الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المشروع الحضاري لإنقاذ القدس

الأستاذ / محمد عبد الفتاح حليقاوي

الواقع والممكن في قضية القدس ومستقبلها

لقد كان لوعد بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917م الدور الأكبر في نقل فلسطين ، ومعها القدس، للمرة الأولى في التاريخ إلى إقليم أو قطر خاضع للنـزاع بين شعبين، منكرا أنها إرث تاريخي وحضاري للشعب العربي الفلسطيني.. وفي الوقت الذي كانت فيه فلسطين ستصبح الدولة العربية المستقلة بحكم تواصلها الحضاري ووجودها القانوني الذي لم ينازعها أحد فيه عبر التاريخ، نراها بالفعل الاستعماري قد تحولت إلى إسرائيل بعد أن تم الاتفاق بين الحركة الصهيونية العالمية مع قادة دولة الانتداب الاستعماري ( بريطانيا ) على تفريغها من أصحابها وطردهم منها بكل السبل.

لقد دخلت فلسطين في ساحة الصراع العربي -الصهيوني في 2/11/1917م أولا مع صدور وعد بلفور، وثانيا مع صدور قرار التقسيم في 29/11/1947م، وجاء هذا الأمر بترتيب وإعداد محكم من الصهيونية العالمية والاستعمار الدولي من الداعين إلى بناء الهيكل الثالث، والعودة إلى صهيون أو أرض الميعاد، وهذا بحد ذاته يشكل خرقا للوضع القانوني لأرض فلسطين، أولا باحتلال أكثر من ثلثي مساحة [ ص: 72 ] التراب الفلسطيني بالقوة العسكرية عنوة، وثانيا بالإعلان عن القدس يوم 11/12/1949م عاصمة لإسرائيل .

وبذلك فقد استهدف زج القضية الفلسطينية إلى ساحة صراع دولي نـزع الحق التاريخي المتوارث عبر العصور من أصحابه في القدس ، فظهرت خيوط المؤامرة الدولية على فلسطين من خلال زعزعة استقرارها وعدم تمكين أهلها من قيام كيان عربي مستقل خاص بهم، حيث تم اتخاذ القدس منطلقا لعدم الاستقرار، ومبررا لتكديس ودفع أكبر عدد من المهاجرين اليهود إليها، فشرع اليهود بتنفيذ عملياتهم التخريبية والعدوانية في القدس منذ عام 1921م ليظهروا للعالم أن لهـم في البلـدة القديمـة مقدسات أو وجودا تاريخيا يقومون بالدفاع عنه تحسبا لإمكانية قيام العرب بالاعتداء عليهم، وذلك بعد أن تعززت مواقعهم وانتشرت أحياؤهم في الشطر الغربي (الحي الجديد) من المدينة منذ عام 1850م، فأقاموا المؤسسات والمصانع والجامعات والجمنازيوم والمدارس الدينية، حتى أخذوا يشعرون أنه في مقدورهم ممارسة الضغوط على المواطنين العرب الفلسطينيين بواسطة إجراءات سلطات الانتداب البريطاني التعسفية المتمثلة بمطاردتهم وترحيلهم من القدس الغربية الجديدة بهدف إحلال اليهود مكانهم.

ولتحقيق هذا الهدف عملت المنظمات اليهودية من جانبها بطريقتين متوازيتين، الأولى ببناء طوق استيطاني يهودي يشغل مساحة كبيرة من [ ص: 73 ] الأرض حول الشطر الغربي من القدس على شكل أحياء ومجمعات سكانية يطلق عليها اسم «كريات»، والثانية بمضاعفة أعداد اليهود كي يصبح تمثيلهم النسبي في المدينة أكثر من أهلها وسكانها الأصليين من خلال استيعاب المهاجرين اليهود الذين قدم غالبيتهم من روسيا وبولندا ، وكان الهدف من ذلك تحقيق إنجازات أيديولوجية سياسية يهودية فوق الأرض العربية، لتصبح واقعا يوحي بحضور يهودي قوي في القدس، وكانت هذه الخطوة بداية للاستيلاء الكامل على القدس بشقيها الجديد والقديم كما هو الحال الآن [1] .

لقد كان من الطبيعي لفلسطـين أن تنال استقلالها، شأنها شأن الأقطار والدول التي استقلت عن الدولة العثمانية، أو حتى بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها (1917م-1948م)، ولكن وبفعل المشروع الاستعماري الصهيوني سلبت فلسطين استقلالها وطرد أهلها الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من سكانـها، وفتح الباب على مصراعيه للتدخل بشئون المدينة المقدسة دون مسوغ؛ لأنه لـم تخرج يوما أي دعوى كما لم يصدر أي أمر من قبل أي حاكم أو مسئول عربي يحول دون ممارسة اليهود والمسيحيين حقوقهم الدينية بحرية وبأمان كاملين، وإن [ ص: 74 ] ما يطالب به العرب إزاء مؤامرة تهويد فلسطين والقدس هو إعادة حقهم الموروث عبر التاريخ.

لقد كان هدف الحركة الصهيونية في مشروعها التهويدي لفلسطين والقدس السيطرة المطلقة عليها، حتى لو كان بالتدويل شرط أن لا تبقى فلسطين والقدس بشكل خاص خالصة لأهلها وأصحابها؛ لأن التدويل يفسح المجال لتدخل قوى عالمية متعددة سياسيا ودينيا، وهي لا تسمح بأن تعود القدس إلى أصحابها الشرعيين (العرب)، فتقسيم فلسطين وتدويل القدس وإظهـارها كموضوع منعزل عن القضية الأم (فلسطين) جمعا في قرار واحد حمل الرقم (181) بتاريخ 29/11/1947م، وأما التدويل والتقسيم فكانا يمثلان ذروة التدخل في مصير شعب كان يكافح ويجاهد من أجل الاستقلال، ولعل هذه الخطوة من جانب بريطانيـا كان الهدف منها التنصل من مسئولياتها، والرضوخ للقوى الصهيونية بعدم الاعتراف بحق الفلسطينيين بالإشراف على المقدسات في قلب مدينتهم المقدسة.

وقد قامت إسرائيل منذ بداية احتلالها لفلسطين عامة، والقدس على وجه الخصوص بتغيير شبه كامل للبنية السكانية والعمرانية في المدينة، حيث لم تتوقف منذ الاحتلال وحتى الآن عن العمل على تهويد المدينة في إطار سياسة منهجية لانتزاع الأراضي، ومصادرتها، وتفريغها من المواطنين [ ص: 75 ] الفلسطينيين، وحرمانهم من الإقامة فيها، وذلك تحت ذرائع ومسميات مختلفة، حتى أصبحت القدس محاطة بأحزمة من المستوطنات في محاولة لفرض أمر واقع جديد يصعب تجاهله كما يصعب إعادته إلى ما كان عليه سابقا.

ومن أخطر ما تتعرض له المقدسات الإسلامية والمسيحية من قبل إسرائيل هو خطر الهدم بسبب الحفريات المستمرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي من خلال محاولاتهم الصلاة في الحرم القدسي الشريف، ومحاولات هدمه، والعمل على بناء هيكل سليمان المزعوم، ومحاولة السلطات الإسرائيلية عزل الأماكن المقدسة عن بقية المدينة، وكذلك استيلاء اليهود على حائط البراق والادعاء بأنه «حائط المبكى» حتى يجدوا لهم مكانا يحتجون به على حقوقهم الدينية في المدينة.

ولقد مرت الحفريات الإسرائيلية بتسع مراحل منذ 1967م-1996م مثلت نموذجا للاعتداء على الحضارة الإنسانية، ونموذجا للتشويه والتزوير التاريخي لم تشهد له البشرية مثيلا، ولعل أخطرها التوسع في شق الأنفاق تحت ساحة الحرم الشريف وبجوار أساسات المسجد الأقصى .

ومما تجدر الإشارة إليه أن اليهود قد فشلوا في الإشراف على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية خلال فترة احتلال القدس لثلاثين عاما، كما لم تحترم إسرائيل حرية الوصول إليها لأتباع الديانتين الإسلامية [ ص: 76 ] والمسيحية من جميع أنحاء العالم، وخصوصا الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة ، حتى وصل الأمر بالإسرائيليين الوقوف كعقبة كبيرة أمام السكان الفلسطينيين في صلاة الجمعة، والحد من إمكانية وصولهم إلى المسجد الأقصى (التصاريح، تحديد سن الدخول، وعدم الدخول، وأنـواع أخرى من التمييز) بحجج أمنية وغيرها، وحتى بذريعـة الأعياد الدينية لليهود .

أما الجانب الآخر المهم في موضوع المدينة المقدسة وهو الجانب السياسي، فإن ثمة تصورات عدة للأطراف المختلفة حول تسوية مشكلة القدس، فالطرف الفلسطيني يرى أن القدس الشرقية سوف تكون عاصمة للفلسطينيين, والقدس الغربية عاصمة لإسرائيل مع وجود مجلس بلدي موحد، أما الجانب الإسرائيلي فيرفض الاستقلال الكامل للقدس, وينحصر حل مشكلة القدس, حسب التصور الإسرائيلي, في التقسيم الوظيفي لشئون البلدية, وإعطاء السيادة على الأماكن الإسلامية المقدسة، واحتفاظ إسرائيل بالسيادة السياسية الكاملة على شطري المدينـة، ولـم تسعف معاهـدات واتفاقـات السـلام التي وقعت ولا مفاوضاتها الشاقة منذ عدة عقود في صون الحقوق العربية والإسلامية في المدينة المقدسة, وما زال الموقف اليهودي كما هو بالتمسك بالسيادة الكاملة على المدينة. [ ص: 77 ]

أما الحل الذي تتبناه إسرائيل والذي قد تفرضه موازين القوى التفاوضية القائمة حسب أسس اتفاق أوسلو، فيتوقع أن يتضمـن النقاط الآتية:

1- سيادة إسرائيلية سياسية على كامل القدس، بشقيها الغربي والشرقي.

2- منح الأحياء العربية حكما ذاتيا مع بقائها تحت السيادة الإسرائيلية وإن ارتبطت بالمدينة العربية.

3- بناء مدينة فلسطينية على أجزاء من الأراضي خارج أسوار القدس، وتتمتع هذه الأراضي الفلسطينية بالحكم الذاتي.

4- إيجاد سقف أعلى (بلدية عليا) ذات اسم رمزي يحوي معنى سياسيا يؤدي مهام المسئولية السياسية على القدس .

5- إقامة مجلس تنسيق بين البلديتين.

6- استبدال المستوطنات بمناطق ذات كثافة عربية في القدس مع منح المتبقين فيها حرية الانتقال إلى المدينة الجديدة.

7- إعطاء سيادة إدارية للحرم القدسي الشريف للفلسطينيين بالتنسيق مع الأردن وأطراف عربية أخرى. [ ص: 78 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية