الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المشروع الحضاري لإنقاذ القدس

الأستاذ / محمد عبد الفتاح حليقاوي

قوانين المشروع النهضوي الحضاري

يمكن القول بشيء من المجازفة وكثير من اليقين: إن الإنسان العربي والمسلم المعاصر عندما يذهب إلى التاريخ للاستفادة منه بشكل حقيقي يروعه أنه سيقرأ نفسه ومجتمعه وأحداث عصره في بعض صفحاته، ويكاد يشعر أن ما يدور حوله ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ، وسوف يدهشه أن بعض القيادات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ممن يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ -أي أفضلها- أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ، هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون، فالانتصار في معركة، والحصول على مكسب وقتي، والوصول إلى السلطة، هذه كلها ليست قضية التاريخ، ولا معركة التقدم البشري، بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم.

فأي مشروع نهضوي حضاري بحجم المشروع الذي يمكن أن ينقذ ويحرر مدينة القدس لا تتوافر له الشروط الحقيقية والقوانين التاريخية يصبح مشروعا تضليليا، واستمرارا للمسيرة الخاطئة، والوصول إلى الهزيمة الحقيقية، وقد سار هكذا التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته، إذ أن صنع حضارة، وبناء دولة قوية تبقى، وظهور صناع في مختلف الميادين، فهناك طريق آخر، طريق ليس التضليل من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه. [ ص: 110 ]

وفي التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر وتوجهها الوجهة الذي يقتضيها منطق القانون، والخروج على هذه القوانين أو الانسجام معهـا هو كالخروج على قوانين التنفس والغذاء وقوانين ضغط الغازات أو الانسجام معها، والذين يتقنون «فقه» هذه القوانين هم الذين يستمرون في الحياة ويتفوقون في ميدانها، وهذا يعني أن الأمة التي يتولى زمام أمورها «فقهاء» وعلماء في شتى المجالات تختلف عن الأمة التي يتولى زمام أمورها «خطباء» يحسنون التلاعب بالمشاعر، ولقد رأينا كيف تغلب «فقه» وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم على خطابة أبي جهل وتضليله لقومه، وانتهى كل منهما بجماعته إلى المصير الذي يعرفه التاريخ [1] .

القانون الأول

مع أن الدين هو أحد أهم أسس قيام الحضارات؛ لأنه يقدم « المثل الأعلى » الذي يتمركز حوله النشاط، ويرتقي بالنفوس فوق التلهي بالحاجات اليومية الصغيرة التي تدور حول الغذاء والكساء والمأوى، مع الاعتراف بأهمية ذلك، إلا أن الدين لا يؤدي هذا الدور الحضاري إلا إذا تولى فقه الدين «أولو الألباب» من كل جيل وأمة، كما أشار إلى ذلك القران الكريم. [ ص: 111 ]

القانون الثاني

مع أن الدين الإسلامي هو سبيل المسلمين -وغيرهم- إلى الحياة الراشدة في الدنيا والآخرة إلا أن الإسلام لا يقود هذا النوع من الحياة إلا إذا جرت خطوات عرضه وتطبيقه حسب نظام خاص وترتيب معين، ومن أمثلة ذلك أن يتمثل الذين يقدمون أنفسهم كدعاة للمشاريع النهضوية الحضارية المبادئ والفضائل في سلوكهم وتفكيرهم قبل مطالبة الآخرين بتأييدهم.

القانون الثالث

إن صحة المجتمعات ومرضها أساسها صحة الفكر ومرضه، وهـو ما تضمنه قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11),

حيث إن كل مجتمع يتكون من ثلاثة عناصر رئيسة هي الأفكار والأشخاص والأشياء, وترتبط هذه المكونات الثلاثة طبقا لعلاقة معينة تتبدل تبعا للزمان والمكان.

ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء للأفكار هو المحور، حيث تسود منهجية التفكير العلمي، ويتسم المجتمع بالقدرة على مجابهة التحديات. [ ص: 112 ]

أما عندما يكون الولاء للأشخاص فإن الصفة الغالبة للمجتمع تصبح هيمنة الجاه والنفوذ وأصحاب القوة الذين يسخرون الأفكار والأشياء لصالح امتيازاتهم أو طوائفهم أو عشائرهم أو أحزابهم.

وفي حالة أصبح الولاء للأشياء هو المحور فإن الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارة، وتسود ثقافة الترف والاستهلاك، وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية.

القانون الرابع

إن قوة المشاريع النهضوية والحضارية إنما يحققها تكامل الفكر والسياسة وتلاحم جهود الممثلين لكل منهما، طبقا لقاعدة معينة خلاصتها أن السياسة ينبغي أن تنطلق من إطار فكري واضح, وحين تنعكس هذه القاعدة تبدأ المشاريع بالتراجع، والمجتمعات عموما تميل إلى الضعف.

القانون الخامس

ما لم يتكامل الإخلاص مع الاستراتيجية الصائبة في تعبئة القوى البشرية في الأمة من أجل المشروع النهضوي الحضاري فإن جميع الجهود والطاقات سوف تذهب هدرا، وسوف تتحطم على مذابح الصراعات الداخلية، وتئول إلى الفشل والإفلاس. [ ص: 113 ]

والمحور الأساس في هذا القانون يرتكز على أمرين: الأول نظام تربوي محكم يحسن تصنيف الأجيال الناشئة وإعدادها عقائديا ونفسيا ومهنيا, والثاني نظام تنموي يحسن توظيف الطاقات التي تنضج تبعا لقدراتها العقلية واتجاهاتها النفسية واستعداداتها الجسدية.

والإطار العام لهذا التصنيف يتمثل كذلك في قاعدتين اثنتين هما: الأولى من خلال اعتماد العمل الجماعي, والثانية اعتماد صيغة المؤسسات المتخصصة في ميادين الفكر والعمل المختلفة.

القانون السادس

قيام المشروع الحضاري النهضوي، الذي ستكون إحدى أعظم ثماره إنقاذ مدينة القدس وتحريرها، يجب أن يعتمد على التدرج والتخصص وتوزيع الأدوار, ومن الضروري التفريق بين الاستراتيجية البعيدة الثابتة، والتكتيك المرحلي المتغير؛ لأن النتيجة في حالة الخلط بينهما هي إما السقوط في زوايا اليأس والقنوط, وإما التردي في مهاوي التزمت المتشنج والتطرف.

القانون السابع

إن الأفكار حول الإصلاح والوحدة إذا لم تتحول إلى أعمال وتطبيقات صائبة فسوف تعمل هذه الأفكار على زيادة تصدع المجتمع [ ص: 114 ] وتعميق التشظي فيه بصورة كبيرة, والسبب في ذلك هو طبيعة الأفكار نفسها, فحين يتلقى الفرد فكرة من خارجه تتزاوج هذه الفكرة مع خبراته العلمية المتعلقة بهذه الفكرة، وتفرز فكرة جديدة في داخله, فإذا كانت هذه الخبرة إيجابية دعمت الفكرة الوافدة من خارجها وساندتها, أما إذا كانت الخبرة سلبية كانت الفكرة المتولدة سلبية واصطدمت بالفكرة الوافدة من الخارج وعملت على تدميرها.

وحين تأتي إلى أفراد المجتمع أفكار الوحدة والإصلاح من خارجها تمتلئ نفوسهم بالحماس وينهضون للعمل ويتفاعلون مع ممارسات وتطبيقات مناقضة لهذه الأفكار, فإن الأفكار المتولدة في داخلهم تتسم بالألم وخيبة الأمل وهكذا.

القانون الثامن

مراعاة قوانين الأمن الجغرافي، حيث إن كل وحدة من الوحدات الجغرافية الرئيسة في العالم تنقسم إلى أقسام تمارس قانون التخصص والتكامل, فهناك مناطق الاحتكاك مع الخارج وهي موانئ تصدير الحضارة خلال فترات القوة, ومعابر تسلل الغزاة خلال فترات الضعف, وهناك العمق الجغرافي وهو مركز التفاعل الاجتماعي بجميع أشكاله؛ [ ص: 115 ] والتخطيط السليم يراعي هذا التخصص والتنوع في بناء الاستراتيجيات العامة, والأمم التي لا تربض على بقعة تتوفر فيها هذه الخصائص تتحالف مع غيرها من أجل غايات التكامل والتعاون؛ والفقه الإسلامي قسم دار الإسلام إلى «حواضر» و«ثغور وروابط».

وعندما يتم تطبيق هذا القانون على العالم العربي والإسلامي نجد أن المنطقة ذات الحساسية في مناطق الثغور والرباط كانت دائما هي بلاد الشام, وحين نـزلت الرسالة الإسلامية جعلت البيت الحرام «حاضرة الهداية», والمسجد الأقصى ومدينة القدس «ثغر الرباط»، واشترطت في الجماعة التي تقيم في هذا الثغر مواصفات إيمانية معينة, فإن انحرفت هذه الجماعة عن هذه المواصفات بعث الله عليها عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ودمروا كل شيء لهذه الجماعة. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية