الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري (أنموذج مالك بن نبي)

بدران بن مسعود بن الحسن

مفـردات المنظـور الحضـاري

وتوظيفا لهذا المنظور الحضاري كإطار للتحليل والتفسير، [ ص: 77 ] فإن ابن نبي ضمن هذا المنظور أدوات تحليلية متعددة، هي أدوات منهجية، وظفها في كل أعماله، فسر بها حركة التغيير على مستوى الفرد والمجتمع والحضارة في إطار التاريخ، كما أنه وظفها ضمن نسق متكامل بأدواته التي سبق وأن أشرنا إليها بإيجاز، ونحاول هنا مناقشة اثنين منها لارتباطهما بدراسة الظاهرة الغربية في تكوينها وصيرورتها التاريخية.

1- قانون الدورة الحضارية

يرى ابن نبي أن الحضارة في حركة دورية مستمرة (تداول مستمر ) في سيرها التاريخي.. وإذا رجعنا إلى الكتب التي تناولت التغيير الاجتماعي وحركة الحضارة، فإننا نجد أن هناك اختلافا كبيرا بين فلاسفة الحضارة في شكل مسار الحضارة، فهل هي في تطور مستمر أم هي في حالة تراجع مستمر أم هل هي في تناوب أو تداول مستمر .

فمن بين النظريات التي حاولت تفسير حركة الحضارة: النظرية الدورية التي يعد ابن خلدون رائدها بلا منازع، وتقوم على أساس أن التاريخ هو حركة مستمرة من الصعود والهبوط في العمران البشري في المجتمعات.. وكذلك (توينبي ) ، [ ص: 78 ] و (سوروكين ) [1] .. كما نجد أيضا من القائلين بها الفيلسوف الألماني (أزوالد اشبنجلر ) . ومضمون هذه النظرية: أن الحضارة تمر بمراحل متعددة، هي الميلاد والتوسع والأفول، ثم تهاجر إلى مكان آخر، وهكذا في هجرتها المستمرة مع الزمن [2]

وابن نبي نفسه من القائلين بالظاهرة الدورية، التي تعتبر أداة أساسية في منظوره الحضاري، يستعملها في تفسير حركة الحضارة، ويبدو الأثر الخلدوني واضحا في نظريته في الدورة الحضارية، فهو يقول: (من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلا، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميـق... ومن الوجـهة الكونيـة فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ثم متحولة إلى أفق شعب آخر ) [3] ، هذه الدورة تمر بمراحل ثلاث; هي مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة [ ص: 79 ] الغريزة، ومجموع (المراحل الثلاث في هذه الدورة تعبر عن الأدوار الثلاثة التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح) ... والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل) ... أما المرحلة الثالثة فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، فيها يصبح النشاط المشترك مستحيلا) [4]

هذا القانون الذي يحكم حركة الحضارة ويجعلها في حالة تداول وتعاقب، يرى ابن نبي أنه قانون يحكم حركة التاريخ، وأن أول من تنبه لذلك هو ابن خلدون عندما اكتشف منطق التاريخ وخضوعه لأسباب تقوده في حركته وتقلبه.

وإذا كان (ابن خلدون ) صاحب أول كشف لهذا القانون، فإنه قسم مراحل الحضارة إلى: طور البداوة، وطور التغلب والاستبداد، ثم طور الضعف والترف والتدهور [5] أما (ابن نبي ) [ ص: 80 ] فقد قسمها إلى: طور ما قبل الحضارة (الروح ) ، وطور الحضارة (العقل ) ، وطور ما بعد الحضارة (الغريزة ) .

وكما سيتضح فيما يأتي من صفحات، فإنه يبـدو وكأن ابن خلدون يرى في الأطوار التي تتقلب فيها الدولة أنها أطوار خارجية تلبس لبوسها الدول في حالة ميلاد وتوسع ونضج ثم يعقبه فناء ونهاية محتومة، أما ابن نبي فقد رأى الحضارة كأنها كائن إنساني مجرد يتقلب في هذه الأطوار الثلاثة، وقد استعمل للتعبير عن ذلك لغة التحليل النفسي باعتباره الإنسان جوهر العملية الحضارية، فاستعمل مصطلحات (الروح، والعقل، والغريزة ) ، وهي ذات صلة وطيدة بعلم النفس والتحليل النفسي، تنسجم مع النسق الذي استعمله ابن نبي في التركيز على الشروط النفسية للحضارة، وللإنسان الذي يبنيها.

لكن ما يثـير التسـاؤل في قانون الـدورة الـذي بنى عليه ابن نبي تحليله وتفسيره لحركة الحضارة في التاريخ، هو أنه مرة يجعل هذا القانون أبديا وسنة ثابتة تحكم حركة التغيير الحضاري، ومرة أخرى يذكر أن قانون الدورة هذا قد انتهى مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن وجه الاختلاف بين [ ص: 81 ] الأمرين ؟ وهل لدى ابن نبي تفسير لهذا الذي يبدو اضطرابا في موقفه ؟ أم أن الأمر يتعلق بمستويات مختلفة يقدمها ابن نبي وتحتاج إلى فك الارتباط بينها، حتى لا يقع سوء الفهم لهذا القانون وتطبيقه على كل الأعمال التي يقدمها، مثلما وقع من بعض الكتاب [6]

ولكن إذا نظرنا إلى ما قاله ابن نبي نجد أنه يقول: (ويبدو أن عصرنا عصر التحول الإنساني الكبير، فهو العصر الذي يتحتم على الإنسانية فيه، وقد سبق لها أن اجتازت مع العهد الحجري الجديد المرحلة الأولى في تاريخها، بانتقالها إلى مستوى (الحضارات) ، يتحتم عليها الآن أن تجتاز المرحلة الثانية التي تسمو بها إلى مستوى حضارة الرجل العالمي ) [7] فالإنسانيـة التي تجـاوزت المرحلة التاريخية الأولى، أي مرحـلة ما قبل الحضارة، إلى مرحلة الحضارة، فإنها تسير الآن لتصير حضارة المجتمع العالمي، بدل حضارة الوحدات التاريخية. ولهذا [ ص: 82 ] فابن نبي يعتبر أن هذا الذي يحدث كان بسبب عاملين اثنين، على المستوى المعرفي، وعلى المستوى الاجتماعي التاريخي.

فأما المستوى المعرفي فكان مع ميلاد الرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كانت ظاهرة ختم النبوة ميلاد عهد جديد في التاريخ الإنساني، وميلاد القيم العالمية، والمرجعية الممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودليل على أن الإنسانية قد بلغت الرشد، أو بتعبير العلامة محمد إقبال أن: (مولد الإسلام.. هو مولد العقل الاستدلالي ) [8] هذا العقل الاستدلالي الذي زود برسالة عالمية في قيمها ومبادئها،

قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ:28) .

وفي نظر ابن نبي أن الحضارة في التاريخ كانت عملا من إنجاز اللاشعور [9] (كانت عملا غير قصدي ) ، ولم ينتبه إلى أن [ ص: 83 ] الحضارة تخضع لسنن وقوانين تحكم حركتها في التاريخ إلا مع العلامة ابن خلدون ، غير أن الحضارة الغربية حققت على المستوى الاجتماعي التاريخي امتداد الحضارة، لتشمل كل النطاق البشري، بغض النظر عن إصدار أحكام قيمية حول هذا الامتداد أكان نافعا للبشرية أم لا، أو أن الحضارة الغربية ذات قيم عالمية أم لا.

ومن الوجهة الموضوعية، فإن الغرب بتحقيقه لهذا الامتداد للحضارة، بفضل قوته الصناعية، أحدث تحولا في طبيعتها التاريخية [10] بعد أن كان الإسلام وميلاد الرسالة الخاتمة قد حققت التحول الحقيقي في طبيعتها المعرفية بفضل تعاليم الوحي. ومن هنا يمكن القول: إن الحضارة على المستوى المعرفي حققت عالمية قانونها مع النبوة [11] وحققت عالميتها على المستوى التاريخي وعلى المستوى الاجتماعي مع الامتداد [ ص: 84 ] الحضاري الغربي المعاصر، الذي امتد ليشمل كل الإنسانية، وتتأثر به من قريب أو من بعيد، سلبا أو إيجابا.

ولهذا يرى ابن نبـي أن قـانون الـدورات الـذي كان يراه ابن خلدون بحتميته، كما يراه (اشبنجلر ) بحتميته أيضا، يبـدو أنه حـدث فيه تغيـر على ضـوء أحـداث الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وكذا العامل الاستعماري الذي وحد مصير الإنسانية من خلال توحيدها في آلامها [12]

فالغرب في رأي ابن نبي ليس مستثنى من قانون الدورة، وإنما الحضارة الغربية ذاتها كاطراد تاريخي، تأتي كعامل ثان في مقابل قانون ختم النبوة على المستوى المعرفي، واتساقا مع منطق التاريخ الذي يتوجه سائرا مع القدر إلى تحقيق اكتمال دلالات عالمية رسالة النبوة،

وفق قوله تعالى: ( ليظهره على الدين كله ) (التوبة:33) ..

فالموجة الأوروبية ليست خلودا، كما ظن من رأى أن ابن نبي يستثنيها من القانون، وإنما المرحلة العالمية هي في ذاتها قانون يخلف قانونا آخر كان يعمل ضمن إطار محدد [ ص: 85 ] من تطور حركة الحضارة الإنسانية، عندما كانت الحضارة قائمة على نظام الوحدات المستقلة.

وتمشيا مع منطق التاريخ الذي يقود البشرية نحو المصير المشترك، فإن التاريخ يسجل قانونا آفاقيا آخر يجعل من عملية الأفول على مستوى الحضارة أمرا مستبعدا، هذا القانون هو قانون المقاصة، أي أنه كلما ظهر هناك ذبول أو ضعف في جانب من جوانب الحضارة فإنه يؤدي إلى تعويضه من قبل جهة أخرى في نطاق حضارة المصير المشترك التي تحتاج إلى إنقاذ [13]

ومما سبق يمكن استنتاج أن ابن نبي يربط انتهاء قانون الدورة بحركة الحضارة، وما وصلت إليه من امتداد في العالم، كنتيجة لاطراد القوة الصناعية الغربية من جهة، ونضج الوعي الإنساني من جهة أخرى بفعل الدفعة التي أعطتها الرسالة الإسـلامية، كما أشار إقبال. أي أن المرحلة العالمية كانت منطلقا للتاريخ، ومصبا لعمل سنن التاريخ، لتسلم الحضارة إلى سنة أخرى تحكمها في العهد العالمي. [ ص: 86 ]

2- الفكرة الدينية الـمركبة

من الأدوات التحليلية أيضا التي تميز المنظور الحضاري عند ابن نبي، والتي وظفها في تحليل حركة الحضارة، والتغير الاجتماعي، ما أسماه بـ (الفكرة الدينية ) .. والفكرة الدينية في نظره، هي الفكرة المركبة، التي تعمل على التفاعل بين العناصر الأساسية (الشروط الأولية ) للحضارة. فابن نبي عندما جاء إلى تعريف الحضارة، طبق عليها آليتين أو منهجين متكاملين:

أولا: المنهج التحليلي ، إذ حلل الحضار إلى عناصرها الأولية التي تعتبر الرأسمال الأولي، وصاغها في شكل معادلة رياضية ذات متغيرات ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت، وقوامها: إنسان+ تراب + وقت = حضارة.

ثانيا: المنهج التركيبي ، الذي من خلاله أراد أن يكتشف القانون الذي تخضع له الحضارة في بنائها، وتحديد المنهج الذي تخضع له الحضارة باعتبارها بناء، وهو ما أسماه بقانون التفاعل، إذ العناصر الأولية تبقى ساكنة ما لم تتدخل الفكرة المركبة، محدثة الشرارة الروحية التي تجعل من العناصر الأولية ديناميكية [ ص: 87 ] متحركة في إطار التاريخ.. هذه الفكرة المركبة التي تحدث الشرارة هي الدين، أو الفكرة الدينية.

والملاحظ أن روح البحث عن القانون الذي يحكم الحضارة كظاهرة اجتماعية تاريخية، جعلت من ابن نبي يحاول أن يضبطها في إطار مجرد على شكل معادلة رياضية، ويبدو أثر خلفيته التعليمية بارزا، في تشبيهه لمعادلة تركيب الحضارة بمعادلة تكوين الماء بالصيغة الكيميائية، رغم إدراكه لصعوبة التحديد في العلوم الاجتماعية، لتعقد الظواهر الاجتماعية وعدم وصول العلم إلى الدقة فيها مثل دقـة العلوم الطبيـعية، ولم يتم التوصل إلى تحديد مصطلحاتها بعد كما حـدث للعلوم الطبيعية [14]

ويبدو ابن نبي مستحضرا لهذا الوعي من جهة ومستلهما دقة العلوم الطبيعية من جهة أخرى، وهو يحاول تحديد دور الفكرة الدينية في تحريك العناصر الأولية للحضارة، وإدخالها في إطار ديناميكية تاريخية، ودون هذا المركب فإنها لا تحدث أثرا في التاريخ. فالدين هو المفعل للشروط الأولية للحضارة، [ ص: 88 ] والمكون للدافع النفسي الأساسي الذي يخرج الحضارة إلى مسرح التاريخ.

وقبل مواصلة تحليل الدور الذي يقوم به الدين في بناء الحضارة كما يراه (ابن نبي ) ، نتساءل أولا عن مفهوم الدين عموما، في التحديد اللغوي والقرآني وفي العرف العلمي عند المسلمين وعند الغربيين، للوصول إلى تحديد مفهوم الفكرة الدينية التي تحدث عنها ابن نبي وأعطاها دورا مهما في بناء الحضارة، ومدى انطباق مفهومه للدين على مختلف الأفكار التي صاغت الحضارات الإنسانية، كما نحدد موقع الدين والإسلام خصوصا في مفهوم ابن نبي.

ويمكن القول إجمالا: إن الدين في الوضع اللغوي له عدة إطلاقات تتضمن إلزاما والتزاما، وملتزما به، أو بعبارة أخرى علاقة بين طرفين تتضمن عهدا ومبدأ يلتزم به، فالإلزام من قبل الـملزم يقابله خضوع والتزام، وهي حالة نفسية وعملية، تسمى عملية التدين، ثم المبدأ الملتزم به، وهي الحقيقة الخارجية -بتعبير الشيخ دراز- وهي جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادا وعملا [15] [ ص: 89 ]

أما في الاستعمال القرآني فيرد مصطلح الدين بمعنيين، معنى المعتقد والمنهج الذي يتخذه الإنسان في هذه الحياة، يفسر به الوجود، ويشكل به نظرة وتصورا عن الخالق والكون والحياة، وهذا ينظر إليه من ناحيته الإنسانية العملية، أي تلك الممارسة العملية (التدين ) ، سواء كان هذا الدين إنكارا أو إقرارا بوجود الخالق وتحقق وعده أم لا. أما المعنى الثاني فهو بالنظر إلى حقيقة هذا المنهج، وواضعه، وفي هذا يصير هناك دينان فقط; دين الحق ودين الضلالة، أو بعبارة أخرى دين الله الإسلام، وغيره من الاعتقادات التي تخالفه مهما كانت.

ونفـهـم مما سـبق أن القـرآن يعـتـبر ما يتـخذ من أفكـار أو معتقدات أو خرافات منهجا للحياة دينا بالمعنى العام، وإن كانت غير مقبولة عند الله، وذلك أنها تتوفر فيها تلك الجوانب الثلاثة التي أشرنا إليها سلفا، وهي الخضوع والاعتقاد والمعتقد نفسه.

فهناك إذن جانبان للدين; باعتباره وضعا إلهيا، فإنه لا دين غير الإسلام، وباعتبار الواقع الإنساني فإن الدين هو كل منهج يتوفر فيه الجانـب النفسي الذي يحمـل الناس على التقيـد به بما يحمله من وعود وتصورات، وبما يتوفر فيه من تعاليم، هذا [ ص: 90 ] إذا نظرنا إلى الدين كمنهج للحياة وتشريع يلتزمه الناس.

غير أن هناك بعدا آخر ينبغي الالتفات إليه،

وهو ما بينته الآية: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30) ، وهذا يدلنا على أن الدين مكون أساسي من مكونات فطرة الإنسان، فإذا نقص فإن هذه الفطرة ينقص منها بعد أساسي، وهذا ما أشار إليه (باقر الصد ر) عند حديثه عن أنواع السنن التاريخية في القرآن، فالقرآن الكريم يعرض الدين، ليس على أنه تشريع فقط، بل هو سنة موضوعية من سنن التاريخ، وقانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرته، بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا يمكن تبديلها، ولا يمكن أن تنتزع من الإنسان لأنها جزء من أجزائه التي تقومه، فالدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطاؤها ويمكـن الاستغـناء عنها، فهو لا يمكن أن ينفك عن خـلق الله ما دام الإنسان إنسانا، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان [16] [ ص: 91 ]

لكن هذه السنة سنة مفتوحة تقبل التحدي على المدى القصير، لكن على المدى البعيد هي سنة صارمة لا تقبل التحدي، أي أن الدين قد يقع فيه التحريف، والانحراف، والتبديـل، ولكن يبـقى الدين مسـتمرا.. إن جوهر التـدين لا يمكن أن يتخلى عنه الإنسان [17] ، ولو استعـاض عنه ببـدائل لا دينية تحل محل الدين، غير أن الأمر في الأخير يؤول إلى الدين الحق، وهذا ما نجد القرآن يؤكده،

يقول الله تعالى: ( ... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) (فاطر:24) ، باعتبار أن هذا النذير يأتي للمحافظة على استقامة هذه السنة الكونية، ثم في الأخير يبين القرآن بأن هذه السنة هي التي ستنتصر،

يقول الله تعالى: ( ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) (الفتح:28) ، فإن هذه السنة ستظهر بالرغم من أنواع التحدي والانحراف التي ظهرت خلال التاريخ، وبالرغم من الصور الزائفة لهذه السنة.

والخلاصة مما سبق، أن الدين يقصد به معنيان، فهو تشريع [ ص: 92 ] إلهي وقانون للحياة، كما أنه من جهة أخـرى يمثل ظـاهرة إنسانية صاحبت الإنسان منذ خلقه، وهي من صميم الوجود الإنساني المتميز بالوعي والإدراك وحرية الاختيار. ولو نظرنا إلى الدين بمفهومه الذي يدرس في العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان، فإننا نجد أنه يقصد به ظاهرة اجتماعية لها جانبان، هما: جانب نفسي (حالة التدين ) ، وجانب موضوعي خارجي، وهذا يتضمن العادات والشعائر والمباني والمعابد والروايات المأثـورة والمعتقـدات والمبـادئ التي تديـن بها أمـة أو شـعب أو مجتمع ما [18] وهذا يقود إلى محاولة التعرف على المفهوم الغربي للدين وبخاصة من الوجهة السوسيولوجية، باعتبار أن البحث يحاول انتقاد وتقويم مفهوم ابن نبي للدين من الوجهة الاجتماعية أكثر من أي وجهة أخرى، ودوره في بناء الحضارة.

ففي اللغات الأوروبية، فإن الدين Religion يرجع إلى أصله اللاتيني، الذي يتكون من مقطعين Re الذي يفيد الإعادة والتكرار، و ligion الذي أصله Legere ومعناها [ ص: 93 ] الجمع والربط [19] فالدين في أصله اللاتيني الذي ترجع إليه اللغات الأوروبية يفيد معنى الربط والجمع المتكرر مرة بعد مرة، وكأن اللغة اللاتينية تشير إلى أن مهمة الدين تكون في تحقيق الربط والجمع بين أتباعه. وسنرى ظلال هذا المعنى اللغوي تخيم على تعريفات العلماء الغربيين، الذين يجنحون إلى التركيز على وظيفة الدين أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته.

فـ ( شيشرون ) يعرف الدين بأنه الرباط الذي يصل الإنسان بالله.. أما ( كانت ) فيعرفه بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.. ويعرفه ( تايلور ) بأنه الاعتقاد بوجود أرواح.. كما يعرفه ( سبنسر ) بأنه الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية.. أما ( دور كايم ) فيعرف الدين بأنه مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة (أي المعزولة المحرمة ) ، اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية [20] .. وأما ( كرين برينتون ) فإن الدين [ ص: 94 ] عنده عبارة عن نسق ميتافـيزيقي متكـامل سـواء كان سماويا أو عقلانيا [21]

والملاحظ هنا، أن الغربيين يهتمون بالدين باعتباره معطى اجتماعيا، مهما كان مصدره، فالتركيز على الوظيفة الاجتماعية للدين التي هي الربط حول مجموعة من المفاهيم، تشكل نسقا مقدسا أو نسقا غيبيا يجيب عن التساؤلات الإنسانية.

التالي السابق


الخدمات العلمية