ص: 109 ] هذه العبقرية المتركزة أساسا في العامل التكنولوجي، الذي بواسطته استطاعت الحضارة الغربية أن تنتشر في العالم، وتنشر أفكارها ومواقفها، وطرق تفكيرها، فأعطت صبغة مشتركة للحضارة العالمية في هذا العصر [3]

وخلال منتصف القرن الأخير، كانت أهم مظاهر انتشار الغرب متمثلة في انتشار الطرق الحديثة على النمط الغربي، وخطوط السكك الحديدية في بقية العالم كما هي تماما في أوروبا وأمريكا، وظهور المصانع والمعامل الميكانيكية، والراديو، والتلفزيون، وطرق الإعلام الغربية، وكذلك التبني المباشر لطريقة الأكل واللباس والتعليم والحكم على الطريقة الغربية، ثم التبني المتحمس للتكنولوجيا الغربية في كل دول العالم [4] [ ص: 110 ]

وهذا ما حدا بابن نبي (رحمه الله) أن يسجل في مذكراته، بأن العالم بدأ يتأمرك، وذلك من خلال انتشار الأفلام الأمريكية ورواجها [5] ، وإقبال الناس على تقمص الشخصية الأوروبية حتى في المأكل والمشرب، من خلال ظاهرة انتشار ثقافة (البيبسي كولا) و (الكوكا كولا) و (الهمبورغر) ، وغيرها من أنماط نموذج الحياة الاستهلاكية.. وإذا تعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن السائح الغربي يجد النبيذ والخنزير، والإباحية والعري، واليانصيب القومي، والقروض الحكومية ذات الفوائد، ويجد التقويم المسيحي، وإجازة السبت والأحد [6]

أما في الميدان الفكري، فإن الحضارة الغربية قد فرضت نفسها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم على العالم كله، وقد تبنت معظم الشعوب نموذج أوروبا إما كليا أو معدلا، [ ص: 111 ] فسادت مفاهيم الغرب ونظرياته المختلفة، في العلم والمعرفة والمناهج العلمية والتفسيرات العلمية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرها، وهيمنت على سائر الرؤى الأخرى بحيث صارت وكأنها قانون العصر الذي لا محيد عنه [7] ..

وهذا الانتشار قد ينظر إليه باعتباره نوعا من هيمنة الحضارة الغربية، وهذا صحيح. غير أن ابن نبي ، بالإضافة إلى تأكيده على الطابع الذي تتميز به الحضارة الغربية من محاولة تصدير نموذجها وجعله مرجعا ومثالا، فإنه ينظر إلى الموضوع من زاويته الاجتماعية (السوسيـولوجيـة ) التاريخيـة، إذ إن الإنسانية مع الحضارة الغربية اقتربت بينها المسافات، وتوحدت مشاكلها وآمالـها، بشكل جعـل المصـير الإنسـاني مشـتركا وموحـدا، ولا يمكن لبـلد أن يبني مشـروعا اجتمـاعيا أو التفكير في تغيير حضاري، دون الأخذ بالحسبان العامل الخارجي، أي الإنساني. كما نجد ابن نبي ينبه إلى مسألة الوعي الاجتماعي، وهي [ ص: 112 ] مسألة مهمة ينبغي اعتبارها، إذ صار وعي الفرد والجماعة يشمل دوائر أوسع مما كان عليه من قبل، ويرتبط هذا الوعي أيضا بهموم الإنسانية كلها، ولذا فهو يرى واقعيا أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عموما، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتدادا بدرجة لا تضارع، وفي منظر أكثر انفساحا كذلك. وللأسباب نفسها يحصل امتداد المستوى الشخصي للفرد; امتداد حضوره إلى مدى أبعد من مقره، فوسطه، فبلاده. وهذا التوسع في مستواه الشخصي، يكون مقياسا مباشرا لدرجة تحضر هذا الوسط، حيث لا يحيا الفرد مع أهله ومواطنيه فحسب ولكن مع عدد أكبر من الآدميين [8]

إذن، فالمبررات التي جعلت ابن نبي (رحمه الله) يؤمن بعالمية الحضارة الغربية، هي مبررات واقعية من منظور اجتماعي يرصد الظاهرة في حركتها وتأثيرها في التاريخ.. ولعل من المبررات التي جعلته يتبنى هذا التحليل السوسيولوجي عدة مظاهر تدعو إلى النظر إلى الحضارة الغربية من زاوية حضورها [ ص: 113 ] العالمي، وذلك من حيث انتشار المفاهيم الغربية في العالم كله، وتبني معظم الناس لها كليا أو جزئيا، والذي لم يتبنها جعلته يتخذ منها موقفا ويستحضرها انتقادا أو رفضا عند صياغته لمفاهيمه الخاصة، كما أن تبني معظم شعوب العالم كثيرا من الأنظمة وأنماط الحياة التي أبدعها الغرب، وانتشار النموذج الاستهلاكي الغربي للحياة في كل المجتمعات المعاصرة، هو أحد صور هذه العالمية، ومن جهة أخرى -والذي يبدو أن لا مفر منه- انتشار التكنولوجيا والإنتاج الصناعي الغربي في العالم كله، والذي أصبح يشكل أحد سمات هذا الحضور الغربي في كل بيت في العالم، وليس كل مجتمع فقط.

هذا، بالإضافة إلى الاستعمار الغربي الذي شمل الإنسانية كلها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هذا الاستعمار الغربي الذي استنزف العالم كله وشمل كل قطر، مما وحد هموم الإنسانية وجعلها كلها تتعرض لهيمنة النموذج الغربي نفسه، مما جعلها أقرب إلى النظرة المشتـركة في كثـير من قضـايـاها المرتبطة بمرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، فكان الغرب عالميا على مستوى الوعي [ ص: 114 ] الإنساني، من خلال فرضه لنفسه على هذا الوعي أن يستحضره بفعل ما خلف من مشكلات تؤرق وتدعو إلى التفكير في حلها وعزلها عن المعامل الغربي.

إن أوروبا لم ترد تمدين العالم، ولكنها وضعته على طريق الحضارة حين جعلت تحت تصرفه الوسائل المادية ليتبع هذا الطريق، وحين أمدته بإرادة للسير فيه.. والموجة الأوروبية لم تأت للعالم بغمرة الرفاه المادي فحسب -مثل المنتجات الإلكترونية والصناعية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضا بثروات روحية لا جدال فيها [9]

وقد يتساءل أحدنا عن هذه الثروات الروحية التي أتت بها أوروبا، ويرى أنه من عدم الدقة الحديث عن ثروة روحية من أوروبا إلى العالم، ويجيبنا ابن نبي (رحمه الله) أن أوروبا أودعت في (لا شعور ) الشعوب التي استعمرتها، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها وفي أسلوبها وفي تنظيمها وفي نشاطها.. وهذا لا يعني أن هذه الثروة الروحية ذات قيمة إيجابية، فالأمر لا يتعلق بحكم قيمي، [ ص: 115 ] بقدر ما يتعـلق بتسجيـل التـأثير الغربي على شعوب العالم. ولو تأملنا وقمنا بتحليل أي نشاط على محور ( طنجة - جاكرتا ) اليـوم، فإنـنا نجد طـرازه في الـغرب، فالبـرلمانـات أيا كـانت، هي صـورة طبـق الأصـل من البرلمـان الإنجـليـزي أو الفرنسي أو الأمريكي، وأي مشروع لوضع دستور ديموقراطي إنما يرجع إلى الطراز الغربي، وعندما يتحدث المسلم مثلا عن الديموقراطية [10] فإنه يستعير بداهة مفهوما غربيا [11]

