الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- تراجع الوظيفة الحضارية للدولة:

لم تعد الدولة بصورة عامة قادرة على احتضان الفعل الحضاري بعد أن طرأ على طبيعتها تغير كبير. ويرى "برنارد لويس Bernard Lewis" أن هذا الأمر حدث في القرن الثامن بالنسبة للدولة الإسلامية، عندما انتهى عمليا الاتحاد أو التلاحم بين المجتمع الإسلامي ودولته، فقد تراجعت بالفعل عن وظيفتها الحضارية [1] . [ ص: 66 ]

وأصبح وضع الدولة عاما في التاريخ المعاصر، تدلل على ذلك المصطلحات العديدة، التي أخذت تظهر في أكثر من مكان، من ذلك مثلا مصطلح "الدولة الرخوة"، الذي طرحه عالم الاقتصاد السويدي الشهير "جونار ميردال Gunnar Myrdal". وقد أكد أن أهم سماتها عدم الالتزام بالقوانين. أي أنها تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأنه لا يوجد فيها من يحترم القانون، فالكبار لا يبالون به؛ لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوى لغض الطرف عن القانون واللوائح والروتين. وفي هذه الدولة يباع كل شيء، بدءا من الأعضاء البشرية كقطع غيار آدمية إلى الرخص والتصاريح وأحكام القضاء، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشاره يزيد من رخاوتها [2] .

وفي أيامنا هذه أصبحنا نسمع عن "الدولة المتفرجة". لقد مرت الدولة عبر تاريخها بأدوار الحماية والحراسة والتدخل والرعاية ولم يخطر على بال أحد أن ينتهي ببعضها الأمر إلى التنصل من مسؤولياتها كدولة رعاية، خاصة وأن شعبها يعيش حالة من التخلف، حيث شح المال وقلة الادخار والديون، ومن ثم فإن حظ مشروعاتها التنموية عادة ما يكون قليلا. وفي مثل هذه الدولة لا يمكن أن تتحقق التنمية والنهوض الحضاري. [ ص: 67 ]

إن تراجع الدولة عن كونها قوة رائدة في التنظيم الاجتماعي والتطور الحضاري يعود إلى عوامل عديدة. ويظهر ذلك بوضوح في أكثر من جانب واحد، منها أن تصبح هذه المؤسسة الكبرى تجسيدا لمصالح معينة، أو أن يحدث تحول واضح في وظيفتها الأساسية.

- الدولة كتجسيد لمصالح معينة:

فالكثير من الدول يتبنى في أيامنا هذه سياسات تقوم أحيانا على مصالح ضيقة. ومع أنها تتحدث باسم السـيادة الوطنية والمصالح القومية، إلا أنها في حقيقة الأمر تعبر عن مصالح الفئة الحاكمة، وتؤكد قدرتها على الحركة باعتبارها قوة دافعة حاسمة في العلاقات الدولية دون اعتبار لمقتضيات التطور الحضاري، مما يشير في حقيقة الأمر إلى وجود أزمة من نوع ما بين الدولة والأمة، وهي تتمثل في التناقض القائم بين الطرفين. إن الأزمة الكبرى تبرز عندما تعمل الدولة، بآلياتها العسكرية والحربية وجبروتها وطغيانها السيـاسـي، على تقليص أو ربمـا إلغـاء دور الأمة تحت مبررات داخلية أو خارجية. وهذا لا يعني مجرد عزل الأمة عن وظيفتها الحضارية ومقتضياتها، وإنما إضعافها أيضا [3] .

إن الكثير من الإخفاقات والنكسات، التي أصابت التجربة الحضارية الإسلامية هي من جراء الانفصال، الذي بدأ يشق طريقه بين الدولة والأمة، [ ص: 68 ] في مراحـل مبـكرة من التـاريخ الإسـلامي. ولولا جهـود مؤسـسات الأمة ومراكزها العلمية، لما استمرت الحضارة العربية الإسلامية بالإشعاع لفترات زمنية طويلة؛ وذلك لأن انحراف الدولة المبكر جعلها بعيدة عن جوهر وظيفتها [4] .

وقد ظـل التـاريخ الإسـلامي في الكثير من مراحله عبارة عن مد وجزر بين الأمة والدولة، فالكثير من الأمجاد صنعتها الأمة بمؤسساتها المختلفة. كما أن الكثير من الإخفاقات والانكسارات كانت من جراء طغيان الـدولـة. لقـد ضربت الدولـة العباسيـة في فترات انحطاطها بيد من حـديد كل مشـروع علمـي أو ثقـافي أو اقتصادي كان يجري بعيدا عن سياساتها [5] .

- الدولة في ظل العولمة:

شهد المسرح الدولي في القرن الماضي انتشار عدد من اللاعبين كالشـركات متعـددة الجنسـية والمنظـمات الدولية والمنظمات غير الحـكومية وغـيرها، وكان ذلك بطبيعـة الحال على حسـاب الدولة القومية. ولذلك أخذ يتكرر الحديث والجدل، منذ أواخر هذا القرن، حول [ ص: 69 ] التحـولات الكبرى، التي ارتبطت بظاهرة العولمة، وأكثرها بروزا ما أصاب الدولـة ليس فقط من حيث وظيفتـها وإنمـا أيضا من حيث مـدى ضـرورة استمرارها ووجودها، لاسيما أنها دخلت منذ نهاية الحرب الباردة مرحلة الأزمة [6] .

لقد بات العالم يقف أمام عتبة تاريخية يمكن أن تجعل من تجاوز الدولة أمرا ممكنا بعدما أصاب وظائفها من تغير. هذا القول ينطبق ليس فقط على بعض الدول المتقدمة وإنـما أيضا على غالبية الدول المتخـلفة والناميـة، إنه يشمل كافة الدول بشكل عام [7] . ودور الدولة الصينية والهندية في النهوض والتطور هما من بين الاستثناءات على هذه القاعدة.

ففي أوروبا وأمريكا، حيث بلغ هذا التطور ذروته على المستويات كلها، تحولت الدولة القومية الأوروبية إلى أداة هائلة للإكراه والامتيازات، بعد أن استقلت بنفسها عن المجتمع، الذي أوجدها. لقد ظلت فاعلة لفترة طويلة من الزمن؛ لأنها كانت تتحرك في المسرح الدولي وفق تصوراتها الخاصة، لكنها أخذت تفقد مصداقيتها. والأكثر من ذلك هو أنها تواجه أزمات [ ص: 70 ] شتى وتحديات عدة تفت في عضدها. لقد أخذت أركانها تهتز بشدة جراء انتشار اللاعبين الجدد، الذين يفلتون من سيادتها، إن لم يكن بقوة القانون فبحكم الواقع.

وفي العـالم الثالث تجـد المجتمعات نفسها من ناحية مستغرقة مجددا في دوامـة التمـزق والتفتيـت والحـروب المحلية، وحائرة من ناحية أخرى فيمـا يتعلـق بمستـقبلها بين منهجـين متنـاقضـين: التكيف مع الغرب أو الابتـكار الـذاتـي. والتـوفيـق بين المنهجين لا يخلو من المخاطر؛ لأنهما يرتبطان باستراتيجيتين مختلفتين: فالاستيراد غير المرشد يعني أن يصبح التجديد شعارا للنزاع وتوجيه الاتهامات أكثر من كونه أداة للابتكار. والدعوة الإحيائية هي عموما دعوة تعبوية ومنبرية لا تتضمن صياغات حقيقية بناءة لخطط وبرامج محددة.

ولكن رغم حقيقة التـراجع العـام للدولـة، إلا أنـه ليس واحدا بالنسبـة إلى كافة الـدول، فـلا نستـطيع أن نسـاوي في هـذا المجـال بين دولة من المجمـوعة الحضـارية الغربيـة كإيطاليا، ودولة من المجموعة الحضـارية الإسـلامية كاليمن. ويجـد ذلك انعـكـاساته بطبيعة الحال في تباين المستويات بين الحضارات وما يرتبط به من تداعيات، من بينها التمايز الحضاري. [ ص: 71 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية