الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الخاصيـة الثانيـة: المـاديـة

المادية رؤية تصورية

يعتبر ابن نبي (رحمه الله) (المادية ) من أهم خصائص الحضارة الغربية.. وفي تناوله لهذه الحضارة في كتاباته، فإنه يسجل ملحوظاته، ويركز في تحليله على هذا البعد -المادية- في الحضارة الغربية، وذلك ضمن مستويات مختلفة; سواء في الميدان العلمي، أو في الحياة الاجتماعية التي يظهر فيها سلوك الفرد الغربي، أو في التعبير السياسي، أو حتى في سياق التعامل الحضاري مع بقية الحضارات. كما أن هذه الخاصية تكاد تنظم كل الخصائص الأخرى، حيث تشكل أحد أهم الجوانب في كل خاصية من خصائص الحضارة الغربية. [ ص: 126 ]

ففيما يتعـلق بالـرؤيـة التصـورية، أو ما أسـمـاه ابن نبـي : (الإجابة على الفراغ الكوني ) ، أي السؤال الوجودي، فإنه يأخذ نموذجا يستخلص منه محور الثقافة والحضارة الغربية.. فمن خلال محاولته لتتبع التفسير الذي يقدمه كل من المسلم والغربي للفراغ الكوني، يضرب مثالا من قصة (روبنسون كروزو ) ، التي تصف الشخص الأوروبي في عزلته، وكيفية إجابته عن أسئلته، يقول ابن نبي : (إذ يعتزل الإنسان وحيدا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طرز ثقافته وحضارته; أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية. وهناك أساسا طريقتان لملء الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء [1]

والنظر إلى الأرض يجعل الإنسان يتعلق بالأشياء وبالمادة [2] وتتشكل عنده ثقافة مرتبطة بعالم الأشياء، (فالطريقة الأولى تملأ وحدته بالأشياء حيث يجمح بصره المتسلط لامتلاكها، [ ص: 127 ] (وبالتالي) تنشأ عنها ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية ) [3]

وقد اختار ابن نبي هذه القضية للتمثيل بها، لأن (الأدب الشعبي كاشف في هذا المجال. بل الأدب في عمومه حتى المتكلف منه، يحمل مع ذلك تلك الخاصية الشعبية في طبيعة موضوعه. وليس كالقصة تجلي عمق تلك الجذور ) [4] ثـم إنـه يقدم تحليلا لمـا تحمـله هـذه القصـة مـن أبعـاد بعـد أن يعرضها، مركزا على العناصر التي تبرز البعد المادي الكامن في الشخصية الغربية.

وكما يلخصها ابن نبي، فقصة (روبنسون كروزو ) ينطلق بها (دانيال ديفو ) من محو كامل للوسائل (أي الأشياء ) حينما يبدأ بطل قصته المغامرة. وإذا تأملنا طريقة استخدام الزمن ليوم واحد في حياة بطل القصة على الجزيرة التي نجا بنفسه إليها بعد غرق سفينته، فإننا نجد بطل القصة بدأ ينظم وقت عمله وخروجه، ووقت راحته ونزهاته. فكان يخرج في الصباح، ومعه بندقيته لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم يعمل بعد ذلك إلى ما يقارب [ ص: 128 ] الساعة الحادية عشرة ثم يأكل ما كان يستطيع الحصول عليه، وكان ينام من الظهر حتى الساعة الثانية، وفي المساء كان يستأنف العمل، وفي اليوم التالي صنع طاولة، وهكذا...

ويعلق ابن نبي بعد ذلك بأن الوقت منذ البداية لدى (روبنسون كروزو ) يجري في وقائع محسوسة: أكل، نوم، عمل. وهي وقائع تكمن في طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصاد شخصي نفعي بحت. فـ (روبنسون ) يتغلب على كآبة الوحدة بالعمل، فعالم أفكاره كله يتركز حول (شيء ) : إنها الطاولة التي يريد صنعها لنفسه، وكأن الزمن في الإطار الغـربي لا اعتـبار له إلا في عـالم الأشياء. والحياة نفسها لا معنى لها إلا حينما تنساب لحظاتها في طاولة (روبنسون ) على سبيل المثال [5]

هذا التمحور حول الأشياء يرى ابن نبي أنه يتشكل منذ (لوكريتس ) إلى (ماكس بلانك) ، وبعده مع تجذر الفكر الكمي ووضعية (أوجست كونت ) ومادية (ماركس ) [6] [ ص: 129 ] فترسخ مفهوم الكم في الوعي الأوروبي حتى صار خاصية تطبعه. هذا التمحور على الأشياء والدوران على الوزن والكم له عدة مظاهر، ويتجلى في اتجاهات فلسفية، وأنماط اجتماعية تبدو متباينة، ولكنها في جوهرها ترتكز على التصور المادي. يقول ابن نبي (رحمه الله) : (فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتما إلى المادية في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي ) [7]

وقد تضافرت على تشكيل هذه الرؤية المادية أقطاب أربعة، كان لها نصيبها مجتمعة في صياغة حضارة الآلة والاستهلاك، هذه الأقطاب هي: المسيحية البروتستانتية (الإصلاح الديني) ، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية.. هـذه الأفكـار نشـأت في تربة الغـرب ولها أصل واحد، رغم أنها تبدو أنها سـارت في مسارات مختلفة. فالمسيحية اللوثرية كيفت الإنسان الأوروبي وأعطته الصبغة والأخلاق التي تلائم البرجوازية [8] .. [ ص: 130 ] أما الرأسمالية فتوجهت به إلى تمركز المادة من خلال التشريع لفلسفة الحرية والفردية والكسب المادي، والتوجه الاستهلاكي.. وأما الماركسية فإنها هي الأخرى أعطت التفسير الاقتصادي لحركة الإنسان في التاريخ، وجعلت من النظام الاقتصادي القطب الذي يدور حوله الصراع والتغير، وركزت حركة المجتمع على الصراع الطبقي بين ( البروليتاريا ) و ( البرجوازيين ) ، هذا الصراع الطبقي الذي هو في العمق صراع مادي لأنه يتعلق بامتلاك وسائل الإنتاج.. أما العنصرية فإنها أنتجت الهتلرية والفاشية [9] كما أنتجت الاستعمار والتعالي الغربي على العالم، وذلك بفعل عقدة (ماراتون ) التي تحكمه تجاه الأمم غير الغربية [10]

ولقد تشكل قطبا المادية بفعل الصراع الذي احتدم حينا من الدهر، وبخاصة بين الاقتصاديين الجدليين وعلى رأسهم ماركس [ ص: 131 ] وأنجلز، وبين الاقتصاديين العمليين التقليديين وعلى رأسهم آدم سميث وريكاردو، وكان يغذي هذا الاتجاه المادي عاملان أساسيان كان لهما وزن كبير في توجه أوروبا نحو المادية، هما: سرعة النمو العلمي، والتوسع الاستعماري، فالنزعة العلمية والنزعة الاستعمارية انزلقا بأوروبا إلى حمأة المادية، ومع الفكر الديكارتي [11] -الذي انقلب نزعة عقلية خطرة- استسلمت أوروبا للآلة تقودها، وصارت الحياة أرقاما، وأضحت السعادة مقيسة بما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع فيه الضمير للنزعة الكمية، والعقل الوضعي الذي يشبه عقل الآلة، لم يعد يفهم شيئا وراء التصورات النسبية للمادة [12]

نتائج المادية على الحضارة

والمادية كمذهب فلسفي يقدم تفسيرا للكون والتكوين، هذا المذهب -كما يرى ابن نبي (رحمه الله) - يضع المادة من [ ص: 132 ] حيث المبدأ هي العلة الأولى لذاتها، وهي أيضا نقطة البدء في ظواهر الطبيعة، والخاصية الوحيدة للمادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت (كما) معينا أو كتلة [13] . وبذا أتلفت قداسة [14] الوجود في النفوس والضمائر، وفي الثقافة.. ولقد أتلفت القداسة حينما اعتبرتها شيئا تافها، بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم العلمية، والتي أخضعت كل شيء إلى مقاييس الكم، فصارت تتنفس تحت ثقل ركام الأشياء المتراكمة، وذبلت نفحات الروح واضمحلت القاعدة الأخلاقية التي تتحمل عبء الأثقال الاجتماعية والمادية، وبقيت أوروبا ترزح تحت الأشياء التي تنتجها تكنولوجيتها [15]

وبتتبعه لجذور الثقافة الغربية فإن ابن نبي يعتبر أن الحضارة الغربية انجرت إلى إتلاف قداسة الوجود بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية ) ، والتي أخضعت كل شيء [ ص: 133 ] وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت حين حدث التمزق الأول في الثقافة [16] باعتبار أن ديكارت بمذهبه العقلاني أنتج فلسفة تعطي دورا ثانويا للغيب، وليس للخالق إلا دور ابتدائي، ولا شأن له بعد ذلك بتفاصيل الحياة، فلا شأن له بعالم الطبيعة، وليس له دور إلا إعطاء سند للعقل باعتباره مرتكزا ينطلق منه، ليصير هو نفسه أصل كل شيء ومحركه وموجهه.

ولقد حاولت أوروبا ونجحت، كما يقول ابن نبي، ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد مسألة فقدان المبررات.. لقد نجحت في إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، وهذا يفسر الأزمة التي تعيشها من خلال إتلافها قداسة الوجود، الذي كان في حياة الحشرات مقدسا، وفي حياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع كانت هناك تفاصيل توحي بقداستها.. كان المار في الشارع إذا التقى بفتات خبز، ينحني ويلتقط هذا الفتات ثم يقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذه الأشياء، ففي احترامها تقديس لمصدر النعمة; الله تعالى. أما الغربي فلا يهمه هذا الفتـات من الخبـز [ ص: 134 ] أو أي شيء آخـر حقير في نظره، لمـاذا ؟ لأنه لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، أما الأجر الأخروي فهو شيء فوق أرضي، وميتافيزيقي، لا يجلب له نفـعـا ولا ربـحا، ولا يـزيد رصيده في البنـك، ولا يـزيـد من مكانـتـه الاجتمـاعيـة أو سمعته، ولا يحسن من صورته التجارية، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات [17]

ومع مرور الوقت ترك الغرب كل قداسة الأشياء، ومن ثم كل القيم المقدسة، ولم يبق في ذهن الإنسان الغربي مفهوم التكريم الذي وضعه الله عز وجل في الإنسان، فأفقدت الحضارة الغربية الإنسان إنسانيته، فأصبح إما وحشا مفترسا ينقض على كل ما يستطيع امتلاكه، أو يصبح حيوانا تائها في المتاهات التي تفتح له باب المخدرات، والفساد، والشذوذ عن الفطرة، والانتحار، وغيرها [18]

بل وصارت الحضارة الغربية من فرط ماديتها تقيس التقدم الاجتماعي وسعادة البشر بمقدار ما يملكون من أشياء. وحسب [ ص: 135 ] الدخل الفردي تصدر الهيئات حكمها وتقييمها بتقدم هذا المجتمع وتأخر الآخر. وصار العالم الاقتصادي هو مرتكز التفكير، ولقد نمت هذه الروح في القرن العشرين، فتأكدت فيه مراكز التفكير الاقتصادي، حتى أنه يمكن تعريف هذا القرن بأنه يخضع لقانون التوسع الاقتصادي والتقييم الاقتصادي أيضا، كما كان القرن السابق يخضع لقانون التوسع الاستعماري، وصـار الاقتـصاد ميـزة ومقيـاسا تقـاس به الأشياء ويحكـم به على تقـدم أو تخلف بلد ما [19]

ويضاف إلى تركز المقياس الاقتصادي، أن الإطار الثقافي الغربي خال من الدفعة الروحية التي تصاحب عبقريته الصناعية، فسكنه الوهم الميكانيكي، وصار النجاح الصناعي هو النجاح المادي ولا شيء بعده. ومن الصعوبة بمكان أن يتخلص الغربي من هذا الوهم الميكانيكي الوثيق الصلة بنظامه الثقافي. هذا الأخير جعل الغرب يطبق نتائج العبقرية الصناعية على المجال الأخلاقي، فصار النجاح المادي هو الفضيلة الخلقية الوحيدة [20] [ ص: 136 ]

وينتقد ابن نبي (رحمه الله) النظرة السطحية للحضارة الغربية، وينبه إلى ضرورة النظرة المتوازنة، التي ترى الجانب السلبي والإيجابي في هذه الحضارة، ومن الجوانب السلبية، ذلك الجـانب الرهيـب من تـلك الحضارة التي أدمجت الناس في سـلسـلة إنتـاج، تتـولاهم خلالها الآلة فتنهكهم، وتستنزف دماءهم، وتحيلهم أجـهزة من لحـم ودم، فأفقدت الإنسان كرامته، فترى المرأة الأوروبية التي تغادر مسكنها لتكسب بعرقها كسرة الخبـز، في جو يهدر كرامتها فيحرمها أنوثتها، كما يحرم الرجل رجولته، إنه الجانب المفزع من الحضارة الغربية التي فقدت معنى الإنسان [21]

فالعبقرية الغربية التي أبدعت الآلات لم تستطيع السيطرة عليها، حيث قادتها بعقل آلي فصارت الحياة أرقاما، بل إن أوروبا النازعة إلى الكم وإلى النسبية، قد قتلت عددا كبيرا من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من معانيها النبيلة، وأحالتها ضروبا من الكلمات المنبوذة في اللغة، طريدة الاستعمال من [ ص: 137 ] الضمير، وقد زاد خطر النزعة المادية بفعل العامل الفني الصناعي، الذي ضاعف من شهية الإنسان إلى المادة، وأصبح الرقم سلطانا في المجتمع الأوروبي منذ القرن التاسع عشر [22]

وهذا الشغف بالآلة والرقم، والتركز حول الشيء، ونفسية الإخلاد إلى الأرض، جعل التربة الغربية خصبة لتزرع فيها نبتة خبيثة، هي العلمانية; التي هي في حقيقتها ليست فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما هي انفصال الضمير عن العلم. وبلغ الانفصال غايته عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم ميدان الكهرباء في القرن التاسع عشر، أنه وحده يستطيع الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم. هذا إضافة إلى المجرى العلماني الذي قادها إليه ( أوجست كونت ) بوضعيته، ثم المادية الجدلية التي تمخض عنها ( ماركس ) . وكانت هذه الفلسفة تقود إلى تجزئة الإنسانية إلى شطرين، من خلال تحطيم وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي [23] [ ص: 138 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية