الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الخاصيـة الثالثـة: الفعـاليـة

ما هي الفعالية؟

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية تعد إحدى خصائص العقل الغربي، وأن العقل الغربي يخضع لمبدأ الفعالية [1] .. هذه الخاصية اكتسبها الغربي على المستويين الفردي والاجتماعي، وصارت تصبغ كل أفعاله وإنجازاته في إطار التاريخ.. وهو -الغربي- اكتسب هذه الفعالية من التحديد الإيجابي لثقافته، الذي قام به ( ديكارت ) ومن أتى بعده في بداية حركة النهضة الحضارية الأوروبية. كما يرى أن الفعالية على المستوى الاجتماعي هي القدرة على توليد ديناميكا اجتماعية، من خلال وضع المعادلة الاجتماعية في الحسبان، ومعرفتها بدقة، وبالتالي الدخول في تخطيط منهجي لا يحتوي خليطا من الأفكار المتناقضة [2]

وبالنسبة للغرب، فإن المعادلة الاجتماعية تمت صياغتها على أسس الثقافة الغربية بدستورها ذي الفصول الأربعة: المبدأ [ ص: 139 ] الأخلاقي، والنزعة الجمالية، والمنطق العملي، والفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع (الصناعة بالتعبير الخلدوني ) [3] واتجهت اتجاها ماديا، كما سبق القول عند الحديث عن المادية.

ويبدو أنه اعتمادا على اعتباره للمادية مذهبا فلسفيا يتخـذه الغرب في تفسـير الكـون والتـاريخ والأحـداث، فإن ابن نبي يرى الفعالية في المفهوم الغربي هي الحسم، أي حسم المشاكل الإنسانية على أية حال، كما نجده ينظر إليها باعتبارها ظاهرة اجتماعية تميز الغرب، وأنها تعني في المجتمع الغربي: القدرة على كفالة الضمانات الاجتماعية للفرد [4]

فالغرب في رأيه يعتبر الفعالية من وجهة اجتماعية عملية، أي محققة في الواقع في صورة ضمانات اجتماعية يقدمها المجتمع للفرد في أطوار حياته المختلفة. وخاصة بعدما جاء ديكارت ، كما يقول ابن نبي (رحمه الله) : (وأتى ديكارت بالتحديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بني على المنهج التجريبي، والذي هو [ ص: 140 ] في الواقع السبب المباشر في تقدم الحضارة الغربية الحديثة تقدمها المادي ) [5]

ولهذا فإن ما يفصل المجتمعات في هذا القرن هو مدى فعاليتها، حيث يوجد في القرن العشرين تشابه واختلاف بين المجتمعات، والاختلاف اللافت للنظر يكمن في ما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، هذا العنصر الذي أصبح أساسيا في فلسفة العصر، التي تعنى بتقدير الكم، فتجعله فوق القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياسا خاصا لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات [6]

ولهذا نجد أن أوروبا رجحت قيم الفعالية على قيم الأصالة، أي أن المبدأ الأخلاقي (المسيحية ) الذي أخرج أوروبا إلى الوجود وأدخلها التاريخ، ومنحها القوة الدافعة، قد اضمحل لحساب النهج الاستعماري (النفسية الاستعمارية ) ، وصار لعالمها الثقافي وجهان; وجه يلتفت إلى ذاتها بأخلاقيته الخاصة، [ ص: 141 ] ووجه يتلفت نحو العالم، وهمه الوحيد الفعالية [7]

فالفعالية، كما يرى ابن نبي ، ليست شيئا فطريا مركبا في فطرة الرجل الغربي، أوالمجتمع الغربي، وإنما هي نتاج لتركيب ثقافي معين متحرك في إطار التاريخ، ومرتبط بالوضعية التي يقفها المجتمع من دورة الحضارة.

العامل النفسي للفعالية

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن العامل النفسي هو الذي يناط به توجيه النشاط والطاقات الاجتماعية.. والطاقات الاجتماعية يبحث عن مفهومها في حقيقة الواقع الاجتماعي، وإذا حللت إلى عناصرها الأولية فإنها تنحصر في ثلاثة: اليد، والقلب، والعقل، (لأن كل الطاقات الاجتماعية تنطلق منها، والعملية الاجتماعية نفسها لا تخرج عن هذه العناصر; فكل طاقة اجتماعية تصدر حتما من دوافع القلب، ومن مبررات وتوجهات العقل، ومن حركات الأعضاء، فكل نشاط اجتماعي مركب من هذه العناصر، والفعالية تكون أقوى في الوسط الذي [ ص: 142 ] ينتج أقوى الدوافع، وأقوم التوجيهات، وأنشط الحركات ) [8]

هذا العامل النفسي، هو ما يسميه (التوتر ) ، والفعالية نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي... وهو حالة نفسية اجتماعية دل التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكون الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته [9] وكانت المسيحية أكبر منتج للفعالية في المجتمع الغربي، الذي منحته الدفعة الروحية، ورفعت من طموحاته. ونظـرة إلى واقعنـا لنرى الرجـل الغربـي والرجل المسلم; أيهما ذو نشاط وعزم وحـركة دائبة ؟ ليس هـو المسلم بكل أسف، وهو الذي يـأمره القرآن بالقصد والانضباط:

( ولا تمش في الأرض مرحا ) (لقمان:18) ، ( واقصد في مشيك ) (لقمان:19) ، وليس ذلك ضربا من الافتراض بل هو شهادة الواقع [10]

ويرى ابن نبي أن الأمر لا يتعـلق بصحة الفكـرة المسيحية [ ص: 143 ] أو زيفها، بقدر ما يتعلق الأمر بقانون اجتماعي وسنة من سنن التاريخ، وهي تسجيل الفكرة في النفوس، وخاصة في هذا العصر، ففي منطق هذا العصر لا يكـون إثبـات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي. فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح [11]

ولا يعني هذا أن ابن نبي يقصد عدم فائدة صحة الفكرة وأصالتها، في تقدير فعاليتها، ولكنه لما كان ينظر إلى الفكرة في التاريخ وفي علاقتها بالمعطى الاجتماعي، فإنه يحاول إخراج الضمير المسلم من المناقشات البيزنطية، التي تتحدث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، في حين أن الإسلام غائب عن قيادة الحياة. فهو ينظر إلى الحقيقة الموضوعية، وما تسجله الفكـرة في الإطـار الاجتمـاعي من تغيـير وصيـاغة للنفـوس ومـا تحدثه من أثر في التاريخ.. ومن هذه الجهة، فإن ابن نبي محق عندما دعا إلى العمل على تأكيد الصلاحية للفكرة وليس أصالتها، من خلال ربطها بالواقع، فهو يرى أن الفكرة الإسلامية [ ص: 144 ] لا يمكن مقارنتها بالفكرة المسيحية على مستوى الأصالة الذاتية من أي وجه من الأوجه، في قيمتها أو مصدرها أو في شموليتها. لكن الأمر يتعلق بالمسلم الذي انفصل واقعه الاجتماعي عن تأثير الفكرة الإسلامية وإن لم يفقد إيمانه بالله يوما من الأيام [12]

ولهذا فإنه يرى أن الفكرة الإسلامية لا تحتاج أن نبرهن على صدقها نظريا، وإنما من خلال صياغة الحياة بها كما كان يفعل السلف، وإظهار فعاليتها في الواقع.. وكما يرى ببساطة، ينبغي العودة إلى روح الإسلام نفسها [13]

فالتجربة الإسلامية الأولى التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم -كما يرى ابن نبي- غيرت المعادلة الاجتماعية للعرب، وأخرجت إنسانا جديدا غير مجرى التاريخ وشاد حضارة خلال نصف قرن، وأنتج أشخاصا أمثال عمار بن ياسر وبلال وربعي وعمر رضي الله عنهم أجمعين. فعمار بن ياسر كانت روحه المتناغمة مع نداء الفكرة الإسلامية وحرارتها الإيمانية، كانت هذه الروح [ ص: 145 ] تدفعه إلى أن ينقل حجرين بدل حجر واحد عند بناء المسجد النبوي، وبلال الذي ينادي: أحد أحد، إنما كانت روحه أقوى من تلك الصخرة التي على صدره، إذ كانت تتطلع بفعل التوتر الذي أحدثه الإسلام فيها إلى حياة أسمى من ذلك العذاب الذي كان يلاقيه فلا يحس به.

وإذا تم البحث عن عامل التوتر في التجربة الماركسية في روسيا بعد 1917م، فإننا نجد الوعود والآمال التي تأسس عليها المجتمع الماركسي تدفع (استاخانوف ) إلى أن ينتج عشرة أطنان من الفحم في الوقت الذي كان زملاؤه ينتجون خمسة فقط.. وكذا ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فإنها نهضت من العدم وذلك بفعل التـوتر الذي كان يشعـر به الألماني تجـاه بـلاده، وما كان يحمله من ثقافة جعلت من الصعب أن تغير النكبة التي تعرضت لها ألمانيا من معادلته الاجتماعية [14] فكان للفكرة [ ص: 146 ] وما أحدثته من توتر دور رائد في تحقيق الفعالية، من خلال المبررات التي تأتي بها الفكرة، فتطبع في النفوس توترا يخرجها من حالة الفتور، إلى حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع الإنتاج بقوة وحرارة، عندما تتوفر المبررات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع [15]

مظاهر الفعالية

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية يمكن التأكد منها في الواقع في روابطها بواقع الحياة مباشرة، وهي أكبر ما يميز المجتمعات في القرن العشرين، كما سبق القول، حتى أن التقدم أو التأخر الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية، إذ يجده يقسم العالم إلى شطرين، أحدهما يتميز بالفعالية ويطبع بها كل جهوده وسلوكه، والآخر يتميز باللافعالية والتسيب في كل مظاهر حياته. ويمكن ملاحظة ذلك [ ص: 146 ] من خلال مشاهدة النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية التي توجد في كلا الإطارين الحضاريين [16]

بعبارة أخرى، يمكن رؤية نموذجين اجتماعيين مختلفين، أحدهـما النـمـوذج الغـربي يطـبعه التنـظـيم والديـناميـكا، أي تنتظمه الفعالية في واقع حياته، والآخر النموذج المتخلف، تنتظمه ضروب من التسيب واللافعالية. وهذا كله في إطار التاريخ، إذ لو رجعنا قرنين أو ثلاثة إلى الوراء -كما يرى ابن نبي- لوجدنا الصورة معكوسة تماما، إذ إن هذا المستكشف يجد الصورتين معكوستين، فكل ضروب النشاط والفعالية يجدها على محور طنجة-جاكرتا، وكل ضروب التسيب واللافعالية يجدها على المحور الغربي.

فمسألة الفعالية في حقيقتها تتعلق بالمرحلة الحضارية التي تعيشها الحضارة، كما تتعلق بنمط الثقافة التي هي إما دستور لقيام حضارة، وإما شبكة من النفايات والأفكار القاتلة والميتة [ ص: 148 ] التي تطبع إنسان ما بعد الحضارة (خارج إطار الحضارة ) ، مثل إنسان ومجتمع (ما بعد الموحدين) في العالم الإسلامي [17]

أهمية النموذج في تحقيق الفعالية

يرى ابن نبي أن اختيار (النموذج ) يحدد المنهج، وهذا بدوره يجعل عملية بناء الحضارة عملية قصدية، تتحقق في إطار زمني منضبط.. فكل حضارة يتكون لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، سـواء كان هذا النمـوذج مستمدا من الحاضر أو الماضي أو كليهما، أو شيئا آخر، ولكن لا بد من نموذج ومثال يحتذى. واختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، فهناك ارتباط بين النموذج والمنهج، في إطاره تتحقق صور التنظيم والديناميكا; أي الفعالية.

ويضرب ابن نبي مثالا بالغرب واليابان كامتداد لمحور واشنطن - موسكو - طوكيو ، حيث النموذج واضح في كل من الغرب واليابان الذي التحق بمحور القوة، لما توجه به الفكر المحافظ من العهد (الميجي ) والعقل الصناعي إلى تركيب [ ص: 149 ] حضاري، يبدو أنه اتجه نحو مشاكل الإمبراطورية أكثر مما اتجه نحو مشاكل الإنسان، أي نحو مشاكل (القوة ) ، غير أن نجاح التجربة كان واضحا، إذ حينما قادها العقل المنهجي، وحين قادها منطق التأثير الفعال منذ العهد (الميجي ) ، فإن اليابان اجتاز في نصف قرن المرحلة التي تفصل محور طنجة -جاكرتا عن محور واشنطن-موسكو [18] فارتقى إلى المستوى الاجتماعي للحضارة [19] وحققت له الرؤية الواضحة لنموذجه منهجا أنجز به التركيـب التـاريخي التكويـني للإنسان والتـراب والوقـت، وهـو اختار النموذج الغربي، وانتهج منهج (القوة ) ، وهو يعلم ما هو جوهري في اختياره، أي أنه كان ينجز حضارته بفعل قصدي مهما كانت اختياراته، بينما كانت المشكلة في العالم الإسـلامي تتجـه لأن تحل من تلـقاء نفسـها، بقـوة الأشـيـاء لا بحكم الفكر. أما المجتمع الغـربي فإن نموذجه الذي اختـاره نما مع القرون التي امتدت منذ عصر النهضة، وشكلت له تقاليد حضارية، زادتها الفنية الديكارتية فعالية في تحقيق نتائجها [ ص: 150 ] على مستوى التاريخ [20]

وغياب الفعالية في المجتمع الإسلامي يعزوه ابن نبي (رحمه الله) إلى أن العالم الإسلامي لم يختر حتى الآن نموذجه، الذي يعطيه تحديدا لمنهجه، وبقيت النهضة تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تخـتره، بل فـرض عليها تلقائـيا من أذواق القوم.. وما يبدو أنه اختيار للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، هو في حقيقته من قبيل (وضع الثور قبل المحراث ) ، وتكديس لمنتجات الحضارة الغربية، وهذا التكديس قد تم في تنكر كامل تقريبا للنموذج ولفضائله الواقعية ولقيمه العامة، وكان انجرارا وتقليدا للجانب السافل منه [21]

من هنا يمكن أن نؤكد أن الفعالية من وجهة اجتماعية (سوسيولوجية ) ، تنتج من خلال التركيب التاريخي للعناصر الأولية للحضارة، والتي هي الإنسان والوقت والتراب، على ضوء هداية منهج مكيف طبقا للنموذج الذي اختاره المجتمع. [ ص: 151 ] [ ص: 140 ] فالفعالية في جوهرها منهج فكري، بمعنى أنها (مسألة أفكار ومناهج وليست مسألة وسائل ) [22] كما اعتقد العالم الإسلامي حين اتجه إلى البحث عن الوسائل المادية، بينما الأمر يتعلق بنمط الثقافة وما تحدده من مناهج، وما توفره من أفكار وجو فكري، يفعل الأداء الاجتماعي للفرد والمجموع.. ولهذا فابن نبي (رحمه الله) حين يتحدث عن النموذج والمنهج، فهو في الحقيقة يتحدث عن ترجمتهما في صورة مشروع ثقافي، يكتل الجهود، ويشكل دستور الحياة، من خلال ما تحويه الثقافة من عناصر الفكر والأخلاق والعمل والجمال [23] وحينما ينعدم الإطار الثقافي بعناصره هذه، فإن الأفكار تتجه إلى الدوران حول التقليد، وتفقد اتصالها بنموذجها الثقافي الذي تكونت فيه أصالة، ويضمن لها الدور الفعال في التاريخ، وتتحول إلى معوقات إن لم تكن أمراضا تقضي على بوادر النمو.

ولذا فإن ابن نبي يجعل انعدام الفعالية يكمن في انفصال الأفكار عن نموذجها في عالمها الثقافي الأصيل، فتصبح هذه [ ص: 152 ] الأفكار حينئذ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية، سواء الموروثة عن عهود التخلف، أو الأفكار المميتة القادمة من عالم ثقافي آخر انفصلت عنه [24]

الثقافة والفعالية

كما سبق القول، فإن الفعالية في مفهوم ابن نبي (رحمه الله) لا يمكن الحديث عنها منفصلة عن نظريته في الثقافة، ذلك أن الثقافة تشكل الإطار الذي ينظم سلوك الفرد في محيطه الاجتماعي، ويمنحه الوجهة التي يسير وفقها. وأساس كل ثقافة هو تركيب تفاعلي بين عناصر الوجود الاجتماعي; الأشخاص والأشياء والأفكار.. وضمن هذا التركيب تتوجه الثقافة إلى أن تكون إطارا لتحقيق الفعالية أو الركود [25]

ونموذج الثقافة، كما يؤكد ابن نبي، يحدد الفعالية.. فالثقافة إذا ما تكونت في مجتمع، نشأت فيه تلقائيا شبكة الصلات الثقافية، وتحددت فيه فعالية الفرد، إذ الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس ويطالعه في الكتب، إنها [ ص: 153 ] ذلك الجو المتكون من عادات وتقاليد وأذواق، أي الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر [26] ومن هنا فنمط الثقافة مهم جدا في تحديد القيم الفعالة، إذ الثقافة إما أن تكون زادا ومحيطا يحرك إرادة الفرد ويحرر طاقاته في المجتمع، أو أنها تكون عائقا إذا كانت ثقافة تحمل دستورا للعطالة والتسيب واللامبالاة الفردية والاجتماعية.

فأمر الفعالية، في مفهوم ابن نبي، متعلق بإطار الثقافة الذي يجعل من المبدأ الأخلاقي منتجا للفعالية، ذلك أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص، فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكون الشرط الأساسي لأفعالها، حيث ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيما يناسب المصلحة العامة [27] فأول شرط لتكون الثقافة إطارا للفعالية هو وجود المبدأ الأخلاقي، وجودا اجتماعيا يؤثر ويوجه حركة التاريخ، وينشئ الصلات الاجتماعية، ويبني النسيج الاجتماعي. [ ص: 154 ]

وتبعا لنظريته في موقع الفكرة الدافعة في حركة التاريخ وبناء الحضارة وتشكيل نمط الثقافة، فإن ابن نبي يرى أن الثقافة لا تستطيع أن تكون أسلوب الحياة في مجتمع معين، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فـرد مرتبـطا بهذا الأسـلوب، فلا يحدث فيه نشوزا بسلوكه الخاص، وهذا لا بد أن يكون خلقيا، أي المبدأ الأخلاقي، وهو فيما يتصل بالغـرب الفـكرة المسيـحيـة وما طرأ عليها من تطور وتغير خلال حركتها في التاريخ [28]

ويورد ابن نبي (رحمه الله) مثالا لارتباط الفعالية بالمجال الثقافي الذي تشكله الفكرة الدافعة بما وقع للمسيحيين على يدي الرومان في بداية تسجيل المسيحية في النفوس بعد قرون ثلاثة من بعثة المسيح عليه السلام ، ويؤكد أن البنية التحتية التي أنشأت الحضارة الغربية كانت المسيحية [29] وأن المبدأ الأخلاقي المسيحي يشكل لحمة الصلات الاجتماعية التي تربط بين مظاهر التنوع في الغرب.

ويعزو أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية إلى أننا [ ص: 155 ] ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة لا تتصور هذه الصناعات والفنون بدونها، فهي الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه... فلو تناولنا جهاز الراديو مثلا لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بنائه، بينما هو في الواقع آثار تلك العلاقات الاجتماعية التي وحدت جهودا مختلفة لـ ( هرتز ) الألماني، و ( بوبوف ) الروسي، و ( برانلي ) الفرنسي، و ( ماركوني ) الإيطالي، و ( فليمن ) الأمريكي، فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعا [30]

ويتساءل ابن نبي (رحمه الله) : وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمـان ؟ ولهـذا يرى أننا سوف نصل في النهـاية -إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة، وليست خاصة بالحضارة الغربية فقط [31] [ ص: 156 ]

لكن ابن نبي لا يغيب عنه ما طرأ على هذا المبدأ الأخلاقي من تطور وتبدل، ولهذا ينبه إلى أن الحضارة الغربية قد قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي، أتاح لها التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها، لكن تطورها قد غير هذا الأساس العقدي شيئا فشيئا، إلى أن صار هيكلا مختلطا يتمثل فيه التفكير الكاثوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بالتفكير الحر، والتفكير اليهودي، وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق في تلفيق ديني مصطنع، وهذا يعطينا تفسيرا لبداية خفوت الروح الدافعة التي تعاني منها الحضارة الغربية اليوم [32]

وأما الشرط الثاني لتكون الثقافة إطارا للفعالية فهو الجمال، ويرى ابن نبي أن: (ذوق الجمال هو الذي يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص. فهو يضفي على الأشياء الصورة التي تتفق مع الحساسية والذوق العام من حيث الألوان والأشكال. فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته) [33] ، [ ص: 157 ] ومن هنا ينبه ابن نبي إلى وجه آخر للفرق بين العلم والثقافة، فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها.

ومن هذه الناحية يعتبر ذوق الجمال من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه يحرك الهمم إلى أبعد من مجرد المصلحة. وهو في الوقت نفسه يحقق شرطا من أهم شروط الفعـاليـة، حيـث يضيـف إلى الواقـع الأخلاقي عنـد الفرد دوافـع إيجابية أخرى من شأنها أحيانا أن تعدل من بعض الدوافع السلبية التي ربما يخلقها المبدأ الأخلاقي الجاف في سلوك الفرد [34]

فالجمال شرط مهم من شروط الفعالية في الفرد وفي المجتمع. غير أن المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي، لا يشكلان دافعا قويا إذا لم تكن هناك الوسائل العملية لتنفيذهما في الواقع، ولذا نجـد ابن نبي يضيف شرطا ثـالثـا; وهو المنـطق العمـلي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة [35] . [ ص: 158 ] وهو الذي يترجم الشرطين السابقين إلى نشاط وحركة في الواقع.. والتاريخ نفسه -كما يرى ابن نبي- ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات والأفكار، والمجتمع الذي يسجل يوميا أكبر عدد ممكن من الحركات والأفكار يكون لنفسه محصولا اجتماعيا أكبر.. وهذه الاعتبارات هي التي أدت إلى تحديد فكرة ( تايلور ) فيما يخص الإنتاج الصناعي، القائم على المنطق العملي. وتطبيق هذا يتضمن فكرة الوقت والوسائل، وبالتالي لا يمكن تصور حياة الإنسان دون جانبها المادي، كما لا نتصور شيئا لا يصدر عن فكرة معينة تتصل بطبيعتها بعالم المفاهيم، وهذا -كمـا يرى ابن نبـي- يفـرض أن نحدد عنصرا رابعا في الثقافة، وهو العلم (الصناعة بالتعبير الخلدوني ) [36]

فعناصر الثقافة تشكل مجتمعة شروط الفعالية، وكما يؤكد ابن نبي ، فإن الثقافة تشتمل على أربعة عناصر: عنصر أخلاق، وعنصر جمال، وعنصر منطق عملي، وعنصر علم. فالمبدأ الأخلاقي وذوق الجمال والمنطق العملي لا تكون وحدها شيئا [ ص: 159 ] من الأشياء إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكـوينـه. والعلم هو الذي يعطينا تلك الوسـائل، فـالعـلم -أو الصناعة حسب تعبـير ابن خلـدون - يكون عنصـرا هـامـا في الثقافـة لا يتـم بدونـه تركيـبها ومعنـاها، فهو إذن عنصرها الرابع [37]

ومن خلال ما سبق، يمكن ملاحظة أن ابن نبي (رحمه الله) يربط الفعالية بإطارها الثقافي، وأن الفعالية معناها اكتمال شروط الثقافة; من مبدأ أخلاقي، وذوق جمالي، ومنطق عملي، وصناعة (العلم ) ، فإذا اختل دستور الثقافة في أحد شروطه اختلت شروط الفعالية في إطار التاريخ، كما أن اتجاه الفعالية مرتبط بجهاز المفاهيم الذي تقوم عليه الثقافة.

التالي السابق


الخدمات العلمية