من أخلاق الصحابة والسلف في الإنكار
استوعب الصحابة رضوان الله عليهم فقه الاختلاف، فلم يفسد الخلاف بينهم المعالم الإسلامية القطعية، مثل: الأخوة الإسلامية بحقوقها من حب ومودة ونصرة وتعاون، فأعملوا في ذلك قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) في موضعها، فلم تمزق لهم وحدة، ولا شققت لهم أخوة.
ولم يتركوا النصح فيما بينهم والحوار والمجادلة بالتي هـي أحسن، ورد الخطأ والتنبـيه عليه عندما يظهر في اجتهاد أحدهم، ولم يجعلوا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) على إطلاقها تستعلي على النصوص، وعلى المحكمات الشرعية لمجرد ظهور خلاف فلان منهم فيها، مع التماس العذر له في خلافه من سهو أو نسيان أو عدم بلوغ دليل.
لقد تمت عملية تطبيع تربوية للصحابة بشأن عدم التنافي بين الإنكار وبين بقاء عاصم الأخوة وحقوقها، وبقاء جلالة قدر كل من الطرفين عند الطرف الآخر [1] . لذلك فإن المتأمل في مواقف بعض الصحابة مما ورد في ثنايا هـذا البحث وأقوالهم، وعباراتهم التقويمية في الإنكار بعضهم على بعض، وأساليبهم الراقية في التعامل مع الخـلاف يخلص إلى مـا يأتي مما يمكن تسميته، «آداب التذكير والإنكار في المسائل الاجتهادية»: [ ص: 168 ] 1 - قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه لا يتقن حفظه، فيبين الآخر أن هـذا هـو عذره، وهذا كما " قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في ابن عمر رضي الله عنهما : رحم الله أبا عبد الرحمن ؛ سمع شيئا فلم يحفظه. "
2 - قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه لا يفهم كيفية الجمع بينه وبين نص آخر إلا بهيئة غير صحيحة، كما حاول ابن عمر الجمع بين أن تكون آخر صلاته من الليل وترا، وبين حبه التنفل إن قام من نومه، فيضيف إلى الوتر في أول الليل ركعة أخرى لتصبح شفعا، " فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الإنكار عليه: يرحم الله أبا عبد الرحمن ؛ إنه ليلعب بوتره. "
3 - قد يسمع المرء النص فلا يورده على أصل ما سمعه؛ إما لنسيان وإما لخطأ، وفي ذلك " قالت السيدة عائشة في ابن عمر رضي الله عنهم : غفر الله لأبي عبد الرحمن؛ أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ. "
4 - قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه يحفظ بعضه ويترك بعضه دون شعوره أو لطارئ حدث أثناء الحديث، " تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : يرحم الله أبا هـريرة ؛ حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره. "
5 - قد يغفل المرء عن النص لعدم علمه به، فيفتي على خلافه، وفي ذلك " تقول السـيدة عائشـة رضي الله عنها : يرحـم الله أبا هـريرة؛ لم يحفظ... " وقد رجع أبو هـريرة إلى فتواها لما بلغه النص.
6 - قد يذكر المرء النص دون أن يبين معناه فيقع السامع في حيرة؛ لتعارض ظاهر ما سـمع مع نصـوص أخرى؛ " تقول السيدة عائشة في ابن مسعود رضي الله عنهم : يرحم الله أبا عبد الرحمن؛ حدثكم بحـديث لم تسألوه عن آخره. " [ ص: 169 ] 7 - قد يستلزم الإنكار نوعا من التذكير بأهم الحقائق الإسلامية؛ وهي التحاكم إلى الله ورسوله، وترك غيرهما ولو كان من أفضل الخلق؛ وذلك لتثبيت حقيقة الاستسلام لله وحكمه، لا لظن أن العالم يخالف قول الله عمدا، ومن ذلك " قول ابن عمر رضي الله عنهما منكرا على اجتهاد لأبيه: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " " وأخذ ذلك ابنه سالم ، فقال في مسألة شبيهة: «فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ بها من قول عمر » " .
ومثل ذلك " قال في ابن عباس رضي الله عنهما : فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا؟ "
8 - قد يكون العذر لمن أخطأ في الفتوى عدم تركيزه أثناء الإفتاء لعارض طارئ مما لا يخلو منه المرء أحيانا، كما " قـال ابن عمر في أنس بن مالك ، رضي الله عنهم: يرحم الله أنسا ، وهل أنس؟ "
9 - قد يكون سبب الخطأ في الفتوى زلل العالم، وذلك لا يخل منه أحد؛ " يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ما قالها ابن مسعود ؟ وإن يكن قالها فزلة من عالم... " وهنا استبعد على ابن مسعود قولها، ثم استدرك أنه قد يحدث ذلك للطبيعة البشرية، فتكون زللا ولا تؤثر على مقداره وجلالته.
الثناء على المجتهد والدعاء له قبل الإنكار عليه
ومما يلحظ في الروايات السابقة كلها: تقديم الثناء على المجتهد في المسائل الفرعية، والدعاء له على بيان سبب خطئه وتصحيح ذلك الخطأ، ومن ذلك " قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فتوى لابن مسعود وقد خالف اجتهاده فيها: يرحم الله ابن مسعود، إن كان لفقيها. " [ ص: 170 ] ومما يصور طبيعة التواد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل التي اختلفوا فيها ما وقع بين عائذ بن عمرو وأبي برزة رضي الله عنهما ، فقد كان عائذ بن عمرو يلبـس الخز [2] ، ويركب الخـيل، وكان أبو بـرزة لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين، " فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك ونحوك، لا يلبس الخز ولا يركب الخيل. فقال عائذ : يرحم الله أبا برزة، من فينا مثل أبي برزة... ثم أتى أبا برزة فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هـيئتك ونحوك، يركب الخيل ويلبس الخز، فقال: يرحم الله عائذا، ومن فينا مثل عائذ... " [3] .
وهذا الثناء على المخالف في مسألة معينة قبل بيان الصواب سمت عند الأكابر والفضلاء في الأمة، " فعن شريح القاضي أنه أتاه رجل، فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيئ. فقال شريح :
( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) (البقرة:227) ،
لم يزده عليها... فأتى مسروقا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية ، لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرج أحد عنه، وإنما أتاه ليفرج عنه، ثم قال: هـي تطليقة بائنة، وأنت خاطب من الخطاب " [4] . [ ص: 171 ] وهذا كقول الله جل جلاله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) (التوبة:43) ،
فقدم العفو على عتابه فيما فعل، وهذا يوضح لنا صورة الأدب الرفيع في التعامل مع الخطأ، وأن هـذا الأدب لا يمنع من إنكار الخطأ مهما كان مقام العالم، وأن حدوث الاختلاف في الفتوى بين الأفاضل مع بقاء توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ووحدة صفهم مسألة بدهية في المجتمع المسلم، يتقبلها العقل المسلم تلقائيا.
من أدب الشافعي في الخلاف
للإمام الشافعي في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الأخوة بحقوقها أدب ونهج مستمد من نبع النبوة؛ فقد اختلف مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، ولكن الصدفي تحدث عن الشافعي واستيعابه لفقه الخلاف فقال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانا، وإن لم نتفق في مسألة» [5] . ومدرسة الشافعي مليئة بالنماذج الفذة من هـذا الوجه الذي يستوعب فقه الخلاف، ففي ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وهو من تلامذته، ذكر تصانيفه ومنها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب في الرد على فقهاء العراق، قال الذهبي : «وما زال العلماء قديما وحديثا يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم، وتتبرهن له المشكلات» [6] . [ ص: 172 ]
من أدب ابن حنبل في الخلاف
ومن مدرسة ابن حنبل يتعلم كيفية استيعاب فقه الخلاف، فقد روى العباس بن عبد العظيم العنبـري (ت240هـ) قال: كنت عند أحمـد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبا على دابة، فتناظـرا في الشهادة -أي: الشهادة بالجنة للمبشرين بها- وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه [7] .
وأرسـل إبراهيم بن عبد العزيز إلى إبراهيم النظام مالا أحوج ما يكون إليه، وقال له: إن كنا اختلفنا في المقالة -أي: في الرأي والمذهب- فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية [8] ، وقد رأيتك حيث مررت بي على حال كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجة، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شـهر أو شـهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زمانا من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون دينارا فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر [9] .
فاستوعب أهل الفقه الخلاف، فلم تمنعهم الأخوة وطلب اجتماع المسلمين من الرد على بعضهم، وبيان آرائهم في صواب صاحبه وخطئه، ولم يؤد بهم الرد ولا الاختلاف في الاجتهاد إلى التنازع والتناحر والوقيعة فيما بينهم، وتمزيق عرى أخوتهم، وبقي بعضهم يثني على بعض. [ ص: 173 ]