المدخل التمهيدي

أولا: تمهيد

إن الإنسان العربي في الألفية الثالثة عندما يقرأ نصا من نصوص ثقافته وتراثه وتاريخه وحضارته الممتدة يقرأه متذكرا لا مكتشفا ولا مستفهما فضلا على أن يكون ناقدا، وإذا كانت القراءة «السلفية، الاستشراقية، اليسارية، الليبرالية» هي قراءات أيديولوجية للتاريخ فإنها بالضرورة قراءة لا تاريخية؛ لأنها لا تضيف سوى نوع واحد من الفهم لهذا التاريخ هو: الفهم المنقوص للتاريخ، إذ التاريخ يحتوي هذه القراءة وهي لا تستطيع أن تحتويه؛ لأنها التاريخ يكرر نفسه.

ولما كان الفكر العربي الحديث وإشكالياته التاريخية بـرزت مـع ابن خلدون لا مع حملة نابليون كما ظن الكثيرون، فإن النصوص التاريخية التي تبحث لها عن مكان بين ظهرانينا باتت على نوعين: نصوص شرعية تعيش مستقبلها في الماضي، ونصوص تاريخية تعيش مستقبلها في الحاضر والآتي، وبعبارة أدق ينبغي الخروج من سلطة «المضنون به على غير أهله» من النصوص التاريخية في سبيل تحقيق قراءة علمية دقيقة لها، بحيث تصبح هذه النصوص خاضعة للعقلانية العلمية، ومن ثم يكون المأمول من [ ص: 39 ] المؤرخين إكمال ما كتبه ابن خلدون في مقدمته وعدم الاكتفاء بما أنجزه قبل قرون طويلة.

لا ريب أن هذه الرؤى وغيرها تمثل خطوات شقت طريقها في واقع التعامل مع النصوص التاريخية، ولا بد من ممارسة المزيد من الصقل والكشف والتحديد وترتيب الأولويات من خلال توجيه الباحثين لكي تكون هذه الخطوات برنامج عمل تحول منهجية التعامل مع النصوص التاريخية إلى حقيقة علمية واضحة المعالم، إذ المشروع الحضاري النهضوي للإنسان العربي المسلم في القرن الجديد ليس محاولة شعائريـة أو علمية أو ثقافية أو سياسية وإنما هو هذا كله في قالب علمي رصين؛ والمشروع والحالة هذا يتطلب مؤرخين مفكرين، أو مؤرخين مميزين، حيث لا يكفي أن يكون هناك مؤرخون وحسب، وإنما علماء يملكون آليات الاجتهاد والمقارنة والمحاكمة العلمية، إلى جانب الخبرات المعرفية العصرية.

وغني عن البيان، أن الفرق شاسع بين دراسة النصوص التاريخية، التي لا تحتمل إصدار التعميمات والأغلوطات، وأن يقرر البعض توظيف هذه النصوص لصالحه، بل إن المنطقي أن تجير وتوظف كل أمة التاريخ من أجل خدمتها، لكن هذا سيكون أجدى وأرقى في نتائجه إذا قام على أسس علمية تؤسس لوعي حقيقي بحركة التاريخ لفهم الحاضر «فقه الواقع» واستشراف المستقبل، ولا يقل خطورة عن هذه التصورات طغيان [ ص: 40 ] النـزعة التبجيلية للنصوص التاريخية مقابل الكتابات التي تتجنى على تاريخنا بغض النظر عن دوافع هذا وذاك، إذ أن المشروع الحضاري العربي المسلم هو الخاسر في الحالتين.

إن «فك الارتباط» التاريخي بين الإسلام كدين سماوي ومنهج حياة شامل يضم أرقى القيم والتصورات، ووقائع التاريخ التي قام بها المسلمون هي الخطوة «الأولى» وليست «الوحيدة» على طريق تحقيق وحدة المنهج ووحدة التحليل ووحدة النظر للأحداث التاريخية، مع ضرورة الإشارة هنا إلى إمكانية أن يؤدي الحياد الزائف والموضوعية المبتسرة إلى جعل المؤرخ شريكا في إيجاد وعي زائف من جهة، وابتعاد المؤرخ عن الواقع نتيجة هذا الوعي الزائف والمثالي من جهة أخرى، وبدلا من تكوين المؤسسية العلمية التاريخية ينتشر النقد الشكلاني والتخديري للنصوص التاريخية بصورة متزايدة.

وهكذا فإن القيم السماوية والجليلة للإسلام يتم توظيفها للتغطية على أخطاء ارتكبها أفراد أو جماعات من المسلمين، ومن ذلك تضخيم الجوانب السياسية والعسكرية على حساب التاريخ الحضاري للمسلمين اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا مما جعل النصوص التاريخية عرضة للقراءة المؤدلجة ذات الرؤية الأحادية التضليلية، مما يجعل أصحاب هذه التوجهات لا يقبلون أية رؤية مختلفة مع تفسيراتهم لاعتقادهم أنها الصورة النهائية [ ص: 41 ] للتاريخ، حيث أدخلت جل هذا التاريخ في دوامة الانتقائية التي حرمتنا الاستفادة منه.

إن المهمة الكبرى للمؤرخ العربي المعاصر ليست «إحياء» التاريخ ونصوصه وبالتالي استعادته بصورة ما؛ لأن هذا يتنافى مع تفرد الإنسان العربي في صنع تاريخه الحاضر، وهي ليست كذلك انتقاء الصفحات المشرقة هنا وهناك؛ لأن هذا تكلف ليس وراءه طائل، وإنما هذه المهمة العظيمة تتمثل في وضع تاريخنا ونصوصه في مكانها وموضعها الطبيعي، عندها فقط يمكن أن يتحرر العقل العربي من الأوهام والأبواب المغلقة التي ظلت ثابتة منذ قرون طويلة، إذ التعامل مع التاريخ كظاهرة وكينونة إنسانية لها مدخلاتها ومخرجاتها ومؤثراتها الخاصة هي إحدى الخطوات التأسيسية الأولى نحو قراءة موضوعية علمية لهذا التاريخ ونصوصه.

ويبدو التاريخ -كما يرى الدكتور فهمي جدعان - ذا حدين متباينين: أحدهما طارد وثانيهما جاذب، فهو من وجه عبء ثقيـل؛ لأنه يسحبنا من الحاضر ويردنا إلى تاريخ «غير فعلي» أو «غير حالي» وهو من وجه آخر قوة مانحة للعزاء باعثة على الأمل والرجاء، وهذه النتيجة غير مريحة؛ لأنها تحدث انفصاما في ذواتنا وتوزعا في مشروعاتنا، وهي صعوبة لا يمكن تخطيها إلا بأن نتصور التاريخ على شكل آخـر، لا من حيث هو أطراف وحدود مثبتة إلى الأبد، وإنما من حيث هو [ ص: 42 ] دينامية فاعلة متوترة متقدمة على الدوام، ومعنى ذلك أن الوجود الحقيقي للنصوص التاريخية لا يمكن أن يكون حقيقيا إلا إذا كان حاليا ممتشقا صهوة الحاضر وعدته.

ومستصفى القول: إن تراجع الدراسات التاريخية الرصينة يعود إلى عدة أسباب، من أهمها عدم الخضوع الكامل لمنطق العلم ومنهجه وأدواته، إضافة إلى انتشار ذهنية تحريم الأسئلة والإجابات نظرا لتكريس الصورة الكلية والنهائية لتاريخنا العربي وتأطيرها للمستقبل كذلك، فضلا عن التوزيع المجاني لصكوك البراءة على هذه المرحلة أو تلك من تاريخنا بدلا من إخضاعها للنقد والاستفادة من انعكاساتها المتعددة على الفترات اللاحقة، إذ ما يزال «اللاشعور الجمعي» ماثلا في العقل العربي حتى هذه اللحظة، ولهذا كله كانت مقولة ابن خلدون الشهيرة: «الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء» قريبة جدا من الحقيقة. [ ص: 43 ]

المدخل التمهيدي

أولًا: تمهيد

إنّ الإنسان العربي في الألفية الثالثة عندما يقرأ نصًّا من نصوص ثقافته وتراثه وتاريخه وحضارته الممتدة يقرأه متذكّرًا لا مكتشفًا ولا مستفهمًا فضلًا على أن يكون ناقدًا، وإذا كانت القراءة «السلفية، الاستشراقية، اليسارية، الليبرالية» هي قراءات أيديولوجية للتاريخ فإنها بالضرورة قراءة لا تاريخية؛ لأنها لا تضيف سوى نوع واحد من الفهم لهذا التاريخ هو: الفهم المنقوص للتاريخ، إذ التاريخ يحتوي هذه القراءة وهي لا تستطيع أن تحتويه؛ لأنها التاريخ يكرر نفسه.

ولمّا كان الفكر العربي الحديث وإشكالياته التاريخية بـرزت مـع ابن خلدون لا مع حملة نابليون كما ظنّ الكثيرون، فإنّ النصوص التاريخية التي تبحث لها عن مكان بين ظهرانينا باتت على نوعين: نصوص شرعية تعيش مستقبلها في الماضي، ونصوص تاريخية تعيش مستقبلها في الحاضر والآتي، وبعبارة أدق ينبغي الخروج من سلطة «المضنون به على غير أهله» من النصوص التاريخية في سبيل تحقيق قراءة علمية دقيقة لها، بحيث تصبح هذه النصوص خاضعة للعقلانية العلمية، ومن ثم يكون المأمول من [ ص: 39 ] المؤرخين إكمال ما كتبه ابن خلدون في مقدمته وعدم الاكتفاء بما أنجزه قبل قرون طويلة.

لا ريب أن هذه الرؤى وغيرها تمثل خطوات شقّت طريقها في واقع التعامل مع النصوص التاريخية، ولا بد من ممارسة المزيد من الصقل والكشف والتحديد وترتيب الأولويات من خلال توجيه الباحثين لكي تكون هذه الخطوات برنامج عمل تحوّل منهجية التعامل مع النصوص التاريخية إلى حقيقة علمية واضحة المعالم، إذ المشروع الحضاري النهضوي للإنسان العربي المسلم في القرن الجديد ليس محاولة شعائريـة أو علمية أو ثقافية أو سياسية وإنما هو هذا كله في قالب علمي رصين؛ والمشروع والحالة هذا يتطلب مؤرخين مفكرين، أو مؤرخين مميّزين، حيث لا يكفي أن يكون هناك مؤرخون وحسب، وإنما علماء يملكون آليات الاجتهاد والمقارنة والمحاكمة العلمية، إلى جانب الخبرات المعرفية العصرية.

وغنيّ عن البيان، أن الفرق شاسع بين دراسة النصوص التاريخية، التي لا تحتمل إصدار التعميمات والأغلوطات، وأن يقرر البعض توظيف هذه النصوص لصالحه، بل إن المنطقي أن تجيّر وتوظف كل أمّة التاريخ من أجل خدمتها، لكن هذا سيكون أجدى وأرقى في نتائجه إذا قام على أسس علمية تؤسّس لوعي حقيقي بحركة التاريخ لفهم الحاضر «فقه الواقع» واستشراف المستقبل، ولا يقلّ خطورة عن هذه التصورات طغيان [ ص: 40 ] النـزعة التبجيلية للنصوص التاريخية مقابل الكتابات التي تتجنّى على تاريخنا بغضّ النظر عن دوافع هذا وذاك، إذ أن المشروع الحضاري العربي المسلم هو الخاسر في الحالتين.

إن «فكّ الارتباط» التاريخي بين الإسلام كدين سماوي ومنهج حياة شامل يضم أرقى القيم والتصورات، ووقائع التاريخ التي قام بها المسلمون هي الخطوة «الأولى» وليست «الوحيدة» على طريق تحقيق وحدة المنهج ووحدة التحليل ووحدة النظر للأحداث التاريخية، مع ضرورة الإشارة هنا إلى إمكانية أن يؤدي الحياد الزائف والموضوعية المبتسرة إلى جعل المؤرخ شريكًا في إيجاد وعي زائف من جهة، وابتعاد المؤرخ عن الواقع نتيجة هذا الوعي الزائف والمثالي من جهة أخرى، وبدلًا من تكوين المؤسسية العلمية التاريخية ينتشر النقد الشكلاني والتخديري للنصوص التاريخية بصورة متزايدة.

وهكذا فإن القيم السماوية والجليلة للإسلام يتم توظيفها للتغطية على أخطاء ارتكبها أفراد أو جماعات من المسلمين، ومن ذلك تضخيم الجوانب السياسية والعسكرية على حساب التاريخ الحضاري للمسلمين اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا ممّا جعل النصوص التاريخية عرضةً للقراءة المؤدلجة ذات الرؤية الأحادية التضليلية، مما يجعل أصحاب هذه التوجهات لا يقبلون أية رؤية مختلفة مع تفسيراتهم لاعتقادهم أنها الصورة النهائية [ ص: 41 ] للتاريخ، حيث أدخلت جلّ هذا التاريخ في دوامة الانتقائية التي حرمتنا الاستفادة منه.

إنّ المهمة الكبرى للمؤرخ العربي المعاصر ليست «إحياء» التاريخ ونصوصه وبالتالي استعادته بصورة ما؛ لأن هذا يتنافى مع تفرّد الإنسان العربي في صنع تاريخه الحاضر، وهي ليست كذلك انتقاء الصفحات المشرقة هنا وهناك؛ لأن هذا تكلّف ليس وراءه طائل، وإنما هذه المهمة العظيمة تتمثل في وضع تاريخنا ونصوصه في مكانها وموضعها الطبيعي، عندها فقط يمكن أن يتحرّر العقل العربي من الأوهام والأبواب المغلقة التي ظلت ثابتة منذ قرون طويلة، إذ التعامل مع التاريخ كظاهرة وكينونة إنسانية لها مدخلاتها ومخرجاتها ومؤثراتها الخاصة هي إحدى الخطوات التأسيسية الأولى نحو قراءة موضوعية علمية لهذا التاريخ ونصوصه.

ويبدو التاريخ -كما يرى الدكتور فهمي جدعان - ذا حدّين متباينين: أحدهما طارد وثانيهما جاذب، فهو من وجه عبء ثقيـل؛ لأنه يسحبنا من الحاضر ويردنا إلى تاريخ «غير فعليّ» أو «غير حاليّ» وهو من وجه آخر قوة مانحة للعزاء باعثة على الأمل والرجاء، وهذه النتيجة غير مريحة؛ لأنها تحدث انفصامًا في ذواتنا وتوزّعا في مشروعاتنا، وهي صعوبة لا يمكن تخطّيها إلا بأن نتصور التاريخ على شكل آخـر، لا من حيث هو أطراف وحدود مثبّتة إلى الأبد، وإنما من حيث هو [ ص: 42 ] دينامية فاعلة متوتّرة متقدمة على الدوام، ومعنى ذلك أن الوجود الحقيقي للنصوص التاريخية لا يمكن أن يكون حقيقيًا إلا إذا كان حاليًا ممتشقًا صهوة الحاضر وعدّته.

ومستصفى القول: إن تراجع الدراسات التاريخية الرصينة يعود إلى عدة أسباب، من أهمها عدم الخضوع الكامل لمنطق العلم ومنهجه وأدواته، إضافة إلى انتشار ذهنية تحريم الأسئلة والإجابات نظرًا لتكريس الصورة الكلّية والنهائية لتاريخنا العربي وتأطيرها للمستقبل كذلك، فضلًا عن التوزيع المجاني لصكوك البراءة على هذه المرحلة أو تلك من تاريخنا بدلًا من إخضاعها للنقد والاستفادة من انعكاساتها المتعددة على الفترات اللاحقة، إذ ما يزال «اللاشعور الجمعي» ماثلًا في العقل العربي حتى هذه اللحظة، ولهذا كله كانت مقولة ابن خلدون الشهيرة: «الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء» قريبة جدًا من الحقيقة. [ ص: 43 ]