الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - دفاع عن العثمانيين

              يصف عمر فروخ ، رحمه الله، العصر العثماني، بأنه عصر إسلامي الإيمان، عربي الثقافة. ويقول: إن الذين يذمون هـذا العصر يجهلون التاريخ السياسي للدولة العثمانية، والتاريخ العربي، والتاريخ الأوربي، ومجرى التاريخ [1] ، ويشيـر إلى أن الأمم كلها تمر في أطوار مختلفة في تاريخها: من قوة وضعف، ومن صـعود وهبوط، ومن غـنى وفقر، ومن ازدهار [ ص: 139 ]

              وانحطاط. والحكم الصحيح في منطق التاريخ أن نصف كل طور بخصائص ذلك الطور. [2]

              ويبين أن الدولة العثمانية -ككل دولة أخرى- شهدت في أولها عهود قوة ثم خضعت في آخر أيامها لعوامل ضعف. والأمم في أيام ضعفها تكون عرضة لكل تهمة، وكثيرا ما تصدق تلك التهم عليها. ويذكر بأن الذين يحملون على الحكم العثماني في البلاد العربية منذ مطلع القرن العشرين يغفلون عن جوانب كثيرة من حقائق التاريخ، منها:

              - أن الدولة العثمانية قد ضعفت فعلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فاضطربت أحوالها. وفي الأحوال المضطربة تحدث عادة حوادث من الظلم، ومن سوء الحكم، ومن التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي.

              - في مثل هـذه الأحوال تنشأ في الأمم عناصر تنتسب في الظاهر إلى الأمة الضعيفة، ثم تكون في الحقيقة من أعداء تلك الأمة الضعيفة.

              - ويكثر أولئك المؤرخون، الغافلون، الكلام، في أمرين: التخلف الذي لحق بالعرب (من أثر الحكم العثماني في رأيهم) ثم حوادث الإعدام التي قام بها العثمانيون في البلاد العربية بشنق نفر من العرب القوميين [3] [ ص: 140 ]

              ويثبت أن الكلام في نسبة تخلف العرب إلى الحكم العثماني ساقط مرة واحدة. فقد ترك العثمانيون بلاد العرب، ولم يزل أهل هـذه البلاد منذ تركها العثمانيون حيث كانوا، أو قد أصبحوا أسوأ مما كانوا، ثم إن العثمانيين لم يدخلوا المغرب الأقصى وموريتانيا ، ولم يحكموا المسلمين في الهند وأندونيسيا ، ولم يحكموا الحبشة وليبريا ، وكل هـذه الشعوب لا تختلف في تخلفها عن العرب في تخلفهم.

              وأما شنق نفر من العرب في أثناء الحرب العالمية الأولى، فيعده عمر فروخ ، رحمه الله، من أخطاء الدولة العثمانية الضعيفة، إذ إن الجماعات الضعيفة تعتقد أن قتل فرد واحد أو أفراد كثيرين يمكن أن يبدل مجرى التاريخ [4] .

              ويلفت الانتباه إلى أن الذين يكرهون الحكم العثماني، وفي الطور الذي كان الحكم العثماني حكما صالحا، هـم الذين يذهبون في السياسة مذهب القومية، ذلك الاختراع الذي جاءت به الدول الأوربية من قرن ونيف لتسهيل تجزئة البلاد العثمانية وتقاسم منافعها [5] . [ ص: 141 ]

              ويتسـاءل: «وإذا كانت الدعوة إلى قومية عربية دعوة صحيحة، غايتها كما قيل، توحيد البلاد العربية واسـتقلالها، فلماذا نجد في البلاد العربية اليوم نحو عشرين دولة، قل أن تجد دولتين منها على وفاق؟ أنا لا أقول: إن العرب مخطئون في السير على منهاج قومي، ولا أنا قلت أيضا: إنهم مصيبون، ولكني أقول شيئين اثنين:

              - إن العرب لم يصلوا من طريق القومية إلى الأمل الذي أرادوا تحقيقه.

              - إن العرب كانوا مخطئين –في جميع ميادين حياتهم السياسية والاجتماعية - لما تركوا الإسلام، الذي نهض بهم من قبل، ثم تبدلوا به نظريات قومية أو سياسية انحدرت بهم إلى حيث هـم الآن» [6] .

              لقد اعترض العثمانيون الدول الأوربية التي كانت تريد احتلال بلاد المغرب ( ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ) منذ القرن السادس عشر للميلاد، وحاربوها وقاتلوها، وحموا المغرب بضعة قرون. فهذه الأقطار الأربعة مجتمعة لم تكن قادرة على أن تقف في وجه الدول الأوربية الواثبة على المغرب لاستعماره، ولم يكن في العالم الإسلامي يومذاك دولة قادرة على الوقوف في وجه أوربا إلا الدولة العثمانية، فطلب أهل الأقطار المغربية معونة الدولة العثمانية، وكانت الدولة العثمانية حكيمة فلم ترسل جيوشها وأساطيلها جهرة، بل آثرت أن تترك الأمر في يد «المرابطين في البحر» [7] . [ ص: 142 ]

              إن دفاع عمر فروخ ، رحمه الله، عن العثمانيين لم يكن لأنهم عثمانيون، ولكن لأن ذلك مما يقتضيه منطق التاريخ وحقيقة الإنصاف.. ويقول:

              «ليس من منطق التاريخ، ولا من حقيقة الإنصاف، أن ندافع عن العثمانيين لأنـهم عثمانيون، ولا أن نسود صفحة الإنكليز لأنهم إنكليز. ولكن من منطق التاريخ، ومن حقيقة الإنصاف، أن نأخذ بقواعد التاريخ حينما نأتي إلى الحكم على جماعة من الجماعات، فنذكر لها ما أحسنت فيه، ونحملها وزر ما أساءت فيه» [8] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية