الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - الشعر الحديث.. والنثر

              الشعر عند العرب وعند غير العرب، هـو -كما يقول عمر، رحمه الله- الكلام الموزون المقفى، لأن الوزن والقافية يكسبان الكلام المقول نغما وحلاوة. ولا شك في أن هـذا الكلام الموزون المقفى عندنا وعندهم يجب أن ينطوي على معنى جميل أو مبتكر، ويجب أن يجري في أسلوب صحيح متين، وحينئذ لا يضر هـذا الشعر الردئ أن يكون معاصرا لنا. [1] .

              لذلك حارب عمر فروخ ، رحمه الله، الشعر والأدب المشوهين، وعدهما تشويها للعقل العربي ليجعلوه قابلا للاستعمار الثقافي، فألف كتابه النفيس: «هذا الشعر الحديث» تناول فيه مساوئ الشعر الحديث، من حيث المعنى ومن حيث اللفظ، وأثبت فيه نماذج تناولها من مصادرها اتفاقا – من غير تقص- كانت كافية للدلالة على ما أراد قوله.

              ويقول: إن «نفرا من الشعراء الإفرنج - في اللغتين الإنكليزية والفرنسية خاصة- اخترعوا شيئا سمـوه « الشـعر الحديث » وهو كلام بلا وزن، وبلا قواف، وبلا تقيد بقانون من قوانين اللغة وقوانين البلاغة وقوانين المنطق، وحجة هـؤلاء -شفاهم الله مما هـم فيه- أن عواطفهم الشخصية (أو تجربتهم الشخصية، كما يقولون هـم) تثور فتضيق اللغات عن التعبير عنها، فأطلقوا العنان لألسنتهم بأقوال لا يفهمها العقلاء، وأظن أنهم هـم أيضا لا يفهمونها» [2] . [ ص: 106 ]

              ويصف النثر الجيد بأنه جميل كالشعر الجيد، وكالرسم الجيد، وكالزراعة الجيدة. ويقول: « إن الإتقان في كل شيء هـو الذي يجعل للأشياء قيمتها، كما " قال الإمام علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : «قيمة كل إنسان ما يحسنه» " وليست قيمة الإنسان ما هـو ولا من هـو.

              لذلك يرى أنه ليس هـنالك نثر قديم ونثر جديد، أو شعر قديم وشعر حديث، وليس هـنالك أيضا علم قديم وعلم حديث، أو فن قديم وفن حديث، إلا إذا نسبنا شيئا من ذلك إلى مكانة عصر من العصور، فالمهم إذا أن يكون الشعر جيدا لا جديدا ولا قديما.

              - خصائص الشعر والنثر

              يرى عمر فروخ ، رحمه الله، أن من خصائص الشعر والنثر الجيد:

              1- الوضوح في التفكير وفي التعبير، فالوضوح في التفكير ينتج منه وضوح في التعبير.

              2- صحة اللغة، فإنه لا شيء أقبح في الشعر وفي النثر من اللحن في اللغة، ألفاظا وتراكيب، وصرفا ونحوا، ووزنا ومعنى.

              3- الشعر أيضا كالنثر غشاء، فلا بد من أن ينطوي الشعر الجيد على أفكار نيرة ومعان سائغة، وعلى موضوع ذي فائدة. أما اللغو من الكلام فليس شعرا، ولو كان موزونا، ولا هـو نثر.

              4- يحسن أن يكون في الشعر عنصر تهذيبي؛ أن يكون له مغزى؛ أن تؤدى فيه رسالة إلى المجموع الذي يكون الشاعر فردا من أفراده. [ ص: 107 ]

              5- يحسن أيضا أن يكون في كل شاعر طابع يميزه عن غيره من القائلين شعرا.. إن كل شاعر يقول في أحوال بيئته وأطوار نفسه وملاعب خياله؛ فإذا أمسك أحدنا بديوان وبدأ في القراءة ثم نسي أن يقول شعرا، لاستغراقه في جمال المعاني واتساقها في المنطق وانطباقها على الشاهد في السلوك الإنساني السامي، فإن صاحب ذلك الديوان يكون حينئذ شاعرا حقا [3]

              6- والشعر عمل مـتقن مسـتحصف مسـتحصد (لا تخلخل فيه ولا ضعف ولا حشو ولا لغو) فإذا أنت استطعت أن تأتي بالرأي الصائب في السياق الطبيعي الذي يعيا على أن ينثر (وذلك إذا كانت كل كلمة تنـزل في مكانها المخصوص بها من قواعد اللغة) فأنت شاعر [4]

              - من خصائص دعاة الشعر الحديث

              ويذكر عمر فروخ ، رحمه الله، طائفة من خصائص دعاة الشعر الحديث، هـي:

              1- حب الاتكاء على معاني التوراة ومعاني الإنجيل وعلى الخرافات القديمة، مع الإعراض ما أمكن عن معاني القرآن الكريم.

              2- الجرأة على المثل العليا، وقلة التأدب مع الله.

              3- أنه ليس شيئا.. فكل إنسان يستطيع أن يقول مثله. [5] [ ص: 108 ]

              4- الاعتماد على الغموض والرمز. [6]

              ويبرهن على فساد الشعر الحديث، أو الشعر المشوه، من خلال أمرين: النظم الفني والمعاني، والغشاء اللفظي لتلك المعاني.

              أما العروض (النظم الفني) فإن أشياعه لا يقيدون أنفسهم بقاعدة من القواعد، لا في البحر أو الوزن، ولا في القافية، ولا في شكل من أشكال القصيدة (لا تكون مقاطيعهم قصيدة مؤتلفة الأشطر، ولا موشحة ذات نسق معين، ولا جمل متساوية في عدد الكلمات) وإن زعموا أن لهم قواعد من العروض ينظمون عليها.

              وأما في المعاني، فأهل الشعر الحديث يتناولون المعاني العادية جدا، ثم يركبونها في أزواج متناقضة وفي فوضى من السياق.

              وأما الغشاء اللفظي لتلك المعاني المضطربة فلا يمكن إلا أن يكون غشاء مشوها في نفسه ومشوها لما تحته، يحاول أحد هـؤلاء أن يأتي بألفاظ جديدة كما أتى -بزعمه- بأفكار جديدة، أو بتراكيب إضافية جديدة قائمة على جمع المتناقضات والمحالات التي لا تخطر عادة في بال الرجل السوي التفكير [7] .

              وعند عمر فروخ ، رحمه الله، فإن جميع الذين اختاروا طريق الشعر الحر صدروا عن مبرر واحد: هـو ضعفهم (من الناحية العملية الواقعة أو من الناحية النظرية العارضة) في الثقافة المنطقية وفي الرواية اللغوية [8] . [ ص: 109 ]

              ويعجب من أنصار الشعر الحديث، الذين يريدون أن يبطلوا شعر امرئ القيس وجرير وابن الرومي والمتنبي وشوقي ، لتوهمهم أن أصحاب هـذا الشعر «عموديون» أي ينظمون على عمود الشعر العربي (شعرا قائما على المنطق والوزن والقافية) ثـم هـم يأتون إلى كلام مكوم لا معنى فيه، ولا منطق، ولا شبه وزن، ولا شبه قافية، ويحاولون أن يجعلوا منه للناشئة العربية مثلا أعلى حتى يشوهوا العقل العربي ثم يجعلوه قابلا للاستعمار الثقافي [9] .

              ويشير إلى أن لكل شيء قيودا وقواعد وقوانين وحدودا:

              - فهنالك هـندسة، وليس هـنالك هـندسة حرة- بلا قواعد.

              - هـنالك كيمياء، وليس هـنالك كيمياء حرة- بلا قوانين.

              - هـنالك منطق، وليس هـنالك منطق حر – بلا قيود.

              - هـنالك ملك وسـلطان، ولكن ليس هـنالك ملك وسـلطان حران - بلا حدود.

              وكذلك كان عند العرب:

              شعر هـو قصيد؛ وشعر هـو رجز ؛ وشعر هـو موشح ؛ وشعر هـو دوبيت ؛

              والعقلاء من العرب يقولون «قصيدة» ولا يقولون قصيدة شعر.

              وكذلك عند العرب:

              نثر مسجوع (منذ الجاهلية) ؛ ونثر مطلق (منذ الجاهلية) ؛ وخطب (منذ الجاهلية) ؛ و أمثال (منذ الجاهلية) . [ ص: 110 ]

              وكذلك عند العرب: رسالة، ومقال، ومقامة، وعظة، ووصية (منذ الجاهلية) ، ولم يقل أحد منهم: «رسالة شعرية»، ولكن لما ألف العرب في العصر العباسي أن يتراسل الشعراء بالشعر، كما اتفق لأبي فراس الحمداني ، لم يسم العرب ما يتبادله الشعراء بهذا المعنى «رسالة مشعورة»، أو «شعرا مرسولا» أو «رسالة حرة»، بل سموه «إخوانية». [10]

              - قدم الشعر الحديث يصف عمر فروخ ، رحمه الله، الشعر الذي يسمى اليوم «حرا» بأنه: ليس شيئا إلا فواصل مسجوعة (أو غير مسجوعة) كانت معروفة منذ زمن بعيد جدا، منذ الجاهلية الأولى [11] .

              ويقول: «ولعل أنصار الشعر الحر، أو الشعر الحديث، سيصدمون إذا علموا أن هـذا الشعر الذي يعلون شأنه كان موجودا عند العرب منذ أقدم الأزمنة. في شكله الجدي وفي شكله الهزلي» [12] .

              ويستشهد بقطعتين من قول أبي العلاء المعري (المتوفى سنة 449هـ) :

              -أما الأولى فهي: الربيعان:

              حرسهما الله شهري ربيع***

              وما عنيت شهرين***

              يعرفان في السنة بهلالين ***

              ولكني أردت نيسان وأخاه *** [ ص: 111 ]

              والحق يضح لمن وخاه ***

              فإنهما ربيعا عام ***

              يجيئان البشر بالإنعام***

              الأول يجني الثمار***

              والآخر يجني الأزهار *** [13] .

              وأما القطعة الثانية، وهي أكثر تفننا، فهي: حديث الحيتان:

              وقالت الحيتان المتفكنة***

              ما حدث نضوب الماء***

              إلا لخطب قضي من السماء***

              فمن هـذا الرجل الصالح الذي عمل خيرا في الصرعين***

              ودأب في صلاح الشرعين؟ ***

              فتولى الله عن الإنس كفاءه ***

              وحفظ له في الدارين وفاءه. ***

              ولا يمتنع في القدرة أن يعذب لبركته الماء الأجاج ***

              فيعود كأنه من النحل مجاج***

              أو تسير السفينة على اليبس***

              تضيء كإضاءة القبس***

              في يد متعجل وشيك ***

              وليس ذلك بمنال بشيك *** [14] [ ص: 112 ]

              وما كان استشهاده بهاتين القطعتين إلا ليسقط دعوى الجدة عند أنصار الشعر الحر في التحرر من الوزن حينا ومن القافية حينا آخر.

              ثم يقول: «وإذا نحن تأملنا قطعتي المعري وجدنا هـذا المزاح البعيد عن المعقول.. وهذه هـي العناصر التي يزعمونها دعائم وأسسا لشعرهم الحديث موجودة في الأدب العربي منذ الجاهلية، ثم وردت أيضا عن نفر من المشاهير من أمثال قس بن ساعده ، وبديع الزمان ، وأبي العلاء المعري ... ولكن هـنالك فرقا بين هـؤلاء وبينهم. إن هـؤلاء قد عبروا تعبيرا صحيحا عن أفكار غريبة، ولكنها واضحة» [15] .

              ومما يلاحظ أن هـذا النمط من «الشعر»، الذي وجد قديما لم يعش، ولم يكتب له الحياة، برغم تدوين بعضه؛ ولا أدل على أنه لا يمكن أن يكون شعرا، ولا يمكن أن يعيش أن أحـدا من الناس لـم يحفظه ولـم يروه، ولم يستشهد به في مجلس من المجالس.

              والشعر في الأدب العربي كثير.. ونشير هـنا إلى الخطب المنبرية، والمقامات، والأمثال.. ولعل من الخطب المشهورة التي أشار إليها عمر فروخ ، رحمه الله، خطبة قس بن ساعدة (وقس كلمة مثلثة تكون فتح القاف أو بضمها أو بكسرها) التي كان مما جاء فيها: [ ص: 113 ]

              أيها الناس، اسمعوا وعوا،

              وإذا سمعتم شيئا فانتفعوا.

              إنه من عاش مات، ومن مات فات.

              وكل ما هـو آت آت،

              ليل داج،

              وسماء ذات أبراج،

              وأرض ذات فجاج،

              مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟

              أرضوا بالمقام فأقاموا؟

              أم تركوا هـنالك فناموا؟... [16]

              الموشح والشعر الحديث

              الحضارة لما استبحرت في الأندلس ، واتسع الغناء، وقصرت الأوزان المألوفة عن الاستجابة لدواعي الألحان، نشأ الموشح ؛ وقد قام على خاصتين فنيتين أساسيتين:

              الأولى: استخدام أوزان الشعر التي لم يكن العرب في المشرق قد نظموا عليها.

              الأخرى: تنويع القوافي في الموشحة الواحدة.

              وبذلك تحرر الشاعر (الوشاح) من أسر الأبحر الستة عشر، ومن قيود القافية الواحدة (ولم يسم موشحته قصيدة) وأصبح بإمكانه أن ينظم على أوزان غير متناهية ما دامت الألحان نفسها غير متناهية، مع أن بعض هـذه الأوزان يكون قريبا من بعض [17] . [ ص: 114 ]

              وهؤلاء الوشـاحون، الذين لـم ينظمـوا على البحـور التي جمعها -ولم يضعها- الخليل بن أحمـد ، لـم يشتموه، ولم يعيبوا الشعر العربي، ولم يرموا الشعراء العرب بالقصور؛ لأنهم نظموا على أوزان لم يعرفها امرؤ القيس ولا الفرزدق ، ولا المتنبي ، أو لم يجدوها صالحة لنظمهم [18] .

              وإذا كان هـناك من يرى أن التحرر من الأوزان عند دعاة الشعر الحديث هـو التوشيح عندنا، إلا أن هـناك فارقا، فأولئك يخرجون من نظام إلى فوضى (وإن ادعى نفر منهم غير ذلك) بينما الوشاح يخرج من نظام إلى نظام.

              والتحرر من القافية هـو التسميط والتخميس والتوشيح أيضا عندنا وهو اللجوء إلى تنويع القوافي في القصيدة، ولكن على نظام، بينما هـذا التنويع عندهم قائم على عجز في ضبط قواعد القول [19] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية