الخاتمة
يعبر تكامل الحضارات، فيما أرى، عن مشروع مستقبل البشرية، الذي برز كرد فعل للتغيرات والتحولات السياسية والفكرية الكبرى، التي شهدها العقد الأخير من القرن الماضي. ومن بينها التفكير بصوت عال في أشكال الصراع المقبلة، بعد غياب المعسكر الاشتراكي، وكأنه، أي الصراع، بات الصورة الوحيدة لمسار التفاعل الحضاري. لكن ملاحظة الواقع، وليس التصور المجرد، تشير إلى احتمال آخر مختلف مع ما يكتنفه من صعوبات تعرض طريقه وتؤثر فيما يمكن أن يتوصل إليه.
من الطبيعي أن ينتهي البحث في موضوع التكامل إلى النتائج، التي أسفرت عنها مناقشة البنود المختلفة، ليس فقط لمعرفتها وإنما أيضا لتحديد ما إذا كانت تدعو إلى التفاؤل أو أنها بخلاف ذلك مخيبة للآمال. وعلينا أن نقر بأنه أيا كانت النتائج فإنها ينبغي أن تدفع باتجاه التفكير بالارتقاء بعملية التفاعل البشري، إذ ليس لنا في كل الأحوال خيار آخر. وليس من المجدي أن نقف مكتوفي الأيدي بخصوصها.
علينا الاعـتراف بأنه ليس من السهل تحديد النتائج، وذلك لما يرتبط بها من إشكاليات عميقة كتلك التي تتعلق بالتحول في الوظيفة الحضارية للدولة كالتمايز الحضاري، وغياب للثقة بين الحضارات، فضلا عن الفجوة [ ص: 125 ] فيما بينها، ففي كل هذه الأمور يبدو الاختلاف واضحا، إن لم نقل التناقض بين الأطراف المعنية.
لقد حاولنا أن نتناول تلك الإشكاليات، بعد أن مهدنا لذلك بتحديد مفهومي الحضارة والتكامل، وتحديد مبررات البحث في التكامل الحضاري، من منطلق أنه لا يمكن رؤية فرص تحقيقه قبل معرفة ما يكتنفه من عقبـات. وختـمنا البحث بالإشارة إلى ما هو متاح في هذا المجال. ومن الطبيعي أن تكون النقاط التفصيلية لهذا الجانب مجال بحث ونقاش، فقد تلتقي الأفكار حولها فتكون موضع قبول، وقد تفترق فيظهر الرفض.
وعموما، يمكن القول: إن التحليلات السابقة تقود إلى عدة نتائج يمكن أن نميز من بينها بصورة رئيسة ثلاث:
الأولى: أن فكرة التكامل بين الحضارات ضاعت بداية مع تزاحم الأفكار، التي تدور حول أهمية التعارف بين الأمم وثقافاتها المختلفة، لمعرفة حقيقتها وطبيعتها، وضرورة التعـايش فيـما بينها باعتباره الحالة الوحيدة، التي تمسح بالاستقرار والسلام كمدخل للتقدم والتطور.
والثانية: أن العقبات، التي تعترض التكامل المنشود هي من التنوع وقوة التأثير ما يجعل هذه العملية على درجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد، مما يعني أنها لن تتم بسهولة، وستستغرق وقتا ليس بالقصير، وهذا أمر طبيعي، لاسيما وأننا بصدد عملية حضارية عالمية. ولعل من أخطر تلك العقبات [ ص: 126 ] رغبة الحضارة الغربية في هيمنة من جهة، والمبالغة في تضخيم الخصوصية الذاتية للحضارات الأخرى من جهة أخرى.
أما الثالثـة: فهي أن فرص التكامل على النحو الذي بيناه تشير إلى أن في العـلاقات ما بين الحضارات ما يمكن من التغلب على كل العقبات، وما يدعو إلى التفاؤل في المستقبل، من ذلك مثلا سير تلك العلاقات في اتجاه متصاعد نحو التكامل من جهة، وشيوع ثقافة الحوار من جهة ثانية، وتعدد مستوياته من جهة ثالثة.
فالمتتبع لمسار العلاقات بين الحضارات منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي لابد أن يلاحظ وجود منحنى متصاعد في اتجاه التكامل، تقع عليه أربع محطات تاريخية، أولاها تراجع فكرة الصدام ليحل محلها التعارف، ثم يأتي التعايش، وأخيرا التحالف.
فالمحطـة الأولى بدأت بتـراجع فـكرة الصدام حتى من قبل "هنتنجتون Huntington" صـاحب نظرية صراع الحضارات نفسه، عندما أشار إلى أنه ليس هناك تحرك من الحضارات في هذا الاتجاه. الأمر الذي فتح الطرق للسير في اتجاه معاكس، فأخذ يظهر الاهتمام بالتعارف كمجال لفهم الآخـر على حقيقته، بالاعتماد على مصادر موضوعية وبعيدة عن التحيز أو التشويه. وأخذت تظهر في ضوء ذلك الحاجة إلى التعـايش بين الحضـارات مع الاعتراف بالخصوصية الثقافية والحضارية، [ ص: 127 ] لتعقد في السنوات القليلة الماضية خمسة مؤتمرات متقاربة لتحقيق التحالف بين الحضارات.
والمحطة الثانية تبدو في اتجاه الحوار نحو الانتشار على الصعيد الدولي، بحيث أضحت له الأولوية في اهتمامات النخب الفكرية، وبخاصة السياسية منها والدينية، والجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الدولية ذات التخصصات المختلفة، سواء أكانت حكومية أم غير حكومية، مما يشير إلى الاهتمام بسياسة الحوار.
أما المحطة الثالثة فتظهر في انتقال الحوار جغرافيا، من إطاره الإقليمي (الحوار العربي الأوروبي) إلى الإطار القاري (الشمال والجنوب)، ثم الإطار العالمي (حوار الأديان)، وسيره في نفس الاتجاه من حيث موضوعات الحوار، إذ بدأ التركيز بداية على قضايا بعينها كالاهتمام بالبترول وأسعار المواد الأولية في النوع الأول، ثم تناول قضايا كالتنمية الاقتصادية في النوع الثاني، ثم الاهتمام بالدين والثقافة في النوع الثالث.
لقد بات واضحا مع الصحوة الإسلامية وبروز الحضارة الصينية، والإقرار بالتعددية الحضارية، أنه لا يمكن لحضارة واحدة، مهما كانت درجة تفوقها، أن تفرض قيمها على الحضارات الأخرى، وأنه من الضروري لخير البشرية إفساح المجال لجميع الحضارات كي تساهم كل منها في دفع عجلة التطور والتقدم. [ ص: 128 ]
إن المستقبل، في ضوء ما تقدم وفي ظل مكتسبات العولمة، هو لصالح تكامل الحضارات، إذ ليس هناك من بديل عن ذلك سوى الدخول في نفق الصراع والصدام بين الأمم والشعوب، الذي قد لا تكون نهاية البشرية بعيدة عن آخره أو نهايته. ونحن لا نتصور أن يتم التكامل بسرعة طالما أنه عملية تراكمية، ونعتقد أنه يصبح من الضروري العمل على الاهتمام بكل ما يؤدي إلى مزيد من التعارف، وتعظيم القواسم المشتركة بين الأمم والشعوب، فضلا عن تأكيد ديمقراطية الشراكة فيما بينها. [ ص: 129 ]