خاتمة استشراف للمستقبل
إن ما يشهده العالم الإسلامي، والوطن العربي خصوصا، من فشل في مساعي الوحدة ومشاريع التنمية، ومن نـزاعات وحروب وكوارث اجتماعية ووطنية في بعض مناطقه ودوله، كل هذا يجعل المشروع الحضاري النهضوي لإنقاذ القدس والإنسان العربي والمسلم في مواجهة الأسئلة ذاتها التي طرحتها الدراسة، والشروط التي اقترحتها، والقوانين التي استخلصتها، ويحمل على إعادة التفكير في دور المثقف والعالم والمؤرخ، حيث ظهر هذا الدور، في معظم الأحيان، سلبيا وعقيما، حيث تعامل هؤلاء مع النهضة المنشودة ومشاريعها بعقل مثالي حالم، أو بمنطق أيديولوجي مغلق.
وآية هذا التطور أن المثقف والعالم والمؤرخ لم يعمل بخصوصيته، وهي اضطلاع كل واحد منهم بدوره الإبداعي في إنتاج الفكر ونقده ومراجعته وصناعة الفكر، إذ رهان هؤلاء هو إيجاد واقع فكري جديد، وإنتاج أفكار جديدة، في حين أنهم في الأغلب تناسوا أدوارهم الحقيقية، [ ص: 117 ] وصار جل اهتمامهم إقحام مقولات على الواقع بطريقة تبسيطية تعسفية ارتدت عليه، فكانوا هم والمجتمع العربي والمسلم الضحية عند محاولات تطبيق هذه الأفكار وما ترتب عليها من برامج، وهكذا اقتصرت الأدوار المؤثرة لهذه النخبة الريادية على الترويج والاستهلاك، والدعوة إلى التبني والتطبيق، دون البحث والإبداع [1] .
ليس ثمة شك أن المشروع الحضاري النهضوي لإنقاذ القدس، الذي تدعو إليه الأوراق السابقة، يذهب بعيدا في اجتراح مقولة مؤداها: إن الطريق إلى مدينة القدس من أجل إنقاذها وتحريرها هو الإجابة عن الأسئلة والشروط والقوانين التي طرحتها الدراسة، بمعنى أن القدس هي النتيجة النهائية أو الثمرة الخالصة في مشروع طويل ينبغي أن يبدأ من نقطة ما في عقل وواقع الإنسان العربي والمسلم.
وقد طرح أحد مفكري العرب رؤيته لهذه المسألة بالقول: «لماذا تطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل دون جدوى؟ هذا السؤال المصيري النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم... مأساوية [ ص: 118 ] السؤال إنما تنبع من احتمالات الأجوبة عليه: فهل وصلت الأمة حقا إلى مرحلة الشيخوخة فهي إلى الإدبار والعقم الحضاري؟ أم أضاعت الطريق؟ وأي طريق؟ أم ثمة من الأمراض المقعدة في تكوينها العام ما يشل المفاصل أن تسير السير الذي يقتضيه إيقاع العصر؟ تلك هي المسألة» [2] .
إن إرادة المستقبل، التي حملت الأجيال العربية السابقة المتعاقبة منذ أزيد من قرن على تقديم التضحيات تلو التضحيات، إرادة ينبغي أن تنبعث من جديد في عقولنا وقلوبنا وفي سلوكياتنا، ذلك لأنه ليس هنالك من بديل عنها غير الاضمحلال والفناء.
ويمكن القول بشيء من المجازفة وكثير من اليقين: إن المشروع الحضاري النهضوي المأمول إمكانية تحقيقه -الآن- باتت ممكنة وذلك لجملة أسباب، من بينها:
التقدم الكبير الذي حصل في ميدان مناهج البحث وأدوات التحليل.
وثانيها النمو الكبير الذي تحقق لدينا على مستويات عديدة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية. [ ص: 119 ]
وثالثها التجارب التي خاضها الإنسان العربي والمسلم واكتسب منها دروسا وقناعات عدة.
ورابعها أن القضايا العربية والإسلامية الداخلية مثل الديمقراطية والتنمية ونوعية التعليم هي قضايا تواجه مصيرا يختلف نوعيا عن الذي عرفته من قبل.
لكن هذا كله: «لا يعني بحال من الأحوال ترك الأمور لفعل الوقت وحده، كلا، إن إرادة المستقبل تبقى مشلولة جوفاء إذا لم تبن على إرادة التغيير وعلى ممارسته بعقلانية وتخطيط وصبر وأمل، والتغيير يبدأ أو يجب أن يبدأ من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع تحليلا يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي، هدف التغيير وإعادة البناء» [3] . [ ص: 120 ]