خاتمة ونتائج
وبعد; فهذه جولة في فكر مالك ابن نبي (رحمه الله) ، تتبعنا خلالها أحد نماذج الوعي بالظاهرة الحضارية الغربية في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث عرفنا المنظور الفكري لابن نبي، وموقع الحضارة الغربية في فكـره، ثم كيـفية تحليله ودراسته لهذه الظـاهرة، وما قام به من تقديم لبعض المفاتيح التي تفتح أمامنا الطريق لدراسة الظاهرة في عمقها، والتجاوز بعلاقتنا معها حدود المشاهدة والتقليد إلى آفاق التدبر والفحص والاستفادة، والنقد والتجاوز أيضا، فكان من أهم هذه المفاتيح، والتي هي أهم خصائص الروح الحضارية الغربية المعاصرة: العالمية المركزية والمادية وكذلك الفعالية والنزوع الجمالي، مستعملا في ذلك منهجا يستند على المنظور الحضاري القائم -في نظري- على السننية والأصالة والموضوعية، فقدم بذلك رؤى وتحليلات لا بد من الإفادة منها، والعبور بها إلى فهم أعمق يناسب المرحلة الحضارية التي نحن فيها، وقد تكون مما لم يدركه ابن نبي ولم يتح له إدراكه، فنفيد من تجربته ونبني على ما كان منها علميا، ونطـرح ما كان متعلقا بظروفه التاريخية والاجتماعية.. ولعل [ ص: 212 ] هذا يكون بالإفادة من المنهج والمفاهيم والرؤية أكثر من الإفادة بالتطبيقات والجزئيات التي سرعان ما تتغير وتتبدل.
ولعل من أهم ما يمكن تسجيله من خلال هذه الدراسة من نتائج ما يلي:
أولا: يتخذ ابن نبي من الحضارة الوحدة الأساسية لدراسة الحركة التاريخية للمجتمعات، فالحضارة بالنسبة له تعتبر الوحدة الأهم في التحليل، والتي تمكننا من الإحاطة بأكبر قدر ممكن من المتغيرات العمرانية (السوسيولوجية ) والتاريخية التي يجتازها مجتمع معين في إطار حركته التاريخية.. وبالتالي وحتى نتمكن من فهم السنن التاريخية التي تحكم سير الحركة الاجتماعيـة، علينا أن نرتـفع إلى أفق الأحداث الإنسانيـة، وإلى توسيع دائرة الاهتمـام والدراسـة، إلى الحد الذي يمكنـنا من الإحاطة بالقوانين التي تحكم نهوض وسـقوط الحضـارات، أي القوانين التي تتحكم في انتقال الحضارة، باعتبار أن مشكلة كل أمة في جوهرها هي مشكلـة حضارتها، وكيفية قيامها وتطورها، أو سقوطها. [ ص: 213 ]
ثانيا: يمكن النظر إلى الغرب من زاويتين: من الوجهة الجغرافية السياسية، حيث إن الغرب له إطار محدد هو أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو من هذه الزاوية كيان متميز يختلف عن بقية الكيانات الجغرافية والسياسية الأخرى في إفريقيـا وآسيا. أما من الوجهة المفهومية، فإن الغرب إطار حضاري، وبعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول يتمثل في النموذج الغربي في الحياة، والثاني هو الرموز الثقافية الغربية التي نشأت في إطار الوعي الغربي والتطور التاريخي للغرب، والبعد الثالث هو مظاهر الوجود الغربي، من انتشار لسلعه وأنماطه الحياتية ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم. فمن هذه الوجهة المفهومية، فإن الغرب مفهوم يتجاوز حدود إطاره التاريخي والجغرافي.
ثالثا: يرى ابن نبي أن دراسة التجارب الحضارية أمر مهم، في سبيل البحث عن حل للأزمة الحضارية للعالم الإسلامي، وأن أهم الدوافع إلى ذلك هو أننا بدراستنا لهذه التجارب الحضارية نتمكن من اكتشاف السر الذي يحكم الظواهر، والتمكن من [ ص: 214 ] معرفة القانون أو السنة الإلهية التي تنتظمها، وبالتالي، نتمكن من تحديد نقطة البداية للتعامل مع الظاهرة باعتبارها قابلة للدراسة والتطويع والتحكم من خلال معرفة قوانينها.. وكذلك فإن دراسة التجارب الحضارية الأخرى تساهم في تحديد موقعنا في التاريخ، ومن تطور الحضارة، ومن سلم التقدم. إذ لا يمكن من الناحية الواقعية العيش في عزلة عن حركة الحضارة في العالم، بعد الأحداث التي شهدها القرن العشرين -والثلث الأخير منه بالذات- حيث دخل العالم مرحلة تغيرات كبرى على صعيد التكنولوجيا والتطور الصناعي، والمعلوماتية، وطرق الاتصال الحديثة، والتي من شأنها تقريب المسافات بين الاهتمامات الحضارية للأمم في العالم.
رابعا: تعتبر الصلة بيننا نحن المسلمين وبين الغرب من أهم المسائل التي واجهت جهود التجديد في العالم الإسلامي منذ وقت مبكر، والتي يقع الفكر الإسلامي بسببها في اضطراب عندما يتعلق الأمر بها، ومن المهم تحديد طبيعة العلاقة مع الكيان الحضاري الغربي، للتمكن من صياغة حلول للمشكلة الإسلامية من منطلق الوعي بالمتغيرات التي تشهدها البشرية، ومن منظور [ ص: 215 ] يتجاوز التناول الاجتزائي لمسألة التجديد، من خلال المنظور الحضاري الذي يقترحه ابن نبي لحل المشكلات الحضارية للعالم الإسلامي.
خامسا: هناك مستويان للعالمية في منظور ابن نبي ، أحدهما العالمية من حيث تعلقها بالمستوى القيمي; وتتمثل في القيم المفتوحة والمستوعبة للتطلعات الإنسانية، والمتجاوزة للأطر العرقية والأيديولوجية واللغوية، وكل المحليات أو النماذج الجزئية.. وهذه نجدها تتحقق في القيم التي جاء بها القرآن، وأعلنت عنها الرسالة الخاتمة مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي ما يمكن تسميتها UNIVERSALITY باللغة الإنجليزية. حيث إن القيم القرآنية قيم موضوعية ومفتوحة وقادرة على استيعاب كل تطلعات الإنسان، والاستجابة لكل آفاقه والإحاطة بها، دون اختصاص بعرق معين أو لغة معينة أو جهة معينة.
أما المستوى الآخر فهو العالمية من حيث تعلقها بهيمنة النموذج الغربي خلال القرنين الأخيرين -والقرن العشرين بالأخص- وذلك من خلال انتشار أنماط الحياة الغربية، [ ص: 216 ] والصناعات، وأساليب الاتصال والإنتاج الغربية في العالم، وهي عملية تقوم بها الحضارة الغربية من خلال التشريع للقيم والنماذج والمنتجات الغربية لجعلها محط أنظـار العالم، وكذا من خلال التنكر لتاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، والضغط الغربي على هذه الحضارات لتتبنى نتائج الرؤية الغربية المتمركزة حول ذاتها، ذات المرتكز والأصالة المادية، لتجعل منه النمط الأوحد الغالب والسائد في العالم، وهي عملية قصدية كان أهم أدواتها الاستعمار والعنصرية وفلسفة النهضة، والرؤية المتحيزة ضد غير الغربي. وهي ما يمكن تسميتها اليوم العالميـة المركزيـة أو العولمة GLOBALIZATION
سادسا: من أهم نتائج العالمية الغربية المتمركزة أنها كانت لها -ربما دون قصد من الغرب- نتائج إيجابية لصالح البشرية، إذ إنها ارتفعت بالبشرية مع العامل الصناعي التقني إلى مستوى عالمي، فكان أن اتسعت دائرة الوعي لتشمل العالم ككل، ووحدت الحضارة الغربية مع مصائر الشعوب من خلال إشعاعها العالمي، وبالتالي إشعاع فوضاها وأمراضها على العالم ككل، من مثل الاستعمار الذي وحد بين الشعوب الإفريقية الآسيوية بسبب [ ص: 217 ] وحدة المشكلة الغربية التي تواجهها هذه الشعوب.. فهذا الإشعاع ولو كان سلبيا في عمقه، فإنه اصطحب معه دون قصد نتائج على البشرية التي عانت من سطوة الغرب وحضارته، فكان أن توحدت البشرية (الشعوب الإفريقية الآسيوية بخاصة ) أمام التحدي المشترك. وبسبب التفوق التقني للحضارة الغربية فإنها أعطت للتاريخ الإنساني دفعا، جعل البشرية تتجاوز الوحدات التاريخية المنعزلة، إلى التفكير في بناء التاريخ الإنساني المشترك الذي تساهم فيه الشعوب كلها.
سابعا: تمثل المادية محورا مهما للحضارة الغربية، وخاصية أصيلة ومركزية لا يمكن تجاهلها لدارس الحضارة الغربية، فهي تنظم الميدان العلمي، وتشكل الرؤية التصورية للحياة والعالم والتاريخ، أي أنها مذهب فلسفي يقدم تفسيرا للكون والتكوين، كما أنها تصبغ الحياة الاجتماعية، والتعبير السياسي، وتتحكم في العلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى.. هذه الخاصية تشكلت بفعل عوامل متعددة أهمها: المسيحية البروتستانتية، والرأسمالية ، والماركسية ، والعنصرية، والعقلانية. [ ص: 218 ]
وكان من أهم نتائج هذه الخاصية على الحضارة أنها فصلت بين الضمير والعلم، وتجاهلت البعد الإنساني للإنسان، فصار التعامل معه مثل التعامل مع سلعة، بعيدا عن التكريم الذي ينبغي أن يحظى به مستخلفا في هذا الكون.
وبالتالي حدث استبعاد للقيم الأخلاقية، لأنها لا يمكن قياسها بالكم والرقم، ولا تدخل نفعا ولا ربحا، لذا لا مانع من بيع أي شيء حتى الإنسان نفسه أو أعضاءه أو عرضه من أجل تحقيق ربح أكثر. كما أن التقدم الاجتماعي صار -بفعل النظرة المادية- يقاس بالكم، وبمقدار ما يملك الفرد أو المجتمع من أشياء، وتحسب السعادة الاجتماعية بالدخل الفردي والدخل الوطني، ولا تدخل في ذلك معايير أخرى غير خاضعة للكم والرقم. ولهذا فإن الخصائص الأخرى ترجع في أساسها إلى أصالة المادة منطلقا وتصورا، كما تدور على محور المادة سواء على المستـوى المعـرفي أو المنـهجي. فكل حديـث عـن العـالمـية أو الجمـالية أو الفعالية أو غيرها، فإنه ينبغي فيه مراعاة المحور المركزي لهذه الخصائص، أو ما يمكن تسميته بالخاصية الأم، وهي المادية. [ ص: 219 ]
ثامنا: الخصائص الحضارية الغربية خصائص مترابطة ومتشابكة ونمت في إطار زمني وتاريخي غربي، ولها من الخصوصيات ما يجعل منها قاصرة عن أن تكون مفتوحة ومقبولة من غير الغربيين، كما أنها مرتبطة بالرؤية الغربية للكون والتكوين والحياة، وناتجة عن دستور الغرب الثقافي الذي تتكامل فيه كل أبعاد الثقافة الغربية.. هذه الثقافة التي تشكلت عبر التطور الحضاري الغربي، كان من أهم مكوناتها: الجذور الإغريقية اللاتينية، والمسيحية الغربية بتمظهراتها المختلفة، وكذا تقاليد الشعوب الأوروبية خاصة منذ عصر النهضة، ثم تطلعات وروح القرن التاسع عشر (قرن الروح الاستعمارية ) وروح القرن العشرين (قرن الثورة التقنية وانتشار التصنيع والتكنولوجيا ) .
فالفعالية الغربية مثلا، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المرحلة الحضارية التي يعيشها الغرب، ولا يمكن فصلها عن إطارها الديناميكي، فهي خاصية ناتجة عن نمط الثقافة الغربية التي ترتكز على القوة ومنطق الحسم، كما أنها نتاج معادلة اجتماعية تجعل من حركة الإنسان في التاريخ ومدى تحقيقه لأكثر النتائج على المستوى المادي هي المقياس الحقيقي للفعالية. وهي رغم ارتباطها [ ص: 220 ] بالمادية الغربية كتصور، فإنها من أهم إضافات الحضارة الغربية إلى العالم، فقد جعلت منها خاصية مهمة، وصبغت بها كل أعمالها وإنجازاتها، ارتباطا مع جهاز مفاهيمها وإطارها الثقافي.
تاسعا: النزوع الجمالي قيمة حضارية مهمة تساهم في ضبط الأذواق، والرفع من فعالية الفرد والمجتمع، وهي إلى جانب القيمة الأخلاقية، تمثلان أهم ما يحدد اتجاه الحضارة في التاريخ، فإذا كانت القيمة الأخلاقية في الصدارة فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الأخلاقية، وإذا كانت الصدارة للقيمة الجمالية فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الجمالية، ولكل اتجاه من هذين نتائجه الخطيرة إما سلبا أو إيجابا.. والتطرف في إحدى القيمتين يؤدي إما إلى الاتكالية والغنوصية والتصوف السلبي، في حالة طغيان القيم الأخلاقية، وإما يؤدي إلى الإباحية والعري والتفسخ الأخلاقي إذا طغت القيمة الجمالية، ويمكن ملاحظة هذين المشهدين في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وذلك عندما يختل التوازن بين القيمتين.
وفي كلتا الحالتين يحتاج الأمر إلى إعادة التوازن لدستور [ ص: 221 ] الثقافة، فهو الإطار الذي تتشكل فيه هذه القيم، وهو الذي يحفظ توازنها، ويوجهها لتصنع التاريخ.
عاشرا: من أهـم الإضـافات التي قدمها ابن نبـي فيما يخص دراسة الحضارة، أنه جعل من الحضارة الوحدة التحليلية والتفسيرية الأساس، متجـاوزا بذلـك الوحـدات التحليلية الجزئية في إطار مجتمعي أو جهوي معين، ذلك أن الحضارة تمثـل الكيـان الأوسـع، الذي يمكـن من خـلال دراسـته أن نتـمـكن من الإمساك بجوهـر المشكلات التي تتمظهر على المستوى المذهبي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وإرجـاعها إلى الوحـدة التي تجمعها في إطار كلي دون الإخلال بالجوانب الجزئية للمشكلة.
ولهذا فالمنظور الحضاري إطار كلي وتفسيري، يبحث في القانون العام الذي يحكم الظاهرة، دون الإخلال بالقضايا الجزئية، بل يجعلها تحت المنظور الكلي الذي تدرس وتحل في إطاره.. هذا المنظور يقوم عند ابن نبي على خمسة أبعاد هي: مرجعية الوحي، والسننية، والفعالية، والجمال، والعلم. [ ص: 222 ]
وبعبارة أخرى، فإن المنظور الحضاري يقوم على أساس الرؤية الإسلامية للكون والتكوين، والحقيقة الموضوعية التي بث الله سننها في الآفاق والأنفس والتاريخ، والفعالية الاجتماعية التي تحقق الأفكار في واقع التاريخ، والعلم باعتباره تراكما للخبرة البشرية وتفاعلا مع الوحي، ثم الذوق الجمالي الذي هو الإطار الذي يحدد وجه الحضارة، وعنوان اتساقها مع سنة الإحسان.
الحادي عشر: ومن أهـم ما يمـكن الحديث عنه في دراسـة ابن نبي للظاهرة الحضارية الغربية، أن ابن نبي في دراسته لهذه الحضارة كان من جهة يدرس المشكلة الحضارية الإسلامية بشكل أساس، ولكن في مستوى أوسع جعل الحضارة وحدته الدراسية، وبالتالي فإنه درس التجربة الحضارية في هذا الإطار. كما أنه من جهة أخرى كان يدرس الدور الذي يقوم به الدين في تحريك الطاقات الاجتماعية والدفع الإنساني إلى القيام بأعمال تاريخية، وكان في كل ذلك -وخاصة فيما يتعلق بالإسلام- يبحث في كيفية استرجاع حيوية الوظيفة الاجتماعية للإسلام، أكثر من البحث في أصالته باعتبار أن الأصالة مسألة مفروغ منها، وأن المسلم، حتى (مسلم ما بعد الموحدين ) ، لم يفقد إيمانه بالله يوما ما. [ ص: 223 ]
وانطلاقا من اعتباره أن العلاقة الاجتماعية هي ظل العلاقة بالغيب في الواقع، فإن ابن نبي ركز في دراسته لدور الدين على التنبيه إلى أن مهمة الدين ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة، مثلما كان الأمر بين المهاجرين والأنصار الذين التحموا بسبب الفكرة الدينية (المؤاخاة ) .
الثاني عشر: يتضح أن ابن نبي كان صاحب منهج، وله أدواته التحليلية الخاصة به، كما أن له مصطلحاته الخاصة التي أبدعها. وعلى الرغم من أنه وظف كثيرا من المصطلحات التي نمت في حقل علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع الديني، فإنه حاول تخليص هذه المصطلحات من خلفياتها الفلسفية، وفك الارتباط بينها وبين مجالها الدلالي الغربي، وإعطاءها مجالا دلاليا يرتبط بمنظوره الحضاري ومرجعيته الإسلامية.
ونظرا لحداثة التجربة التي كان ابن بني يخوضها منذ الثلاثينيات من هذا القرن، فإن التراث العلمي الذي تركه كان [ ص: 224 ] فيـه بعض القصـور الذي يحتـاج إلى نقـد وتطوير فيما يخص توظيـف المصطلحات الغربية ذات الظلال التي قد تتعارض مع المرجعية الإسـلامية والتصـور التوحيـدي، إلا أن أهم ما قدمه ابن نبي في إطـار دراسة الحضـارة هو المنـهج الذي درس من خلاله الحضارة.
وكما مر معنا، فإن ابن نبي كان يركز على الحقيقة الموضوعية للظاهرة الحضارية وبقية الظواهر الاجتماعية، والتأكيد على خضوعها لسنن إلهية قابلة للاكتشاف والفهم، وبالتالي لأن يطـوعـهـا الإنسان لصـالحه. كما كان في كثـيـر من أطـروحاته ذا أصالة; سواء من حيث العمق الخلدوني لأفكاره وإطاره العام، أو من حيث تطويره لبعض الأدوات التحليلية والمفاهيم والمصطلحات الخاصة بدراسة الحضارة، أو من حيث وعيه بموقع الإسلام من العملية التغييرية، وأهمية الاستفادة من التجربة الحضـاريـة الغربـية باعتـبارها تجربة شهـدت أكبر الإنجازات وأكبر الإخفاقات.
وما يمكن أن يختم به الموضوع، أن ابن نبي كان يوظف [ ص: 225 ] المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين معطيات الوحي وبين العلوم المعاصرة، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وبين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.. ويبدو أن هذا أعطاه قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية مفتوحة، كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي.
وفي الأخير نتساءل كما تساءل آخرون -بعد الجهد الذي قدمه ابن نبي في التنبيه على أهمية الأفكار ودورها في تقدم الفعل الحضاري- إلى أي مدى نعترف بدور الأفكار في صناعة التاريخ ؟ وهل غرست فينا رسالة ابن نبي الإحساس بالسننية والأصالة والموضوعية لنرتقي إلى أفق الأحداث الكبرى، وإلى مستوى السنن التي تحكم حركة التاريخ ؟ وإلى أي مدى استفدنا من دراسة ابن نبي للحضارة الغربية ؟
ولله الحمد من قبل ومن بعد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم; وأمرنا لنسلم لرب العالمين. [ ص: 226 ]