الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المشروع الحضاري لإنقاذ القدس

الأستاذ / محمد عبد الفتاح حليقاوي

التصورات المحتملة لمستقبل مدينة القدس

سعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية منذ عام 1948م إلى ترسيخ أمر واقع أرادت من ورائه إيصال هذه القضية إلى ما هي عليه الآن، وشملت هذه الإجراءات مصادرة الأراضي، وتوطين المستوطنين في المدينة، ومضايقة المواطنين العرب لدفعهم إلى الهجرة من بيوتهم وترك أراضيهم، بالإضافة إلى الإجراءات التي كانت تغطى بقوانين الكنيست الإسرائيلي مثل «القانون الأساسي» الذي ينص على «جعل مدينة القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل» [1] .

وقد بدأت بعض الأوساط الفلسطينية والعربية تقر بشكل مباشر وغير مباشر بهذا الواقع الجديد الذي فرض على المدينة، ويبدو ذلك جليا من الإقرار بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل ، ومن خلال الطروحات التي تطالب بعاصمة فلسطينية في القدس الشرقية فقط، أو حتى في أي مكان يتبع إداريا للقدس الموحدة، بشرط ضمان حرية الوصول إلى أماكن العبادة الإسلامية والمسيحية، بل وصل الأمر أثناء توقيع اتفاقية أوسلو «ب» أنه تم [ ص: 61 ] الحديث عن القدس بوصفها المركز الاقتصادي والروحي والديني للشعب الفلسطيني دون الالتفات إلى إمكانية المطالبة بها كعاصمة للدولة الفلسطينية.

ومن خلال استعراض المواقف والمشاريع التي يطرحها الجانبان والمواقف المحيطة بهما، تظهر بعض الملامح العامة لأي سيناريو متوقع بشأن مستقبل المدينة في ظل المفاوضات السياسية القائمة وقواعدها، والتي ترجح لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ومن أهمها:

1- المقترحات الإسرائيلية والفلسطينية تقود إلى تأكيد السيادة الإسرائيلية على القدس الحالية بغض النظر عن التقسيم الإداري والوظيفي.

2- تقترح معظم السيناريوهات تقسيم المدينة إلى قسمين، وفصل السكان العرب واليهود ما أمكن، وبالتالي إقامة أحياء عربية وأخرى يهودية تدار كل منها محليا على أساس وجود بلدية عليا مراقبة ومنسقة لشئون الأحياء والمدينتين [2] .

3- إن الاقتراحات الإسرائيلية وظفت مسائل وظروفا تحيط بالموقف الدولي والعربي والفلسطيني وواقع القدس، وأهمها: [ ص: 62 ] أ- الخلاف العربي الداخلي، والغياب الإسلامي تجاه مشروع متماسك موحد يلتزم به الجميع.

ب- سياسة الأمر الواقع الناجمة عن الاستيطان اليهودي المستشري في المدينة وحولها.

ج- عدم التوازن الديموغرافي في القدس الشرقية بين اليهود والعرب، حيث أصبح حقيقة يصعب تغييرها.

د- مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل .

هـ- المعاهدة الأردنية -الإسرائيلية- من جهة، واتفاقيات أوسلو من جهة أخرى، والفارق الزمني منذ توقيع اتفاق أوسلو -أ- إلى مناقشة قضايا الحل النهائي [3] .

4- استثمرت الاقتراحات الإسرائيلية المنطق السياسي العربي والفلسطيني بشكل خاص بشأن القدس ، والذي يقر حاليا بقبول القدس الغربية عاصمة لإسرائيل، أي وجود مدينتين.

5- استثمرت إسرائيل مركزية القدس بالنسبة لشعوب العالم، مستغلة في الوقت ذاته قبول العرب بوجود أغلبية يهودية في المدينة من [ ص: 63 ] حقها تقرير مصير المدينة، بفضل النشاط الحكومي الإسرائيلي، وفي ظل غياب فلسطيني وعربي وإسلامي في القدس على حد سواء [4] .

6- استثمرت إسرائيل الثقل اليهودي العالمي، وبدء الحكومات العربية بإقامة علاقات رسمية معها.

7- راعت هذه المقترحات المواقف الإسرائيلية للتيارات السياسية الداخلية المختلفة بشأن القدس (يمين، يسار، وسط، متدينين، علمانيين، ..إلخ).

8- وجود استعداد إسرائيلي للفصل بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، رغم وجود بعض التوجهات المتشددة الداعية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية كاملة بحجة ارتباطها بالتوراة.

9- إن الأبحاث والاقتراحات الإسرائيلية في غالبها جاءت من أطراف علمانية وغيرها، وخصوصا من حزب العمل، مما يشير إلى أن الحقوق الإسرائيلية مهما كانت سوف تتجه نحو تطبيق استراتيجية الفصل مع الشعب الفلسطيني [5] . [ ص: 64 ]

وعند مراجعة المشاريع الإسرائيلية المقترحة، وتصريحات القادة الإسرائيليين في الحكومات من الأحزاب الفاعلة، يلاحظ أن السيناريو الذي تعمل إسرائيل على إنفاذه في المرحلة النهائية يتمحور حول:

أولا: السيادة الإسرائيلية على القدس .

ثانيا: مستقبل المدينة «البلدة القديمة».

ثالثا: المدينة ونفوذها والعمل الوظيفي.

رابعا: عاصمة فلسطينية على أجزاء من أو في محيط القدس.

أولا: السيادة الإسرائيلية

1- إسرائيل ستصر على موقفها من السيادة على كامل المدينة بشقيها الغربي والشرقي، إذ لن تقبل إسرائيل التنازل عنها مهما كانت المغريات، أو الضغوطات الدينية والسياسية، وهو ما أكدته مختلف المقترحات الإسرائيلية بهذا الخصوص [6] .

2- السيادة الإسرائيلية ستكون سيادة سياسية ووظيفية ورمزية كذلك؛ أما السياسية فمن خلال وجود كافة مؤسسات الدولة فيها وانتقال السفارات، كذلك التأكيد بأن يكون رئيس البلدية يهوديا؛ [ ص: 65 ] ووظيفية من خلال النشاطات الحكومية الخدماتية؛ وأما رمزيا فمن خلال تحويلها إلى مركز روحي لليهود (كما هي مكة المكرمة ، والمدينة المنورة بالنسبة للمسلمين، والفاتيكان بالنسبة للمسيحيين) [7] .

ثانيا: مستقبل البلدة القديمة

ستعمل إسرائيل على تدويل بعض أجزاء المدينة المقدسة، وتسليم المسلمين الولاية الدينية، والسماح برفع العلم الفلسطيني على قباب المدينة القديمة, وإعطائها صبغة دبلوماسية (على غرار الفاتيكان) ومما يؤكد هذا التوجه رسالة التطمينات التي بعثها شمعون بيريز إلى ياسر عرفات ، حيث يؤكد من خلالها الولاية الفلسطينية على المقدسات، وذلك في أعقاب توقيع الاتفاقية الأردنية –الإسرائيلية، حيث صرح إسحق رابين بعد توقيع الاتفاقية بوجود أزمة بشأن المقدسات في القدس ؛ لأن العديد من الدول العربية تطمح بالولاية الدينية [8] ، ولكن من الواضح أن إسرائيل ستقبل بتسليم الفلسطينيين الولاية وذلك نتيجة الاختلافات القائمة بين الدول العربية على الوصاية على المقدسات، وهذه الولاية تتجدد كل 25 عاما تحت مظلة السيادة الإسرائيلية الرمزية، التي لن تتدخل بالشئون الدينية والوقفية الفلسطينية القديمة [9] . [ ص: 66 ]

ثالثا: المدينة ونفوذها

1- ستعمل إسرائيل على مشروع يدمج بين مختلف المقترحات الواردة وغيرها، بمعنى أنه سيكون هناك مدينتان، المدينة الحالية، التي هي عاصمة إسرائيل بكل مساحات نفوذها، مع سلخ بعض المناطق ذات التركيز العربي الكثيف مقابل استيعاب المستوطنات المحاذية للقدس، وهذه المدينة تضم كذلك كافة الأراضي التي تم مصادرتها من السكان، مع احتمال دفع تعويضات لمن يملكون إثبات ملكية الأراضي التي صادرتها، في الوقت ذاته تقسم المدينة إلى أحياء (بالذات العربية) تدير شئونها الخاصة بنفسها فيما تبقى السيادة الإسرائيلية على هذه الأحياء [10] .

2- لاستحالة الفصل الجغرافي «حاليا» بين أجزاء القدس العربية والمحتلة من قبل اليهود نظرا لتداخلها عبر سياسة المصادرات والاستيطان فإنه يمكن بناء أحياء عربية جديدة على أرض فلسطينية، فيما تدير الأحياء الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية نفسها إداريا ووظيفيا، وهكذا تنشأ مدينة عربية على أرض عربية مقدسية يمكن أن تكون عاصمة للكيان الفلسطيني [11] . [ ص: 67 ]

رابعا: عاصمة فلسطينية على أجزاء من القدس

1- تشارك المدينة الناشئة في المسئولية الإدارية والوظيفية على الأحياء العربية ولا تملك السيادة السياسية على هذه الأحياء.

2- العاصمة تقام على أرض عربية فلسطينية تشكل مركزا للكيان الفلسطيني تربطه بألوية الخليل ونابلس وغزة جسور يقع بعضها تحت السيادة الإسرائيلية.

3- المدينة تستطيع أن تضم مؤسسات الكيان الفلسطيني (هناك احتمالات أن تكون رام الله وأجزاء من القدس الشرقية ضمن هذه العاصمة).

4- هذه المدينة يربطها بالمدينة (اليهودية) مكتب تنسيق يضم طاقما فلسطينيا ويهوديا، ويمكن مشاركة طرف دولي لفترة زمنية محددة فقط.

5- هذه المدينة تملك السيادة السياسية، والدينية، والرمزية، على القدس القديمة (داخل الأسوار) بالاشتراك مع إسرائيل.

6- تدار كلا المدينتين (العبرية والفلسطينية) من قبل مجلس بلدي أعلى يرتبط بمكتب التنسيق، وهذا المجلس يرأسه يهودي كرمز للسيادة الإسرائيلية، ولن تتعدى وظيفة المجلس المقترح القضايا التي تخص المدينتين في المجالات الوظيفية والدينية، مع ملاحظة أن أماكن العبـادة اليهوديـة في البلدة القديمة تقع تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة، وستبنى المدينة الفلسطينية من أموال الدول المانحة مما سيعطي القدس بعدا دوليا آخر [12] . [ ص: 68 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية