من معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي
الناظر في الفقه الإسلامي يلحظ مدى حفاوة أهل العلم بتقعيد قواعد متعددة لاستيعاب الخلاف استقاء من مقاصد الشريعة، ومن أهم هـذه القواعد: قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) التي حاولنا مناقشتها ووضعها في مواضعها الحقة عند الاستشهاد بها فيما مضى. ومن القواعد الأخرى المهمة التي وضعت لاحتواء الخلاف خوفا من أن يؤدي إلى التنازع، ولتكوين النفسية التي تقبل بوجوده وطبيعيته، بل وأهميته أحيانا قاعدتان أخريان تذكران أحيانا في أصول الفقه وأحيانا في القواعد الفقهية وهما، « كل مجتهد مصيب »، و « استحباب الخروج من الخلاف ».
أولا: قاعدة ( كل مجتهد مصيب )
بنيت قاعدة ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) على قاعدة: ( كل مجتهد مصيب ) [1] . يقول الإمام النووي رحمه الله: «إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب. وهذا هـو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه» [2] . وقال غيره: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد على من اجتهد فيها، وقلد مجتهدا؛ لأن المجتهد إما مصيب أو كالمصيب في حط الإثم عنه، وحصول الثواب له» [3] . [ ص: 161 ] والمقصد الأرشد والأسمى في وضع هـذه القاعدة أمران:
الأول: هـو الحفاظ على وحدة المسلمين، والنظر إلى أن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ قطعي، بخلاف المسائل الفقهية الفرعية التي ينتمي كثير منها إلى دائرة الظنيات.
الثاني: الحث على الاجتهاد لمن يملك أدواته في محاولة الوصول إلى هـدى الله في الوقائع النازلة.
وقد غلا بعضهم في هـذه القاعدة، فزعم أنها تشمل المسلمين وغيرهم ممن عرف الإسلام وسمع به، وقامت حجته عليه [4] .
غير أن هـناك نزاعا في أصلها وقد اختلفت فيها أقوال الأصوليين حتى تشعبوا، ولكنهم كما قال الشوكاني : «لم يأتوا بما يشفي طالب الحق» [5] . لذلك انتهى الشوكاني إلى أن الدليل البين الذي يرفع النـزاع «ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب هـو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن: ( الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ) [6] ، فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له: مصيب ويستحق أجرين. وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له: مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا. واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر» [7] . [ ص: 162 ] وقد كان الصحابة يخطيء بعضهم بعضا في الاجتهادات، حتى في المسائل الاجتهادية، كما تقدم، وكما « " روي أن عليا رضي الله عنه وابن مسعود وزيدا خطئوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس : من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفا ونصـفا وثلثا، قد ذهب النصفان بالمال فأين موضـع الثلث؟ "
" وروي عن ابن عباس أنه قـال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت ؛ يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا... " وهذا إجماع ظاهر على تخطئة بعضهم بعضا في مسائل الاجتهاد، فدل على أن الحق من هـذه الأقوال في واحد، وما سواه باطل» [8] .
بل «كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار من يجوز أنه من أهل النار، وإن كان غفرانه في الجملة مقطوع» [9] . بل ثبوت أجره على الاجتهاد أمر بدهي في الشريعة الإسلامية.
لذلك يمكن القول: إن المراد بهذه القاعدة -حال التسليم بها- هـو أن الاجتهاد صواب في ذاته لا في نتيجته، وقد يكون المراد صواب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي لكل فيها حظ من النظر، لا في المسائل الخلافية، ولذا قـال الزركشي : «الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحـد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا [10] فيه، وإنما ينكرون ما خـالف نـصا [ ص: 163 ] أو إجماعا قطعيا أو قياسا جليا» [11] . فهذا الذي قرره الزركشي هـو مدار البحث، وهو متفق عليه لا يخالف فيه أحد، إنما يتفرقون في التعبير والتفصيل بعد ذلك، ولكن المحاكمة تكون إلى هـذا الأصل.
كما يمكن القول: بأن الخلاف حولها لفظي عند الجمع بين النواحي التنظيرية والتطبيقية للفقهاء القائلين بها؛ لقيامهم بالإنكار على مخالفيهم في الاجتهاد في مسائل خلافية، وعند القول بأن المراد من أن: كل مجتهد مصيب في أصل الاجتهاد، أو في رفع الإثم عنه وثبوت الأجر له، أو في الاجتهاد في مسألة اجتهادية محتملة.
وهذا كله يقود إلى أن المراد الأعظم من وضع هـذه القاعدة: الحث على الاجتهاد، واستكثار الآراء في المسألة للمتأهلين من أجل الوصول إلى الهدى الرباني، وأن يجتمع المسلمون حول عاصم الأخوة، وحقائقها القطعية.
ثانيا: قاعدة ( استحباب الخروج من الخلاف )
وخوفا من أن يؤدي الاختلاف إلى التنازع، ويطغى على حقوق الأخوة الإسلامية فإن أهل العلم قد وضعوا قاعدة أخرى تمثل تتميما لقاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ؛ وذلك بالنظر إلى النصوص القطعية التي تمنع التنازع بين المسلمين وتحرمه، واعتبار ذلك أحد المقاصد الهامة للشريعة الإسلامية، فالاختلاف مهما كان مبرره هـو بوابة التنازع، وهذه القاعدة هـي: (استحباب الخروج من الخلاف) .
وقد صارت ( مراعاة الخلاف ) قاعدة فقهية معتمدة وعرفت بأنها: إعمال دليل (المخالف) في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر، [ ص: 164 ] أو يقال هـي: اعتبار خـلاف (الغير) بالخروج منه عند قوة مأخذه بفعل ما اختلف فيه [12] .
ومن أمثلة ذلك: أن الإمام مالك رحمه الله اختار أن يكون الوتر ثلاث ركـعات «لأن جماعة من أهل العلم يقولون الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها. فأراد مالك إبقاء الصورة إذ لم يجز عنده اتصالها» [13] .
والشافعية يستحبون مسح الرأس كله في الوضوء مع أنهم لا يقولون بوجوب ذلك مراعاة لخلاف المالكية .
وقسم العز بن عبد السلام الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل؛ كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك ، واجبة عند الشافعي . وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن وكذلك مالك في أحد الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه. والضابط في هـذا أن مأخذ المخالفة إن كان في غاية الضعـف والبعد من الصـواب فلا نظر إليه ولا التفات إليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن كانت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه؛ حذرا من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل [ ص: 165 ] الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات [14] .
ولكن الخلاف الذي يراعى هـنا هـو ما كان في المسـائل الاجتهادية لا في كل خلاف؛ أي ما كان مأخذ المخالف فيما ذهب إليه قويا، بحيث لا يعد هـفوة أو شذوذا، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع فهو معدود في جملة الهفوات والسـقطات لا من الخلافيات المجتهدات، ومن هـا هـنا لم يراع خلاف أبي حنيفة رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين، وكذلك إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد، ومنه أيضا ما نقل عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية [15] .
وإنما كان الحرص على الخروج من الخلاف لسببين:
- خوفا من احتمال التورط في نقيض مقصود الشارع بفعل ما هـو خلاف الأولى مطلقا.
- وللحاجة الماسة للأمة الإسلامية إلى تقريب وجهات النظر بينها، عسى أن تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها كأنها بنيان مرصوص.
فالاختلاف سواء كان اختلاف تناف أو تضاد يؤدي إلى التنازع، بل إن اختلاف التنوع قد أدى إلى التنازع في صور قديمة ومعاصرة، فكيف إذا كان اختلاف تناف؟
ومن المفاسد العظيمة التي يؤدي إليها التنازع مفسدتان:
أولاهما: ظلم النصوص بوضعها في غير موضعها، ومصادرة ما عند كل طرف من حق وباطل، وخطأ وصواب؛ لمجرد أنه ينتمي فكريا إلى [ ص: 166 ] اتجاه إسلامي آخر، ثم يعقب ذلك أن تختار بعض هـذه الاتجاهات من المذاهب والأقوال ما تشتهيه ويوافق هـواها، لا ما يوافق هـدى الرحمن،
والله تعالى يقول: ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) (ص:26) ،
ويقول: ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) (المائدة:77) .
وقد يزينون هـذا الخطأ الكبير بالاستدلال بقاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) أمام عامة أتباعهم، ثم يمارسون أقسى أنواع الإنكار في واقعهم العملي.
وثانيهما: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم بعضا، وبغيهم عليهم؛ تارة بنهيهم عن عمل لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم؛ لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يؤثروا في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات، وإسناد الوظائف [16] ، وبذل المساعدات، وتيسير المعاملات من يكون فاقدا لأهلية ما أسند إليه قوة وأمانة، ويحاربون القوي الأمين بغيا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق؛ لمجرد الرغبة الشخصية في وجود شخص موافق لهم في كل صغير وكبير دون أدنى تقويم أو نصح حق، مكتفين بإلهاء أتباعهم بشيء صوري من النصح والتذكير والإنكار. [ ص: 167 ]