إن العالمية التي تتميز بها الحضارة الغربية تكمن في أنها -ولو عن غير قصد- وضعت على طريق التاريخ شعوبا أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير، وبثت فيها إرادة السير في هذا السبيل، عندما نزعت عنها ما بقي لها من حجب التبطل، وأزالت ما كانت تعيش عليه هذه الشعوب من أوهام ورثتها عن أجداد أسسوا حضارتهم ذات يوم، مثلما كان الأمر مع القدوم الأوروبي إلى العالم الإسلامي، إذ كان للأوروبي دور [ ص: 116 ] الديناميت المفجر، الذي أزاح عن مسلم ما بعد الموحدين غشاوة نومه، ومنحه إلهاما جديدا لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضيا بالدون، فوجد نفسه في وضع لم تصنعه يداه، واضطر إلى أن يعمل شيئا ليحفظ كرامته التي غرسها الإسلام في وجدانه، وليجد له مكانا في عالم تغير عما كان عليه [12]

وهذا الإطار العالمي الذي ارتفعت إليه البشرية مع العامل الصناعي والفني (التقني ) ، جعل دائرة الوعي تتسع، فالعامل الصناعي الذي كان له أثره في إحداث التفرقة والتنويع مدة طويلة، مما أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعا ممتازا بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، فإن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئا فشيئا نحو الانسجام والوحدة، محتما عليها بذلك مصيرا مشتركا. وبعد أن كانت عوامل التوحيد في النطاق الميتافيزيقي، أي وراء العوامل التاريخية، أصبح تأثيرها واضحا في مجال التاريخ [13] ، وابن نبي يعطي أهمية خاصة لتاريخ القرن [ ص: 117 ] العشرين الذي تميز عن القرون الأخرى كلها، لأنه القرن الذي تحققت فيه تغيرات جذرية، بدت وكأنها ترسم للإنسانية نقطة اللارجوع على محور الزمن، فهو القرن الذي هبت فيه أكبر عواصف التاريخ على مصير الإنسانية، وهو القرن الذي سجل الأحداث الكبرى، سواء في مجال العلم، أو في المجال النفسي، أو في المجال الأخلاقي والديني، ففي كل هذه المجالات هبت عواصف كبرى يبدو أنها غيرت معالم الطريق [14]

وهذا التوجه الإنساني نحو العالمية بفعل اضطراد التاريخ وتقـدم الإنسانيـة، والذي كانت العـالمية الغـربية أهم أسبابه، لا يعني أن هذه العالمية الأوروبيـة، عالميـة موضوعية، إذ يرى ابن نبي أن أوروبا التي كانت تبتغي امتلاك العالم، انقلب عليها سحرها، وقيدتها قوتها، فأوروبا (الغرب ) التي تقدمت بفعل اطراد عملها وضميرها، يبدو أنها تعاني من فصام بين هذين العاملين، فالعلم يدفعها نحو التوحد مع الإنسانية، بينما ضميرها متخلف عن تقدمها العلمي، مما جعلها تحاول أن تجعل من إشعاعها العالمي نوعا من الهيمنة التي تؤكد التمركز الغربي [ ص: 118 ] على حساب الشعوب والأمم الأخرى [15]

ولكن هذا التمركز حول الذات الغربية لا ينسينا أن الحضارة قد أصبحت مع الثقـافـة الغربيـة هـدفـا مقـصودا -كما سبق القول- وعملا شعوريا ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته وكل قدراته، وصارت الحضارة غاية مبتغاة.. فالحضارة الغربية وسعت أولا من حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري، إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفعل القوة الصناعية، قد أحدث تحولا في الطبيعة التاريخية للحضارة، فلم تعد فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات ) كما هو في المفهوم الخلدوني، أو في مفهوم ( شبنجلر ) ، وإنما أصبحت عالمية، أي في نطاق عالمي يتجاوز حدود الوحدات التاريخية في مفهوم ( توينبي ) [16]

وإذا كان الامتداد العالمي للحضارة الغربية سمة مميزة للقرن العشرين، ويبدو فيه امتدادها قانونا تاريخيا لعصرنا، حيث [ ص: 119 ] لو تأمل أحدنا الأشياء المحيطة به، أو في حجرة المكتب مثلا، فإن معظم الأشياء غربية إن لم تكن كلها [17] ، فإن هذه الخاصية التاريخية المرتبطة بمجريات الواقع، أنتجت -كما يرى ابن نبي- هما عالميا، وطبعت أحداث القرن العشرين بطابع العالمية، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه، حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين ومعناه، بل إنها تصريح لعصرنا وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية والنفسية التي بلغها العالم مع اطراد التقدم على محور طنجة-جاكرتا، ومحور موسكو-واشنطن، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي [18]

وإذا تساءلنا عن مدى صدق هذه النتائج، فإن ابن نبي يوجهنا إلى تأمل الحركة التاريخية للحضارة الغربية وإفرازاتها، فأوروبا من جهة جعلت من الحضارة عملا قصديا، ووحدت من الهم الإنساني، ودفعت بفعل عاملها التكنولوجي إلى الربط بين [ ص: 120 ] أطراف المجتمع الإنساني، فإنها من جهة أخرى جعلت العالم يعيش مثقلا بالعلم وبثقافة الإمبراطـوريـة، مليء يضـج بروح الحرب وبـوسائل الحرب، ولكن هناك فراغا كبيرا من الضمير ينبغي له أن يمتلئ، فأوروبا تعيش في عالم كونه علمها، غير أن ضميرها لا يعلمه تماما، لأنها تجهـل فيه مسـألة رئيسة، تجهل الإنسـان الذي اعـتادت أن تنـظر إليه بروح القرن التاسع عشر حتى الآن على أنه من أبناء المستعمرات [19]

وهذا ما يجعل عالمية الحضارة الغربية ينقصها البعد الإنساني الحقيقي، ذلك أن فيها فصاما بين علمها وروحها، فهي من جهة العوامل الفنية تدفع بالإنسانية -ولو من غير قصد- إلى التوجه العالمي، أما من جهة روحها وضميرها، فإنه مثقل بثقافة الإمبراطورية، أي ثقافة السيطرة، المتجذرة في اللاشعور الغربي.. وهذه الروح جعلت من الحضارة تهمل إنسانية الإنسان لما بقيت النفسية تتعامل مع الإنسان غير الغربي باعتباره هامشا، وملحقا بالمركز الغربي لأنه ابن المستعمرات، أو المستعمرات [ ص: 121 ] السابقة. ولهذا فمن مقتضى النظر المنهجي تتبع المسار الذي تشكلت فيه هذه (العالمية المركزية ) للحضارة الغربية، لنكون على وعي بالنتائج التي أوصلت الإنسانية إليها.

مسار التأسيس (للعالمية المركزية)

يعطي ابن نبي (رحمه الله ) أهمية خاصة للقرنين التاسع عشر والعشرين، باعتبار أن القرن الماضي شهد توسعا غربيا شمل كل قارات العالم، وخضع العالم بدوره للسيطرة المباشرة للغرب من خلال الاستعمار، ثم مع مجيء القرن الحالي انحسر الاستعمار المباشر، ولكنه شهد انتشارا للغرب من نوع آخر، كان هذا الانتشار والتوسع عن طريق العامل الصناعي الفني، والقوة التكنولوجية. إذ استطاع العهد التكنولوجي أن يقرب المسافات، ويتجاوز الحدود التقليدية، ويجعل من العالم قرية صغيرة متشابكة المصالح، وأصبح التعايش بين الحضارات ضرورة حتمية مع العهد الذري ونتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية الرهيبة التي أتاحت للطاقة الإنسانية أن تتحكم في كثير من السنن الطبيعية وتطوعها، كما مكنت الإنسان من [ ص: 122 ] السيطرة شبه التامة على الكرة الأرضية [20] ، وفرضت التكنولوجيا على كل مجتمع أن يضع في حسابه وجود الآخرين [21]

وفي تحليله للنفسية التي كان عليها الغربي وهو يبسط وجوده في العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يقـول ابن نبي : (وفي هذا الجو المفعم بالشعور بالتفوق نشأت النفسية الأوروبية، وظهرت كتابات تنظر إلى تاريخ البشرية وكأنه بـدأ مع الإغريق والرومـان، ثم حدث فيه تقـطع أو جمود، ثم عاد للظهور في باريس ولندن من جديد) [22]

والسبب في ذلك كما يرى، أن أوروبا التي ورثت التقاليد الرومانية من عصر النهضة قد أصبحت رهينة ثقافة إمبراطورية، تلك الثقافة التي تنحو إلى السيطرة، والتي أنتجت الاستعمار والعنصرية، فقد تغذى ضميرها بما أثار القرن التاسع عشر من قضايا، وهو القرن الذي شهد ازدهار فكرة (جوبينو ) العنصرية، ذلك الكاتب الذي طبق أفكار (دارون ) عن أصل الأنواع على [ ص: 123 ] مجال الإنسان، فخلف بهذا القرن العشرين تراثا روحيا ضارا ثقيلا أنتج أمثال ( هتلر ) والدكتور ( مالون ) [23]

وفي نظر ابن نبي (رحمه الله) ، أن الاستعمار سبب ونتيجة في الوقت نفسه، فهو من جهة نتيجة لثقافة الإمبراطورية المتأصلة في النفسية الأوروبية، والتي يعبر عنها كاتب مثل (توسيديد ) عندما يقوم ببتر المفهوم التاريخي حين أبطل ماضي الإنسانية كله بقوله: (إن حدثا مهما لم يقع في العالم قبل عصره ) ، فمثل هذه الأقوال التي تخلق ثقافة الإمبراطورية، تلك الثقافة التي تقوم على أساطير السيادة العنصرية والاستعمار [24] والاستعمار من جهة أخرى سبب للكبرياء والتعالي والنرجسية، إذ إن الغربي الذي يولد في الجو الاستعماري، يتربى في جو يعلمه النظر إلى الإنسانية بتعال وكبرياء، ويعلمه ازدواجية النظرة إلى الأشيـاء، فهو يرى بصورة طبيعيـة مشاكل الغرب، أما حين ينظر إلى مشاكل الشعوب الأخرى، فإنه يضع نظارة على عينيه، ويرى الصور بشكل مختلف [25] [ ص: 124 ]

وخلاصة الكلام فيما يتعلق بالعالمية المركزية، أن أوروبا التي أخضعت العالم لسيطرتها الأخلاقية والسياسية منذ قرنين من الزمان، أدخلت الإنسانية في مأساة وحدت همومها.. كما أنها بفعل ما أنتجته من تقدم تكنولوجي وصناعي قد رفعت من القدرة المادية للإنسانية، وأحدثت فيها تأثيرا نفسيا وتاريخيا، عندما قربت المسافات، ومنحت البشرية إمكانات لم تكن تحلم بها من قبل، وأدخلت البشرية في حروب ومشاكل نتجت عن هذه السيطرة الأوروبية العليا على الشؤون الإنسانية.. كما أنها بفعل اطراد قوتها، جعلت في حياة الشعوب التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، مشكلات أخرى مشتركة تعبر عن امتداد كيانها وحضورها في عالم الآخرين [26] ولقد تجاوز هذا الحضور أولا الحقل المحلي في القرية ثم في المدينة، ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دوليا، وأخيرا عبر جميع الحدود فأصبح عالميا [27] [ ص: 125 ]

هذه العالمية من وجهة الاجتماع والتاريخ، لا تجعلنا ننكر أنها عالمية متمركزة أساسا حول ذاتها، تتعامل مع العالم على أنه هامش أو أطراف، وهي محور الحركة ومركز هذا العالم، ولهذا يمكن أن نسميها عالمية من وجهة التاريخ والاجتماع، ومركزية من وجهة القيم والإطار الحضاري القيمي الذي يحكمها، فهي عالمية مركزية.

التالي السابق


الخدمات العلمية