تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله القائل:
( أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90) ،
ذلك أن دراسة النماذج التي تجسد القيم في حياة الناس، وتقدم الدليل على الخروج بها من المثالية إلى الواقعية وإمكانية التنفيذ، وأنها إنما تقع بوسع البشر، وتمنح الناس الإرادة والأمل، وتشحذ عزائمهم، وتحرك روح المنافسة والاستباق في حياتهم، تعتبر من أهم وأرقى وسائل التربية النظرية والعملية والنفسية والاجتماعية، وتدفع إلى محاولة المقاربة والمحاكاة والتقليد وتخصيب الخيال، والارتقاء بالطاقة، وعلى الأخص بالنسبة للأجيال القادمة على طريق المستقبل.
كما أنها تحمي من السقوط في مركب عقدة النقص، وتخلق مناخا ثقافيا تنشأ فيه الأجيال، وميدانا للتدريب على المعاني التي تشكل النسيج الذهني لأبناء الأمة.
إضافة إلى أنها تشكل لونا مؤثرا من الضبط الاجتماعي وإشاعة الأعراف الحميدة، بحيث تقوم الفروع على الأصول؛ إضافة إلى ما تمنحه من الاعتزاز بالأمة وإنجازها التاريخي، والقدرة على التجاوز لحالات السقوط، والعمل على استئناف النهوض. [ ص: 5 ] من ذلك، كان الأنموذج ضروريا، حتى للأنبياء، محل الاقتداء،
قال تعالى: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) (الأحقاف:35) .
إن دراسة السير أمر ضروري للمقاربة والمقارنة والاعتبار، واكتشاف السنن، والإفادة من تجارب الأمم والأفراد،
قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة ) (يوسف:111) ،
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) (هود:120) .
والصلاة والسلام على الرسول الخاتم، الرحمة المهداة، الذي كان محل الأسوة والاقتداء، دون غيره من سائر الخلق؛ لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، فإذا اجتهد وأخطأ صوب له الوحي، وإن اجتهد وأصاب أقره الوحي، فكل ما وردنا عنه بطريقة صحيحة هـو حق ومحل اقتداء،
قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) ؛
أما غيره من سائر البشر فيجري عليهم الخطأ والصواب، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم، أو كما قال الإمام مالك ، رحمه الله.. فأفعال البشر وأقوالهم واجتهاداتهم تبقى دائما محل تقويم ومراجعة وتصويب بقيم الوحي المعصومة، في الكتاب والسنة.
ومن هـنا نقول: إن تاريخ سير الأعلام -والسير بشكل عام- هـي محل عبرة ودرس، وليس مصدر تشريع، وإنها محكوم عليها بقيم الكتاب والسنة، لتبين خطئها من صوابها، على عكس السيرة النبوية الصحيحة وقيم الكتاب والسنة، فهي الحاكم على أفعال الناس وأنشطتهم، وفي ذلك حماية للإنسان من الوثنيات الجديدة والكهانات التي يمكن أن تتسرب لنفسه، أيا كانت. [ ص: 6 ]
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثاني بعد المائة: « عمر فروخ (رحمه الله) .. في خدمة الإسلام» للأستاذ أحمد العلاونة ، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، في محاولاته المستمرة لتصويب الاقتداء وإعادة التشكيل الثقافي، واكتشاف مواطن الخلل، في معادلة الأمة، وبيان أسباب الفشل والإخفاق وعدم بلوغ الأهداف، ومحاولة تنهيج ذهنية العاملين للإسلام بالمنهج السنني، والتأكيد أن سنن الله في الأنفس والآفاق هـي الأقدار التي فطر سبحانه وتعالى الحياة عليها، وسيرها بها، اهتداء بقوله تعالى:
( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب:38) ،
والتيقن من أن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، وأنها لا تحابي أحدا:
- ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43) ،
وأن الله لم يخلـق الحياة عبثا وإنما أخضعها لنظم وقوانين؛ وأن المعجزات هـي دليل، من بعض الوجوه، على اطراد السنن؛ وأنه لا يمكن تحليل ظواهر الحياة وتفسيرها وتحديد كيفية العلاقة بها والتعامل معها واكتشاف سيرورتها وتعثرها إلا من خلال اكتشاف هـذه القوانين، التي تحكمها، ذلك أن الله جعـل لكل شيء سـببا، وأن أي إنجاز أو تصويب لا بد له من اتباع تلك الأسباب؛ وأن هـذه الأقدار لا تورث العطالة وتلغي الحرية والاختيار وإنما تمنح القدرة والفهم والاستيعاب وحسن التفسير والتقدير، ودقة الاختيار، بعيدا عن الخوارق والمجازفات. [ ص: 7 ] إن رحلة البحث العلمي وما بلغته اليوم لم تتحقق إلا بعد اكتشاف قوانين الحياة في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيـرها، وعدم الاصطدام بها، أو إبقاء العقل دون فهمها، أو إدراكها، والعجز أمامها، وتفسيرها بقوى غيبية؛ فلولا فهم تلك السنن والقوانين لما أمكن تحصيل هـذا الإنجاز العلمي، الذي نتج من التفكير بآفاق وفضاءات كبيرة جدا لكيفية مغالبة هـذه القوانين بقوانين أخرى.. فلولا اكتشاف قانون الجاذبية لما أمكن توظيفه علميا ومن ثم امتلاك القدرة على التعامل معه وتجاوزه إلى ارتياد آفاق الكون.
ومن هـنا ندرك مدلول " قول بعض الصحابة، رضي الله عنهم : نفر من قدر الله إلى قدر الله. " ، وأن مغالبة قدر بقدر هـي جدلية الحياة ووسيلة الكشف العلمي، كما ندرك قولة الإمام « ابن قيم الجوزيه »: ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، وإنما المسلم الحق هـو الذي يغالب القدر بقدر أحب إلى الله.. وفي كل الأحوال يبقى المسلم يتقلب بين أقدار الله، ولا يخرج منها.
ولا شك عندنا أن إدراك فاعلية المنهج السنني، على مستوى الأنفس والآفاق، هـو الذي يؤدي إلى التنمية والتمكين والقدرة على التسخير والتحكم،
يقول تعالى: ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا ) (الكهف:84-85) ،
ذلك أن اتباع الأسباب هـو سبيل التمكين -كما أسلفنا- وسبيل الوقاية من الإصابات.
وقد تكون الإشكالية أن إدراك المنهج السنني في الأمور المادية والعلوم التجريبية أمر ميسور وملموس؛ لأن مرده الملاحظة والتجربة والاختبار، [ ص: 8 ] وكلها تقع تحت الحواس، ولا تتطلب نتائجه في الغالب عمرا مديدا حتى تظهر خصائصه، فيراه الإنسان، ويحسه، ويسهل إدراكه، ومن ثم نقله وتطبيقه.. أما المنهج السنني في الدراسـات الاجتمـاعية والإنسانية فغالبا ما يبقى عصيا عن الإحساس، ذلك أن عمره مديد، وعواقبه بعيدة، فقد تقتضي جيلا أو أجيالا، إضافة إلى أن موضوعه الإنسان، بكل مكوناته وتقلباته، وتكيفه، وخصائصه، وصفاته، وتحيزاته، والتطور الذي يطرأ عليه في مراحل نموه، ونضجه ورشده.. وليس الإنسان موضوعه فقط، وإنما وسيلته أيضا.
فالمعادلة الصعبة: أن الإنسان في العلوم الإنسانية والاجتماعية هـو الموضوع وهو الوسيلة معا، لذلك كان التاريخ البعيد هـو المختبر الحقيقي للفعل الإنساني، والقانون الاجتماعي.. وليس غريبا القول: بأن التاريخ هـو أبو العلوم الاجتماعية، ومصدر إدراك قوانين الحركة الاجتماعية، وأن محاولات تطبيق منهج العلوم التجريبية على العلوم الإنسـانية والاجتماعية هـو نوع من المجازفات والإسقاط للكثير من الحقائق العلمية.
وعلى الرغم من سهولة إدراك التجارب العلمية نسبيا، والإحاطة بعلمها ونتائجها، فإن الأمر مختلف تماما في العـلوم الاجتمـاعية والإنسانية -كما أسلفنا- التي تحتاج إلى كثير من دقة النظر؛ لأن الإنسان متحيز بطبعه وخلقه، وهو موضوع تلك العلوم ووسيلتها، لذلك تبقى إشكالية العلوم الاجتماعية والإنسانية في دقة معايير التقويم والقياس، ذلك أن تحديد القيم والمعايير تختلف وتتباين من إنسان لآخر، حتى أنها تتباين عند الإنسان الواحد في مراحل عمره المتعددة وحالاته المتقلبة، وقد تتعدد وجهاتها [ ص: 9 ]
ومذاهبها ومناهجها بتعدد علمائها، لذلك كان لا بد من معايرتها بقيم ثابتة دقيقة صحيحة (معصومة) مستمدة من خارج الذات، أي من مصدر خارج عن الإنسان، عالم به وبتقلباته ومكوناته وتطوراته، من طريق الوحي المعصوم، حيث لا بد أن تسبق بإيمان ويقين بأن الله الخالق هو العدل المطلق، المنـزه عن التحيز، العالم بمن خلق.
وكون القيم ومعايير القياس متأتية من الوحي، من خارج الإنسان، فسوف تكون صحيحة وموضوعية ومجردة عن التحيز، ولا يمكن أن تتخذ وسيلة لتسلط الإنسان على الإنسان.
لذلك نقول: إن النص الصحيح الوارد من معرفة الوحي، في نطاق العلوم الاجتماعية والإنسانية، هو علمي ويقيني، ويمكن أن يعتبر بمثابة نتائج التجربة المخبرية في العلوم التجريبية.
وقد تكون إشكالية الذهنية المسلمة في عصور التخلف والتقهقر والتراجع والانحطاط في عدم الإدراك الكامل للعلاقة بين القدر والحرية، بين القدر والإرادة، ذلك أن من قدر الله أنه أراد إلينا أن نريد، وأن ندرك السنن التي تقوم عليها الحياة، وأن تسخير السنن وعمارة الأرض من السنن، وهذا لا يتأتى إلا بإدراك السنن وتفسير الظواهر وتحليلها في ضوء تلك السنن، وأن مغالبة القدر من التكليف أيضا.
وهذه المغالبة لا تكون إلا بعد الإحاطة بعلم السنن والقوانين واكتشافها، وقد دعانا القرآن لذلك، وكشف لنا من السنن والنواميس [ ص: 10 ] الأساسية في الحياة لإدراك أن الحياة ليست عبثا، ولتكون في الوقت نفسه وسيلة تحريض، ودليل هـداية لمزيد من الكشف والاكتشاف.
ولعل من الإصابات الكبيرة، التي لحقت بتشكيلنا الذهني، والتي يطلب من الرواد التنبه والتنبيه إليها، أن التكيف الشرعي للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وعمارة الأرض يتطلب إدراك السنن في الأنفس لبناء الإنسان الصالح، وإدراك السنن الكونية والعلمية التجريبية في الآفاق لعمارة الأرض، والإيمان بأن إدراكها من الدين، ومن متطلبات الحضارة؛ أما بعض الفهوم المعوجة التي انتهت إلى تشطير الإنسان، والاقتصار على بذل بعض الجهود -بزعمها- في الحقل الإنساني والاجتماعي فقط، فلم تثمر إنسانا ولا حضارة.
إن استيعاب معرفة الوحي وبناء الإنسان بشكل سليم، يدفع هـذا الإنسان إلى بناء الحضارة لا إلى التفسير المتخلف للحياة بأننا ننصرف لتعلم الأحكام الشرعية ونتفرغ لممارسة العبادة، بمفهومها الحسير، والله يهيئ لنا من الكفار من يخدمنا بمثل تلك العلوم، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن ذلك من إفرازات ذهنية التخلف، وقيادات التخلف، ورواد تكريس التخلف.
ولعل من مظاهر التخلف المفجعة: الالتباس بين الذات والقيمة؛ ذلك أن ذهنية التخلف يصعب عليها التجريد، والقدرة على إدراك المعيار والمقياس الثابت، الذي يقاس به الأشخاص والأفعال، ويحكم من خلاله على الفعل الإنساني.. فذهنية التخلف لا تستطيع الانفكاك عن التجسيد المادي، لذلك فهي عاجزة عن التمييز بين الذات والقيمة، الشخص والحق، [ ص: 11 ] لأنـها تعاني من طفولة بشرية، لا تبصـر إلا الأشـياء، وتعجز عن إبصار الأفكار والقيم.
لذلك تشكل هـذه الذهنية مناخا مناسبا لانتشار الكهانات؛ لأنها تستدعي الوثنيات بطبيعتها؛ أما أن تعرف الحق لتعرف أهله فهذه المعرفة عمليا تعتبر إشكالية كبيرة؛ أن تقيس الرجال والفعل بالحق ولا تقيس الحق بالرجال؛ أن تنظر إلى الحق وتختبره بمعيار الوحي، من أي شخص أتى، وأن تأخذ الحكمة من أي وعاء جاءت؛ وأن تنظر إلى طبيعة المشار إليه قبل الحكم على المشير؛ فهذه هـي معادلة التخلف الصعبة.
إن تلبس الذات بالقيمة يؤدي إلى تعطيل معيارية القيم، ويصبغها بالصبغة الشخصية (الشخصانية) وبذلك تفتقد القيم، التي مصدرها الوحي، في واقع الناس تميزها في كونـها مستمدة من مصدر خارج عن الإنسان، ولم يبق هـناك كبير فارق بين القيم الإسلامية المستمدة من الوحي المعصوم وبين القيم الوضعية التي ينشئها الإنسان ويتلبس بها، فيكون هـو موضوع النظر، وهو وسيلة النظر، في الوقت نفسه؛ ولعل هـذا من أخطر آفات التدين، حيث يحصل الارتكاس، فيعرف الحق بالرجال، وتكون القيم تبعا لفهمنا وهوانا، ( والرسول يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هـواه تبعا لما جئت به ) لا ما جئت به تبعا لهواه، وبذلك يؤصل لحالة الكهانة.
إن التحول من المجسد المحسوس إلى المجرد المعقول يشكل مرحلة من مراحل الرشد الإنساني، ذلك أن التجريد من حدود الزمان والمكان [ ص: 12 ] والشخصيات يمكن من التوليد والامتداد وتنـزيل المعنى على كل الحالات المشابهة، وعدم الانحباس ضـمن إطار الصـورة المحسوسـة وأسوارها، وإنما تجاوزها إلى الحقيقة التي يمكن أن تبصر في كل صورة مثيلة.
من هـنا نقول: بأن معجزات الأنبياء، قبل النبوة الخاتمة وبلوغ البشرية رشدها، جاءت مجسدة مرتبطة بأشخاص الأنبياء، عليهم السلام، وجدت بوجودهم وانتهت بموتهم؛ والإيمان بها بالنسبة للعصور المتتابعة هـو إيمان بالغيب، عن طريق الخبر الصادق؛ أما معجزة الرسالة الخاتمة فهي معجزة مجردة عن حدود الزمان والمكان والأشخاص، موجهة لكل إنسان في كل زمان، ومن هـنا تأتى لها الخلود والإعجاز في كل زمان ومكان، تماما كما كان الحال في عصر صاحب المعجزة وحياته وبعد موته، عليه الصلاة والسلام .
هذا التجريد شكل منهجا في النظر والتفكير، لذلك اتجهت الحضارة الإسلامية إلى تعظيم المعاني والأعمال، لا الأشخاص، وجاء التعظيم للبطولة دون حصرها في إطار البطل، لتكون دراسة الأبطال والأعلام مرقاة للجميع، تمنحهم الإرادة في المحاولة والاقتداء، على عكس الحضارات الأخرى التي حصرت البطولة في شخص البطل، وانصرف التعظيم والتقديس للبطل بالدرجة الأولى، وليس للبطولة والعمل.
من هـنا نقول: إن دراسة الأعلام والرواد في المنهج الإسلامي تتركز على أعمالهم وإنجازهم، فنحن نعرف الكثير عن أعمال وإنجازات الأعلام ولا نعرف إلا القليل عن صفاتهم الخلقية؛ لأن الأشكال والأطوال والألوان أمور قسرية ليست بمستطاعة. [ ص: 13 ]
فإذا ذكر سيدنا عمر ، رضي الله عنه ، ذكر العدل والجرأة في الحق، وإذا ذكر خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ذكرت الشجاعة والتخطيط... وهكذا.. حتى عقيدة الألوهية ، المنطلق، هـي غاية في التجريد ارتقت إلى مستوى التنـزيه، وأن الإله في التصور الإسـلام ليس كمثله شيء، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، للحيلولة دون الحلول والتجسيد؛ أما في العقائد الأخرى فلم يستطيعوا تصور الإله الخالق إلا مجسدا، الأمر الذي جعلهم يخلعون عليه صفات البشر المخلوق.
إن دراسة الأعلام وحركات التغيير تتطلب الكثير من الحيادية والموضوعية وامتلاك المعايير السليمة للقياس والتقويم، والتسليم ابتداء بأن الحركات والأشـخاص والجماعات يرد عليها الخطأ والصواب، وأن الحب لا يجوز أن يخرج عن الحق، وأن ذهنية التخلف عاجزة عن التوازن وضبط النسب في التقويم؛ لأنها ذهنية عامية ثقافيا، حتى ولو تعلمت الأبجدية؛ مصابة بعمى الألوان، لا تبصر إلا لونا واحدا، لذلك تختزل كسب الأشخاص والجماعات والهيئات في موقف، وتسقط تاريخها كله، الأمر المفزع حقيقة، بحيث أصبحت الشهادات حزبية، والوظائف حزبية، والمعاهد حزبية، والعلاقات والصلات حزبية، والألقاب والوجاهات والكيانات والزعامات حزبية أيضا، فلا نعرف الحق إلا بالأشخاص.
فالعقلية الحزبية، بالمعنى الواسع، لم تعد تقتصر على أنظمة الحكم، ومن يدور في فلكها، وإنما باتت وباء اجتماعيا لحق بالمعارضة للأنظمة، وحتى وصل [ ص: 14 ] إلى مؤسسات هـي بطبيعتها تنأى عن الحزبية مثل التربية والتعليم والمجتمع المدني ، الأمر الذي جعل المدافعة بين ظلم وظلم، فانتهى إلى الظلام والتخلف.
فكم من موهبة وطاقة وقابلية وقدرة ومؤهل غمطتها الحزبية ، وأسقطها التعصب؟ وكم من الزعامات الحزبية غير المؤهله قادت الأمة إلى مهالك، إلى معارك فادحة الخسارة، وهدرت طاقات خيرة، وفرطت بطاقات وتضحيات في المعارك الخطأ؛ نسأل الله أن يتقبل أصحابها على نياتهم؟ وكم من الكبار حزبيا هـم صغار في حقيقة الأمر، أو هـم الصغار، والذي حماهم وسمح بامتدادهم الأسوار والسراديب الحزبية والسريات، ومع ذلك نقرأ جميعا بألسنتنا قوله تعالى: ( ويل للمطففين ) (المطففين:1) .
وقد تكون القضية الأخطر عدم وجود الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطأ، والتوبة الفكرية والعملية عنه، وإنما ديدننا دائما التنكر للخطأ، وعدم إدانة أتباعه الذين وقعوا بالخطأ بسبب الريادة الحزبية الفاشلة، التي تأبى الاعتراف بالفشل، ولو حتى لمرة واحدة.
فكيف والحالة هـذه، والمناخ هـذا، نكون موضوعيين في دراستنا لحركات التغيير، ورواد التغيير والإصلاح، وامتلاك القدرة على تحديد مواطن الخلل والإخفاق في بلوغ الأهداف، لتجنبها وأخذ الخبرة والإفادة من التجربة، ومواطن النجاح لاستصحابها وإضافتها إلى عقولنا وأعمارنا، بحيث نبدأ من حيث انتهوا وليس من حيث بدأوا، حتى لا نستمر في نقض غزلنا بسبب من العمى الحزبي؟ [ ص: 15 ] وليس التحزب كله سياسيا، فالتعصب دوافعه وألوانه شتى، من قومية، وعرقية، ومذهبية، ولونية، وجنسية، وحتى علمية:
( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (آل عمران:19) ..
فكم من الحقائق طمست، وكم من المواهب حوصرت، وكم من الطاقات أهدرت، وكم من المواقع عطلت، وكم من الصغائر كبرت، وكم من الكبائر صغرت، وكم من الشخصيات حوربت وحرمت الأمة من عطائها، لافتقارها إلى الهوية الحزبية، بكل مفهوماتها التي أسلفنا؟ فأنى لأمة هـذا حالها -يصادر حتى حلمها وأملها وتحاصر طاقاتها حزبيا- أن تستطيع أن تضطلع بدورها، وأن يتمتع أفرادها بتكافؤ الفرص؟!
لذلك سوف نرى عجبا يوم الحساب، يوم الواقعة، التي من أبرز صفاتها أنها خافضة رافعة، فكم من أصحاب المقامات والألقاب المزورة في الدنيا يخفضون، وكم من المحرومين المظلومين يرفعون، فتعرية المزيفين وخفضهم ووقوعهم هـو أول مظاهر العدل يوم القيامة.. فهل نعتبر !؟
من هـنا تتأكد الحاجة إلى دراسات تقويمية موضوعية نقدية، بعيدة عن التحيز أو الشخصانية، تهتدي بهداية الوحي، وتلتزم معاييره، وتستشعر المسئولية على فعلها، وتعزم على الخلاص من هـذا التخلف والسقوط الحضاري، والعودة إلى قيمنا ومبادئنا، التي كانت ولا تزال سبب نهضتنا وسبيل معاودة النهوض. [ ص: 16 ]
ونحن على طريق إعادة التشكيل الثقافي والارتكاز الحضاري ومعاودة النهوض، لا بد لنا من تقويم تجارب ودراسات من حركات التغيير والإصلاح، وتقديم رؤى ونماذج لرواد الإصلاح؛ لأن ذلك يغني تجربتنا، ويثري رؤيتنا، ويضيف عقولا إلى عقولنا، وعلوما إلى علمنا، ويختصر علينا الزمن، ويمنحنا خلاصة التجارب، ويحمينا من العثار، ويجنبنا الخطأ.
والأمر الذي لا بد من تأكيده باستمرار، أن التجارب البشرية جميعا يعتريها النقص والخطأ، وأن اكتشاف الخطأ في كثير من الأحيان قد يكون أكثر فائدة من معرفة الصواب، شأننا في ذلك شأن الصحابي الذي كان يسأل الرسول عن الشر، مخافة أن يقع فيه، في الوقت الذي كان الصحابة يسألون عن الخير ليفعلوه.. فإذا كان ذلك في عهد النبوة، فكيف سيكون حالنا والشرور تحيط بنا من كل جانب؟
ونعتقد أن الاقتصار على الجوانب الإيجابية في الدراسة والنقد، على أهميته وفوائده التربوية، إلا أنه لا يقدم الصورة كاملة ولا صحيحة؛ وفي الحياة الخيـر والشر، والخطأ والصواب، ولسنا في مجتمع ملائكة مبرمجين على فعل الخير، لذلك تبقى الحاجة قائمة لتقديـم الجانب السلبي من الأنموذج، وذلك لمعرفة كيفية تعامل النماذج مع الأمور السلبية، وأسباب الوقوع فيها، لأننا في نهاية المطاف، كأفراد وجماعات، بشر يجري عليهم الخطأ، فلا يعقل أن كل ما فعلنا صواب معصوم، في الوقت الذي يلاحقنا الفشل من كل جانب! [ ص: 17 ] ونخشى أن نقول: إن السكوت عن الجوانب السلبية في حياة النماذج وحركات التغيير والإصلاح سوف يحمل الكثير من التغرير والغش الثقافي للأجيال في واقع الحال، حتى ولو خلصت النوايا.. فالعمل الحسن هـو الذي يتكون من النية الصالحة (الإخلاص) ومن الخطة النضيجة الراجحة (الصواب) فمجرد الإخلاص إذا لم يؤد إلى الصواب يمكن تصنيفه في خانة الأماني والرغبات.
ولعل من النماذج الفريدة، التي تشكل ظاهرة قائمة بذاتها، تستحق الدراسة والتحليل، من خلال الظروف التي وجدت فيها، والمجاهدات التي اضطلعت بها، شخصية الدكتور عمر فروخ ، رحمه الله، الذي يذكر بجيل الموسوعيين من الأعلام والراود، الذين جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية.
فلقد كان شخصية فذة من أولى خصائصها أنها كانت بعيدة عن الانتماء الحزبي، فأفاد منه الجميع، لذلك كان يتمتع بالطلاقة والرحابة والحرية في النظر، بدون قيود مسبقة، على الرغم من اعتزازه بالعروبة وإيمانه بالإسلام، ودوره في بناء الأمة وإخراجها وإسهامها في الحضارة الإنسانية، والارتقاء بلغتها ونقلها إلى مصاف اللغات العلمية والعالمية.
ارتكز إلى التربية والتعليم، وانطلق منه كانطلاقة الإسلام الأولى، أول ما نزل من الوحي ( اقرأ ) ، واعتبره طريق النهوض الذي لا طريق سواه.. فالمعرفة هـي القوة، وهي النور، وهي الحضارة، وهي الشخصية؛ ويمكن وصفه إلى حد بعيد بأنه رجل معلم. [ ص: 18 ] وعلى الرغم من أنه كان متنوع الاهتمامات، إلا أن ذلك لم يبعثر شخصيته ويفكك هـمته أو يفل عزمه.. اشتغل في الأدب، وإليه يعود الفضل في وضع كتاب عن (تاريخ الأدب العربي) بعد أن كان العرب والمسلمون يعيشون عالة على المصدر الأجنبي.
وكان له نظرات في اللغة، والفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، والتشريع، فالثقافة عنده هـي الشخصية والبوصلة والدليل للعقل الإنساني.
كان شخصية جادة ومأنوسة، وكان بعيدا عن المهاترات بطبعه، لذلك لم تشغله الشحناء، ولم يجر وراء الخصومات والعداوات، ولم تنل منه.
كان بحق شاهد القرن المملوء بالأحداث الكبرى؛ فلقد سقطت الخلافة الإسلامية، وقامت الحروب العالمية، الأولى والثانية، وحصلت فيه النكبات للكثير من بلاد المسلمين، وجاء الاستعمار الحديث إلى معظم بلاد المسلمين مسبوقا بالغزو الفكري الذي اتخذ التبشير غطاء له؛ وبالإمكان القول: إن كتابه (التبشير والاستعمار) الذي شكل ثقافة جيل بل أجيال، ووقاية جيل بل أجيال، ما يزال حتى اليوم مرجعا للمكتبة العربية والإسلامية؛ والكثير ممن يشتغلون بهذه القضايا ما يزالون مرابطين عند كتابه، على الرغم من تطور الأساليب وتغير المواجهات.
لقد واجه عمر فروخ ، رحمه الله، الكثير من الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، فعند أيها يرابط؟
كان يمثل صيحة النذير؛ ينبه إلى المخاطر، ويقرع طبول الإنذار بالخطر، ويستنهض الأمة، ويصوب رؤيتها، ويبصرها بتراثها. [ ص: 19 ]
لكن على الرغم من صعوبة المواجهة وشراسة العدو كان بطبعه أنيسا واثقا من منهجه، ذو شخصية محببة، قادرة على التعايش، أفاد من تكوين بلده لبنان سمات التنوع الثقافي والقدرة على التعايش، والمرونة، وإجادة الحوار بشكل هـادئ ورزين، دون أن يعطي الدنية في دينه.
والكتاب الذي نقدمه يمكن أن يشكل زاوية للرؤية، نطل من خلالها على مواقع متنوعة لرجل موسوعي، حمل هـموم أمته، وكانت مرآته صافية، قادرة على الاستشعار المبكر، وتجاوز الصور إلى الحقائق، لم تخدعه طروحات التبشير وشعاراته الإنسانية؛ لأنه كان يعلم أنه ملغم بالنوايا السيئة، وأنه يشكل طليعة من طلائع الاستعمار، يهيئ له قابليات الشعوب، كما يؤهلها لتقبله.. ولو لم يكن للدكتور عمر فروخ ، رحمه الله، إلا كتاب (تاريخ الأدب العربي) الذي أدى فيه أحد فروض الكفاية عن الأمة، وكتاب (التبشير والاستعمار) الذي نمى فيه حاسة الاستشعار المبكر للأنواء والنوايا السيئة المحيطة بالأمة، والتنبه إلى كثير من الثغور المفتوحة، لكفاه.
ولا نزعم أن الكتاب الذي نقدمه أعطاه بعض حقه، وإنما هـي حزمة ضوء أو أضواء على شخصيته واهتماماته، لعله يكون رائدا للجيل القادم، ودليلا على أن الأمة المسلمة خالدة بخلود رسالتها، وقادرة على الإنتاج في كل مكان وزمان.
والحمد لله رب العالمين. [ ص: 20 ]