الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المشروع الحضاري لإنقاذ القدس

الأستاذ / محمد عبد الفتاح حليقاوي

ملامح المشروع الحضاري النهضوي لإنقاذ مدينة القدس

ملاحظات على هامش المشروع

إن غاية هذه الأوراق تختلف عن مهمة المؤرخ الذي يقتصر عمله في معظم الأحيان على عرض الأحداث والوقائع وتسلسلها وترابطها بقـدر ما يمكن من الحياد والموضوعية، وبالتالي نسعى في إطار صياغة مشروع حضاري نهضوي لإنقاذ القدس إلى تحقيق المراجعة النقدية، بمعنى أن التاريخ يبدو في دراستنا هذه شيء والمراجعة النقدية شيء آخر، إذ أن المؤرخ حتى وهو يمارس النقد يجعل همه الأول فهم الأحداث التي يؤرخ لها، وربما تجاوز ذلك إلى فهم الحاضر إن كان يؤرخ للماضي القريب، ولكنه -غالبا- لا يفكر بالتخطيط للمستقبل.

أما المراجعة النقدية فهي ممارسة معرفية في الماضي من أجل المستقبل، حيث يبدو المؤرخ وكأنه في ساحة الأحداث مباشرة، أما الذي يقوم بالمراجعة النقدية فمكانه في الخطوط الخلفية حيث يقوم بمراجعة الأحداث أثناء أو بعد انتهاء صيرورتها، وبعبارة أخرى: إن التأريخ لحادثة ما لا يكون [ ص: 79 ] عند انتهائها، فالتاريخ أساسا هو حفظ على صعيد المعرفة لما مضى وانقضى على صعيد الفعل، أما المراجعة النقدية فهي وقفة تأمل يقفها الإنسان عندما يشعر بأن مرحلة ما في مسيرته هي على وشك الانتهاء، وأن مرحلة أخرى على وشك الابتداء، ومن هنا كان اتجاه المراجعة والنقد يتحدد، ليس بالممكنات التي تشكل طموحات الأمس وحسب، بل أيضا بالتي تشكل برنامجا للمستقبل [1] .

من هذا المنطلق، فإن إنقاذ مدينة القـدس في هذه الدراسة سيكون هـو الثمرة التي سيجنيهـا بناة المشـروع النهضـوي الحضـاري، بمعنى أن التصـورات والآليات المرتجـاة هي محور الحديث والدراسة؛ لأنها ستقود إلى تلك الثمرة التي طال انتظارها وفق رؤية وعمل جماعي؛ لأن كلمـة مشـروع تفترض وجود جهـود جمـاعية وليس انتظـار قائد مثل صلاح الدين الأيوبي ، رحمه الله، الذي كان هو نفسه ثمرة مشروع نهضوي حضـاري عربي مسلم، أي أنه كان نتيجة وليس سببا لهذا المشروع.

إن «عقدة الفارس» المخلص الذي سيحرر القدس مسألة في غاية الخطورة لأسباب عدة: [ ص: 80 ]

أولها أنها تتعارض مع السنن القرآنية، التي تقرر أن التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به «القوم» لا «الأفراد» لما بالأنفس من مفاهيم واتجاهات، وأن آثار هذا التغيير تنعكس على ما بالقوم من أحوال سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية في المجالين الداخلي والخارجي بالقدر الذي يحدث به التغيير المذكور.

وثانيها أن هذا الفهم يصرف الأنظار بعيدا عن الأمراض الحقيقية، التي تنخر جسم الأمة من الداخل فتفرز فيه القابلية للتخلف والهزيمة، ويشغلها بالأعراض الخارجية الناجمة عن تلك الأمراض، أي أن هذا الفهم يضع العاملين أمام خطوة من العمل يستحيل إنجازها؛ لأن الأمة الضعيفة من الداخل يستحيل أن تتغلب على الخطر الخارجي، ولكن الخطوة الممكنة في حالة الضعف هي معالجة الضعف نفسه، فإذا شفيت الأمة من أمراضها صارت الخطوة المستحيلة ممكنة.

أما ثالث هذه الأسباب أن هذه الرؤى تنتج صورة قاتلة لدور كل من القادة والأمة في تحمل المسئوليات ومواجهة التحديات، فهو تصور يكرس في نفوس القادة روح الفردية، والانفراد بالتخطيط والتنفيذ، ويزجهم في صراع مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل، في الوقت الذي لا يستطيع هؤلاء القادة الانفراد في الرأي أو العمل فينتهون [ ص: 81 ] إلى الفشل والإحباط، أما الأمة فإن هذا الفهم يستبعد دورها في المسئولية، ويطمس في عقولها مفهوم المسئولية الجماعية، ويشيع التواكل على القيادات وحدها، ومهما دعيت إلى التضحية والمشاركة أجاب لسان حالها: ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) (المائدة: 24)!! وعلى الرغم من كل الكوارث أمامها فإنها تظل متثاقلة إلى الأرض، تنتظر حدوث المعجزة وظهور القائد المخلص، وتختلف في هويته وشخصيته، لعله المهدي المنتظر، ولعله.. ولعله..!؟

ويمكن القول: إن الذين قادوا المشاريع النهضوية اتصفوا بمعايشة قسوة الأحداث، ومرارة التجارب، ومعرفة الأخطاء والانحراف في الفكر والممارسة العملية، وعاشوا كذلك لحظات الانتصار وخلصوا من ذلك كله إلى تغيير ما بأنفسهم أولا ثم إلى بلورة تصورات معينة واستراتيجية خاصة انتهت بهم إلى وجوب تكامل الميادين والتخصصات وإلى تعاون جميع الهيئات والجهات، وبعد ذلك كله بدأ تنفيذ هذه الاستراتيجية طبقا لخطوات مرحلية متناسقة مقدرة حتى وصلوا إلى الخطوة الأخيرة وهي التحرير للأرض والمقدسات [2] . [ ص: 82 ]

ويبدو جليا أن هذه الاستراتيجية تؤكد أن مراحل القوة في التاريخ الإسلامي برزت عندما تكامل الإخلاص في النية والعمل مع الصواب في التفكير والمنهجية العلمية، فإن غاب أحدهما أو كلاهما كانت المشاريع والجهود بلا طائل.

والأمر الآخر، أن التاريخ كله يؤكد أن قيام شبكة من العلاقات الاجتماعية على أساس الولاء الشامل للفكرة فإن يحدث هذا في المجتمع يصبح كل فرد فيه مقدرا مهما اختلفت آراؤه مع الآخرين، ويتوجه الصراع إلى خارج المجتمع، وتتوحد الجهود وتثمر، أما حين تتشكل شبكة العلاقات الاجتماعية طبقا لمحاور الولاء الفردي والعشائري والمذهبي والإقليمي، فإن الإنسان يصبح أرخص شيء في داخل المجتمع وخارجه، ويدور الصراع في داخل المجتمع نفسه ويمزقه إلى طوائف يذيق بعضها بأس بعض [3] .

وإذا كانت قضية القدس ومستقبلها مرتبطة بصورة عضوية في المشروع النهضوي العربي والإسلامي عموما، فهل علينا العودة إلى السؤال النهضوي الأول الذي طرحه رواد النهضة في مطلع القرن العشرين: «لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟» وهل سؤال المرحلة وإشكالية عصر النهضة لا تزال هي هي وإن اختلفت التسميات؟ التقدم [ ص: 83 ] والتأخر، قديم وعصري، تقليدي وحديث، تنمية وتخلف، تلك الثنائيات التي ما زلنا مأسورين في إطارها دون أن تحل طلاسمها، ومع مرور ما يزيد عن قرن من محاولات النهضة والتحرر عاد المثقفون للكتابة عن النهضة والتقدم والعقلانية والعلم والهوية والتنمية والوحدة والتحرير.

إننا لا نحتاج أن نختم المناقشة حول أي من القضايا المطروحة بل نحن بحاجة إلى أن نفتحها على أوسع مجال، ناهيك عن حاجاتنا إلى عدم إعطاء أجوبة سريعة وسطحية ترضي ذاتيتنا؛ نحن بأمس الحاجة إلى فهم أوضاعنا طبقا لواقعها الحقيقي [4] ، فأغلب المفكرين لديهم قناعة بأن حصاد العقود الماضية كان ضعيفا في قطاعات رئيسة من التجربة الحضارية، حيث أعاد هؤلاء التفكير من جديد في الأزمة التاريخية العميقة التي يعيشها العرب والمسلمون، ويشترك هؤلاء كذلك في القول: إن المجتمع العربي يعاني تخلفا كبيرا، وإنه تجسيد لفقدان الوعي التاريخي وللرجعية والظلامية والعصور الوسطى والجمود والخرافة، وإنه مجتمع بات يضم مجموعة من المصابين بالعقد النفسية والكسل الذهني والتواكل والتسلط والعصبية والطائفية [5] . [ ص: 84 ]

ويصل الأمر إلى حد الاعتقاد أن كل شيء لا يمكن إصلاحه: «العقل العربي، الاقتصاد، الأدب، الفن والسياسة كله تخلف، إنها فكرة محورية شيطانية تلوكها كل الأطراف، إنها تتحول بسرعة إلى سبب ترجع إليه كل الأسباب، وإلى مسئولية تاريخية كونية تلغي كل مسئولية جزئية ومحددة لهذا الطرف أو ذاك، إنها تركز النقد على الماضي والتقاليد والعوام من الناس المتدينين والمتعصبين، وبشكل ثانوي على الخارج، على الاستعمار والغرب أو الشرق معا، على الأنظمة المستغلة وعلى الأفكار المستوردة.. باختصار، على الدولة والمجتمع، على المخطئ والبريء، على الشعب والحكومة، على المثقف والأمي، في هذا المنظور ليس من الممكن للنقد أن يتقدم خطوة واحدة» [6] .

إن النظرة التشاؤمية السابقة وغيرها تؤكد ما يعلمه الجميع من وجود للتأخر والتخلف والإخفاقات والهزائم والفشل في أغلب مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، ولكن وظيفة النقد والمراجعة لمشروعنا النهضوي -السابق والقادم- ينبغي عليه أن يكون إيجابيا.

إذ النقد ليس عملية ضبابية بل إنه يعين مسئوليات في سبيل تحقيق المراجعـة والتغيـير والإصـلاح على الأسس الحقيقيـة، في حـين أن [ ص: 85 ] الواقع الحقيقي هو جنوح نحو اللاحسم في تحديد المسئولية حيث: «نلاحظ في تفاسير الهزيمة غياب تحديد الجهة التي تتحمل المسئولية، إذ أن الاتهام موجه إلى جهـة هيولانية لا يمكن تحديدها، وفي الحالات التي يصار إلى تحـديدها يكون هذا التحـديد انفلاشيا لدرجـة تستحيل معها المحاكمة» [7] .

وفي المحصلة نجد أننا أمام نموذجين لمشروعين حضاريين لأسس التقدم والنهضة هما النموذج الغربي الذي تحقق، والنموذج العربي الإسلامي المأمول تحققه، النموذج الوافد إلينا غزوا، والنموذج الموروث التقليـدي أو الأصيل، أما ما اصطلح على تسميته بالأنموذج التوفيقي للتقدم والنهضة فما هو إلا نظريات لا تعـكس إلا حركة ذهنية لدى المثقفين، ولم يكن لها تجسيدات حقيقية في الواقع المتغير.

فالمسار التاريخي الذي سارت عليه الأمور منذ بداية عصر النهضة قبل مائة سنة أو أكثر أوصلنا إلى نقطة راهنة لا فيها تخيير أو توفيق, فنحن اليوم لا نسأل عما نختار من هذا النموذج أو ذاك من الموروث والوافد, فقد كنا في الماضي نقف على أرض الموروث ونتحاور فيما يصلح لها من حضارة الغرب وأدواته لندخله عليها، ثم صرنا أو صار أكثرنا على أرض [ ص: 86 ] الوافد أو أرض خليط ونتحدث عن التراث بضمير الغائب ونتحاور فيما نستحضره فيه, نحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد [8] .

وعليه فقد أجبر النموذج الحضاري النهضوي المسلم على الانـزواء والتقهقر، وفقد دورته التربوية ثم الاقتصادية والعلمية والسياسية، وانطوى على نفسه في المجتمع والدولة, ثم تتالت هزائمه وانغلق على نفسه مدافعا عن وجوده بعد أن تراجع إلى خط دفاعه كثقافة شعبية مغلوبة وكجماعة وأيديولوجيا المغلوبين [9] , أما الموقف التوفيقي فكان موقفا مرحليا انتقائيا وانتقاليا على طريق التغريب والتبعية الشاملة، وبذلك تنتفي أصالته كنموذج مستقل للتقدم، بل ما هو إلا تنازل أو مساومة على أصل.

في هذا الإطار يبرز سؤال جوهري حول مفهوم النهضة وفكرها؟ حيث يرى بعضهم أنها «مجرد وصف لحالة أو إشكالية هي إشكالية مبنية على طرح يمثل المفاهيم والأزواج المفهومية مثل التقدم والتأخر، الأصالة والمعاصرة, العرب والغرب, العلم والدين, العقل والنقل, إن فكر النهضة ليس فكرا متجانسا, لكنه يعالج الإشكاليات المشتركة التي ذكرناها, [ ص: 87 ] أي إشكالية كيف يستطيع العالم العربي أن يحدد نفسه ومكانته في هذه الفترة من الزمان بالمقارنة مع ما حصل في الغرب, وبالتاريخ العام الذي أصبح إلى حد كبير محكوما بتاريخ الغرب وسيطرته, وقد كانت المصطلحات المستعملة في كتابات ما نسميه بعصر النهضة هي التقدم, التمدن, الترقي, والشخوص إلى أعلى, فما هو مأزق فكر النهضة في تلك الفترة؟

إن هذا المأزق هو الاعتقاد بأننا لو أخذنا نفس مبادئ الأوروبيين لتقدمنا, بمعنى أننا بهذا الاعتقاد ألغينا التاريخ وألغينا العلاقة التاريخية بيننا وبين الغرب، وألغينا أيضا كل صيرورة المسلسل التاريخي والاجتماعي الذي أدى في أوروبا إلى ظهور الثورة الصناعية والثورة السياسية» [10] .

من زاوية أخرى يذهب البعض إلى أن «البحث في السؤال النهضوي: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وبالتالي كيف ننهض وكيف اللحاق بركب الحضارة الحديثة؟ معناه البحث في آليات وميكانيزمات العملية النهضوية, فليس هناك قانون عام واحد يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور والأوطان, لكن يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت عن بداية [ ص: 88 ] انطلاق بالدعوة إلى الانتظام في تراث, وبالضبط العودة إلى الأصول, فالسؤال النهضوي لا يتنكر للماضي ككل بل بالعكس إنه إذ ينطلق من نقد الحاضر والماضي القريب ليحتمي بالماضي البعيد الأصيل ليوظفه لصالح النهضة أي لصالح مشروعه المستقبلي» [11] .

ويضيف أن الأصول سواء: «في النهضة العربية الأولى التي قادها الإسلام أو في النهضة الأوروبية الحديثة، ما كان يمكن أن تتخذ شكل الرجوع إلى الماضي من أجل تجاوزه هو والحاضر إلى المستقبل لولا غياب الآخر أي التهديد الخارجي، وهكذا تتغير ميكانيزمات النهضة عند وجود الخطر الخارجي لتصبح ميكانيزمات دفاعية، حيث تلجأ الذات إلى الماضي وتحتمي به لتؤكد من خلاله وبواسطته شخصيتها، لذلك يعمد الإنسان إلى تضخيمه وتمجيده ما دام الخطر الخارجي قائما. إن الظروف الموضوعية التي حركت اليقظة العربية الحديثة قد جعلت من ميكانيزم النهضة فيها ميكانيزما للدفاع عنها أيضا [12] . [ ص: 89 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية