الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الرابع خصـائـص المنـهج

أولا: السـنـنيـة

ينطلق ابن نبي (رحمه الله) من قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ، ويجعلها أساس كل إنجازه الفكري، ويتخذ منها قانونا للتغيير بكل مستوياته، ويبحث في وقائع التاريخ ليؤكد للعقل المسلم أن الله تعالى يعلمنا بهذه الآية وآيات القرآن كلها، أن التغيير يخضع لسنن علينا أن نكتشفها ونوظفها في بنائنا الحضاري بكل مستوياته.. ونلاحظ أن ابن نبي لم يتوجه إلى تفسير القرآن والسنة، وإنما اتجه إلى محاولة دراسة السنن التي ينبه إليها الوحي، ويستخرجها من حركة التاريخ، ومن تجارب الإنسانية.

فهو (مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، لم ينصب فكره على النص الإسلامي، وإنما على مناط تطبيقه على المجتمع، من أجل بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل المسلم، بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف... فمالك [ ص: 169 ] يرى أن الحضارة ليست نظـرية في الفلسفة وفي المعرفة عامة، مهما كانت جميلة ومتناسقة، حتى ولو كان الإسلام ذاته، وإنما الحضارة إنجاز في عالم الزمان والمكان، ثمة تفاعل فكرة مع واقع بحسب شروط موضوعية لا تتخلف ) [1] . فهو قد اتجه إلى كيفية إعمال هذا الوحي واستخراج سنن البناء والسقوط الحضاري، ويقدمها كأدوات عملية في أيدي المسلم الباحث عن طريق للعودة إلى صناعة التاريخ.

وبتأمل أدواته التحليلية التي ابتكرها; مثل الدورة الحضارية، أو الفكرة الدينية، أو دستور الثقافة، أو المراحل الثلاثة للمجتمع، وغيرها، فإننا نجد روح البحث عن القانون الذي يحكم الظاهرة هي التي تقوده، كما أن تأكيده المتكرر على الارتفاع إلى مستوى الحوادث الإنسانية، والتأمل في السنن التي تبني الحضارات وتهدمها [2] ، كان الغرض منه إخراج المسلم من الحتمية التي وقع فيها منذ عصر (ما بعد الموحدين ) ، واستسلم لعوامل التخلف، ليدخل في دورة إنجازية قائمة على [ ص: 170 ] أسس ثابتة. وحتى قـانـون الدورة الذي كثـيرا ما اعتمد عليه ابن نبي، فإنه لا يراه حتمية، بل هو قانون يمكن التعامل معه بقانون آخر. إذ يؤكد على هذا الأمر بقوله: (إن كل قانون يفرض على العقل نوعا من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل برا أو بحرا. ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء... إن القانون في الطبيعة لا ينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهادا جديدا للتخلص من سببية ضيقة النطاق ) [3] .. وهذا القانون الذي في الطبيعة، يمكن الاستفادة منه في ميدان التاريخ، فنخلص (مفهوم التغيير الاجتماعي من قيود السببية المقيدة، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين أمثال ( توينبي ) ، الذين يرون الأشياء في التاريخ تسير طبقا لسببية مرحلية. والأشياء تسير فعلاكذلك إن تركت [ ص: 171 ] لشأنها ) [4]

وزيادة على ما قاله ابن نبي ، فإن الأمر لا يتعلق بـ ( توينبي ) فقط، بل بكثير من رواد حركات التغيير من بين المسلمين، الذين رأوا في الهيمنة الغربية قانونا صارما لا يقبل التغيير. وهي فعلاصارت قانون العصر، لكنها تقبل التغيير والتحدي، إذا علمنا أن الظـاهرة الأوروبية نسبية وليست الحقيقة المطلقة، ومن هنا يمكن التعامل معها [5] .

كما أن ابن نبي يفرق بين نوعين من السنن; فهناك ما يقبل التغيير والتحدي -مثل ما سبق الحديث عنه من نسبية الحقائق الأوروبية- وهناك سنن لا تتغير ولا تتبدل، وهذه الأخيرة ينبغي التأمل فيها، وهي السنن التي تبني الحضارات وتهدمها، وتحكم التغيير الاجتماعي، وتوجه التاريخ،

وقد أشار إليها القرآن الكريم في قـولـه تعـالى: ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (الفتح:23) [6] وهذه الأخيرة أيضا هي [ ص: 172 ] التي دفعته إلى دراسة ظاهرة الحضارة الغربية والبحث في خصائصها، وتأثير هذه الخصائص في مسيرة الحضارة الغربية، والنتائج التي قادتها إليها، وهويدرس في الوقت نفسه الحضارة الإسلامية -واقع المسلمين المتخلف في حقيقة الأمر- ليستخرج القانون العام الذي يحكم ظاهرة تنقل الحضارة، وميلادها، وأفولها، وكذا قوانين تحولها من أمة إلى أخرى، كما يستخرج القوانين الخاصة التي تحكم كل حضارة، وهو ما أسماه بنسبية الظواهر عندما تحدث عن الظواهر الأوروبية كما سبق الذكر.

فالسننية في استعمال ابن نبي (رحمه الله) تفهم في إطار محدد من خلال تقسيمها إلى مستويين; سنن عامة تحكم الظواهر في إطارها الإنساني، وسنن خاصة تحكم ظواهر جزئية ومحددة.. كما أن السننية في مفهومه مرتبطة بمفهوم آخر هو التسخير، وبالتالي فإن السنة باعتبارها قانونا، لا تقيد الجهد الإنساني، وهي تمارس حتمية في إطار مدى عمل السنة ذاتها، وليست لها طابـع الجبرية المقيـد لحـركة الإنسـان، وبخاصة فيما يتعلق بحركة التاريخ، بل هي جزء من التكليف المنوط [ ص: 173 ] بحرية التصرف.. وبتعبير آخر، أن (السنن في النفس والآفاق... قدر من قدر الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي شرعها وسنها وناط تكـليـف الإنسـان بـها، وربـط جـزاءه وقـيمة إنجـازه بمـقدار ما يكشف منها، ويلتزم بها... والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها، هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان والتوكل، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق ) [7]

وهذه الأقدار بعضها يدفع ببعض، فإذا أردنا توظيف سنة معينة عليـنا أن نوظفـها ونتحكم فيها بسنة أخرى أكبر منها، أو نتجاوزها من حيث الهيمنة والتوجيه، وهذا هو التسخير. فإن الله عز وجل سخر هذا الكون للإنسان عن طريق توظيف هذه السنن، وتتبع حركتها، وملاحظة كيفية عملها وتعاقبها فيما بينها، لتحقيق مستوى استخلافي أرقى في كل مرة يتجاوز الإنسان سنة تاريخية أو كونية إلى سنة أخرى.

فابن نبي يحرص على تأكيد سننية حركة التاريخ، وحركة [ ص: 174 ]

الحضارة، وضرورة تنبه العقل المسلم لهذا الأمر، حتى لا يقع له الذهول عن المقاصد، أويقع في ذهاني الاستحالة أو السهولة. يرى الأستاذ عمر عبيد حسنة : أن فهم (قضية السنن، بمعنى القوانين المطردة والثابتة، التي تحكم حركة الحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتتحكم بالدورات الحضارية، بما يمكن أن نسميه سنن التداول الحضاري،

استيحاء من قوله تعالى: ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140) ، والتي تعتبر معرفتها شرطا أساسيا للتبصر بالعواقب، وتؤهل معرفتها إلى تسخيرها والتمكن من الإنجاز والإبداع الحضاري، لا يتأتى إلا من السير في الأرض، الذي فرضه الله على المسلم بقوله:

( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ) (الروم:42) [8] فالسير في الأرض من خلال الارتفاع بالوعي إلى المدى العالمي، يدفع إلى أكبر قدر من الخبرة العلمية والعملية بالأحداث التي ترسم مسار التاريخ وتشكله، وتترك من ورائها آثارا للناظر المكتشف لقوانين التاريخ. [ ص: 175 ]

ولهذا فابن نبي في دراسته للحضارة الغربية وخصائصها، كان يهدف من وراء ذلك إلى البحث عن حل سنني لمشكلات العالم الإسلامي، يضعه في إطاره الإنساني، ولا يغفل الحقيقة الموضوعية التي يسير بها منطق التاريخ، الذي صار من أهم ميزاته في أواخر القرن العشرين أن الإنسانية موحدة في مصيرها، ومتشابكة في علاقاتها، مما يحتم علينا البحث في عمق الظاهرة الحضارية في حركتها في التاريخ، دون عزل يقصي الأبعاد المتشابكة لها.

ولتأكيد أهمـية النـظر السنـني للوقائع والأحـداث، ولأي إنجاز بشري، فإن ابن نبي ينطلق من استقراء الواقع الاجتماعي والتاريخي، وبمختـلف دوائـره; الدائرة الإسـلامية والدائـرة الإنسانيـة، ذلك أن الكـشف عن السـنن التي تحـكـم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض، واستقراء التاريخ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركة البشر، للإفادة منها للحاضر والمستقبل [9] وينطلق في ذلك (من عدة ملاحظات تاريخية واجتماعية ومنهجية طبعت تفكيره بالدقة والعمق، وبالقدرة على التأمل والتدبر.. فجاءت أطروحاته متسمة بالنضج [ ص: 176 ] في التفكير، وبالعمق في التحليل ) [10] . وهو وإن كان يهدف من دراساته التي قدمها إلى البحث عن حل لأزمة العالم الإسلامي، وبناء منهج لنهضته، فإنه أراد إعطاء أكبر مصداقية لتحليله، من خلال البحث في مستوى السنن التي تحكم حركة التغيير، وهي لا شك سنن تؤطر أي جهد بشري، دون النظر إليه أكان مسلما أو غير ذلك، ولهذا نراه ينزع في دراساته منزعا إنسانيا يتجاوز الدائرة الخاصة بمشكلات العالم الإسلامي -رغم تأكيده على محوريتها- إلى آفاق الإنسانية، التي وصلت إلى مصب تاريخي تحتاج فيه البشرية إلى بديل حضاري سنني قائم على هدي سنن الله في الكتاب والآفاق والأنفس.

ومن هنا يمكن فهم ما لاحظه الأستاذ إبراهيم زين ، من أن (مالك بن نبي كان يعنى في المقام الأول بمشاكل الإنسانية جمعاء، وكان يحاول وضع مشكلات الأمة الإسلامية في إطار مشكلة الإنسانية قاطبة ) [11] ، أو ما سماه ابن نبي نفسه بالارتقاء [ ص: 177 ] إلى مستوى الأحداث الإنسانية، والغرض من ذلك هو الكشف عن سنة الله فيها.

ويمكن التعبير عن الجانب السنني مما قدمه ابن نبي بالمنهج، أي أنه قدم منهجا قائما على أدوات محددة -كما سبق ذكره- وإطار تصوري قائم على المنظور الحضاري الذي صاغه، أو بتعبير الأستاذ إبراهيم زين (فقد كان يرى الأشياء بتلك البصيرة الحضارية التوحيدية النافذة التي تجلت في محاضرة (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ) [12] وفي كتبه الأخرى كلها.

وهذا هو المهم من ابن نبي; المنهج وليس الجزئيات، فقد تكون الأحداث التي انعكست في كتابات ابن نبي قد تجاوزها الزمن، وقد تكون المرحلة التي عاشها قد ولت بكل تفاصيلها، ولم يعد لها معنى، غير أن الذي يهم من فكره وفكر غيره هو الجانب المنهجي، وروح البحث عن القانون [13]

كما يمكن القول: إن أهم ما يمكن الانتهاء إليه والإفادة منه [ ص: 178 ] في منهج ابن نبي فيما يتعلق بهذه النقطة، أن ابن نبي درس الحضارة الغربية في ضوء القانون العام الذي يحكم حركة الحضارة، وقدمها لنا بصيغة منهجية يمكن من خلالها التأمل في الظاهرة الغربية ومعرفة مآلاتها ونتائجها، كما يمكن الاستفادة منها باعتبارها تجربة منجزة في إطار الزمان والمكان، وتخضع بدورها لسنن دقيقة، وليست ظاهرة مستثناة في التاريخ، أو أنها جاءت فجأة ودون عمل سنني وكفاح مستمر منذ فجر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى المآلات التي نعيشها اليوم، في عالم صارت تصاغ مفرداته ويومياته من قبل منظور هذه الحضارة الغربية، ويخضع لإفرازات خصائصها سواء في منظورها المادي الاستهلاكي، أو في عقلانيتها الديكارتية ذات الجوهر المادي والمآلات العلمانية، أو في جماليتها التي تصبغ بها الأذواق، أو في فعاليتها التي أوصلت الإنسان إلى غايات كبرى على مستوى القدرة التسخيرية للإنسان في الكون. وهو في ذلك كله يعمل على تصحيح النظرة إلى عمل السنن، وكيفية التعامل مع الظاهرة في جوهرها وفي مظهرها، و (قد أبدع مالك رحمه الله في تحليل أسباب أزمتنا الحضارية، [ ص: 179 ] من خلال رؤية متميزة للسنن التي تحكمها، فساهم بذلك في تصحيح النظرة للأزمة، حيث قدمها للناس بصيغة قوانين قابلة للفهم، ومن ثم قابلة للتسخير في حل هذه الأزمة ) [14]

التالي السابق


الخدمات العلمية