الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
مدينة القدس قبل ظهور الإسلام

تشير المصادر التاريخية إلى أن اليبوسيين هم أول من استوطن منطقة القدس عام 4000 ق.م، بعد أن نـزحوا من الجزيرة العربية مع القبائل الكنعانية التي ينتمون إليها، واتخذوا من بيوت الشعر والكهوف مأوى لهم، فأقاموا على هذه الحال نحو ألف عام، وابتداء من سنة 3000 ق.م بنى اليبوسيون البيوت وسكنوها، كما بنوا حصنا على تل الظهور بالقدس، وقد عرف من ملوكهم «ملكي صادق» أو «أدوني صادق»، وعرف باسم «أرنان»، وفي عهده تكامل بناء المدينة التي سموها «يبوس»، وعندما مر بها نبي الله إبراهيم ، عليه السلام، نحو عام 1900 ق.م وجدها مدينة متكاملة، ذات قاعدة ملكية وهياكل دينية ومركزا مقدسا، كما تمثل العبرانيون الذين جاؤوا من بعده بقرون حضارة الكنعانيين، وعجزوا عن اقتحام حصن يبوس المبني على جبل صهيون مدة ثلاثة قرون [1] .

ونظرا لأهمية القدس من حيث كثرة خيراتها وأهمية موقعها جغرافيا ودينيا فقد تعرضت للغزو والاجتياح والدمار وإعادة البناء ثماني عشرة مرة في التاريخ، وذاق أهلها العذاب خلال الأحقاب التي مرت، لكنهم [ ص: 48 ] -بالرغم من ذلك- كانوا يخرجون من كل محنة أقوى عودا وأشد شكيمة وأكثر تمسكا بمدينتهم ودفاعا عنها وإعمارا لها، وظلت مدينتهم «القدس» في طليعة المدن والبلدان [2] .

وقد ورد اسم القدس في ألواح تل العمارنة العائدة لفراعنة مصر باسم «يابيشي» في عهد أخناتون (1375- 1358 ق.م) كما ورد في تلك الألواح باسم «أورسالم» أي مدينة السلام.

القدس وبنو إسرائيل

دخلت القدس «أورشاليم» تحت حكم داود ، عليه السلام، عام 1049 ق.م، وقد سميت في عهده «مدينة داود»، كما سميت صهيون، وبعد وفاة داود جاء ابنه سليمان ، عليه السلام، الذي بنى الهيكل عام 1007 ق.م، وبعد وفاة سليمان تولى ابنه رحبعام الملك، لكن هذا اقتتل مع أخيه يربعام، فانقسمت المملكة نتيجة لذلك إلى شطرين: (يهوذا) وعاصمتها أورشليم، و(إسرائيل) وعاصمتها شكيم (نابلس)، فعانت أورشليم أربعة قرون كاملة من القلاقل والفتن من الداخل والخارج، فغزاها الآشوريون بقيادة ملكهم شلمنصر (730 ق.م) وسموها أورسالي أمـو، [ ص: 49 ] ثم غزاها البابليون بقيادة نبوخذ نصر (590 ق.م) ودمر هيكل سليمان وأسر اليهود وساقهم إلى بابل [3] .

القدس في زمن الفرس

بقي اليهود أسرى في بابل إلى أن ظهر قورش الفارسي الذي قضى على دولة بابل، ودخل القائد الفارسي غوبرياس القدس «أورسالـم» عام 538 ق.م، وسمح لليهود بالعودة إليها، وبناء الهيكل الثاني عام 515 ق.م بمساعدة الفرس، وقد ظلت القدس تابعة للفرس إلى أن جاء الفاتح اليوناني الإسكندر المقدوني عام 332 ق.م وأخرجهم منها.

القدس في العهد اليوناني

خلال خضوع «يروشاليم» للإسكندر المقدوني تمتعت بشيء من الاستقرار، غير أن قادته الذين اقتسموا الملك من بعد وفاته سببوا لها الاضطراب، فالقائد سلوقس أخذ سورية وأسس فيها الدولة السلوقية، وبطليموس أخذ مصر وأسس فيها دولة البطالسة، وقد راحت «هيروشليما» أو «القدس» تنتقل من يد إلى أخرى، فألحقت أولا بدولة البطالسة، ثم تبعت الدولة السلوقية، ثم ازداد الأمر سوءا باختلاف الأخوين أرسطو بولس المكابي وهركانس الثاني (70 ق.م) وتحول هذا [ ص: 50 ] الاختلاف إلى حرب أهلية بين الأخوين، الأمر الذي دفع روما إلى التدخل ووضع يدها على البلاد [4] .

القدس في العهد الروماني

احتل القائد الروماني (بومبي) القدس عام 63 ق.م، ثم تعاقب على حكمها قادة آخرون من الرومان، أبرزهم «هيرودس» الذي رمم الهيكل في عهده عام 18 ق.م، ويزعم اليهود أن حائط البراق أو حائط المبكى من بقايا الهيكل الذي بناه هذا القائد، وهذا هو الإعمار الثالث للهيكل، وفي آخر سنة من سني حكمه ولد السيد المسيح عيسى بن مريم ، عليه السلام، في بيت لحم ، وكان «هيرودس» قد أمر بقتل كل طفل يولد فيها، ولهذا هربت به أمه إلى مصر ، وفي زمن الحاكم الروماني «بيلاتس بونتيوس» (26-36م) كان السعي إلى صلب السيد المسيح بتحريـض من اليهود [5] .

ولما ازدادت فتن اليهود واضطراباتهم قام القائد الروماني «تيطس» بمحاصرة القدس عام 70م حصارا شديدا وطويلا، حتى اضطر اليهود إلى أكل الكلاب والفئران وذبح بعض أبنائهم وأكل لحومهم، إلى أن سقطت المدينة في يد الرومان ، عندئذ أسر اليهود واسترقوا وهدم معبد اليهود [ ص: 51 ] (الهيكل)، ثم ثار اليهود مرة أخرى بقيادة قائدهم «بارقوخبا» عام 135م في سوليما «القدس»، فقام الرومان بقيادة «أدريانوس» بشن هجوم كاسح عليهم، وذبح بارقوخبا، وقتل من اليهود بحد السيف من قتل، ومن لم يقتله -أي أدريانوس- أمر بطرده، وحرم عليهم العودة فتشتت اليهود في كل الأرض، ولكي ينسى اليهود «سوليما» أمر «أدريانوس» بتدميرها، فدمرت تدميرا كاملا، وأنشأ مكانها مدينة جديدة سماها «إيليا كابيتولينا».

ثم انتقل أمر القدس (إيلياء) إلى البيزنطيين في زمن الإمبراطور «قسطنطين» عام 313م، وفي عهده بنت أمـه «هيلانة» كنيسة القيامة عام 335م [6] .

القدس في زمن الفرس مرة أخرى

في زمن هرقل استولى الفرس على إيلياء عام 614م، وقام كسرى بدك معالمها وقتل تسعين ألفا من سكانها المسيحيين، وهدم كنيسة القيامة، بتحريض من اليهود، لكن هرقل جمع قواه واستطاع استرداد المدينة عام 627م والانتصار على الفرس، غير أن حكمه لم يدم طويلا، إذ إن المسلمين أخرجوا البيزنطيين من بلاد الشام -بما فيها فلسطين- نهائيا بعد فترة وجيزة [7] . [ ص: 52 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية