الأول   ( التخصيص بدليل ) العقل  
يجوز التخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا ، فالأول :  [ ص: 472 ] كتخصيص قوله تعالى : { الله خالق كل شيء    } فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه . والثاني : كتخصيص قوله تعالى : { ولله على الناس    } الآية فإنا نخصص الطفل والمجنون لعدم فهمهما الخطاب . قال  الشيخ أبو حامد الإسفراييني    : ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك . 
قال  القاضي أبو بكر    : وصورة المسألة أن الصيغة العامة إذا وردت واقتضى العقل امتناع تعميمها ، فيعلم من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل ، وليس المراد به أن العقل صلة للصيغة نازلة له منزلة الاستثناء المتصل بالكلام ، ولكن المراد به ما قدمناه ، أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها . 
وقد منع بعضهم التخصيص بالعقل ، وهو ظاهر نص  الشافعي  في الرسالة " فإنه قال في باب : ما نزل من كتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص ، ثم قال  الشافعي    : قال الله عز وجل : { الله خالق كل شيء    } وذكر قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها    } فهذا عام لا خصوص فيه ، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك ، فالله خالقه ، وكل دابة فعلى الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . انتهى .  [ ص: 473 ] وحكاه  الأستاذ أبو منصور  عن أصحاب  الشافعي  ، لأن التخصيص من العموم لما يصح دخوله فيه ، لولا دليل التخصيص ، فأما الذي يستحيل دخوله في عموم الخطاب فليس خروجه عنه تخصيصا 
وقال في كتاب التحصيل " : إن  الشافعي  نص عليه ، قال في قوله تعالى : { الله خالق كل شيء    } : إنه عام لا خصوص فيه . واعترض ابن داود  عليه بتخصيص كلامه وصرفه عن ظاهره . وأجاب ابن سريج   والصيرفي  عنه بأن التخصيص معناه أن يخرج عن عموم اللفظ بالدليل ما كان يجوز دخول فيه من طريق العقل ; فأما الذي يستحيل دخوله في عموم اللفظ ، فإن خروجه عن الخطاب لا يكون تخصيصا . انتهى . 
وفصل  الشيخ أبو إسحاق  في اللمع " بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه ، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة ، فيمتنع التخصيص به ، لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع ، فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع ، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه ، فيجوز نحو : { الله خالق كل شيء    } فإن المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك . انتهى . وهذا يحسن أن يكون تقييدا لكلام من أطلق ، لا مذهبا آخر . 
ثم قال القاضي  وإمام الحرمين  وابن القشيري  والغزالي  وإلكيا الطبري  وغيرهم : النزاع لفظي ، إذ مقتضى العقل ثابت دون اللفظ إجماعا ; لكن الخلاف في تسميته تخصيصا ، فالخصم لا يسميه ، لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص ، وهو الإرادة لا العقل ، ولأن دليل العقل سابق ، فلا  [ ص: 474 ] يعمل في اللفظ ; بل يكون مرتبا عليه ومعنى قولنا : إنه مخصص أن الدليل دل على أن المراد به الخصوص ، ولذلك العقل هذا الحظ ، والدليل لا يخص ; ولكنه يعلم أنه القصد فلا فرق إذن بين دليل العقل والسمع في ذلك . 
وكذا قال  الأستاذ أبو منصور    : أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم  ، واختلفوا في تسميته تخصيصا ، ومنهم من قال : إنه معنوي ، ثم اختلفوا فقيل : وجهه عند من لا يقول به ، أن اللفظ غير موضوع له ، لأنه لا يوضع لغير المعقول ، فيكون انتفاء الحكم لعدم المقتضي ، وهو حجة ، وحقيقة عنده قطعا . ومن قال : إنه مخصص كان مجازا على الخلاف في العام إذا خص ، فيجري فيه الخلاف على هذا ، ولا يجري على الأول . 
وقيل : بل الخلاف راجع إلى التحسين والتقبيح العقليين ، وهو قول  أبي الخطاب  من الحنابلة . قال : المنع بناء على أن العقل لا يحسن ولا يقبح ، وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل . وأنكره الأصفهاني    . 
وقال النقشواني    : الكلام ليس في مطلق العموم ; بل في العمومات الدالة على الأحكام الشرعية . فإن الفقيه لا ينظر في غير أدلة الشرع ، وكذا الأصولي . وحينئذ فالعقل لا مجال له في تحصيل هذه العمومات إلا بالنظر في دليل آخر شرعي ; فإذا فرضنا نصا يقتضي إباحة القتل ، فالعقل إنما يخصصه لو أدرك المصلحة ، وكيف يدركها ؟ فلا يخصصها . انتهى . وهذا الذي قاله مردود بما سبق عن القاضي  وغيره في تصوير المسألة . 
وقال الأستاذ أبو إسحاق    : اختلفوا هل يدخل في العموم ما يمنع العقل إجراء الحكم فيه  ؟ على قولين : أحدهما : أنه لا يتناوله ، فيخرجه به دليله . والثاني : أنه يتناوله كغيره إلا أن الدليل أوجب إخراجه عنه . 
قال : وفائدة الخلاف هنا : أن اللفظ إذا ورد عنه - عليه الصلاة والسلام  [ ص: 475 ] في إسقاط أو إيجاب أو حظر أو إباحة ، فهل يستدل به على وجوب تلك الأحكام عليه أو لا ؟ هذا كلامه ، وهو أثبت معقول في هذه المسألة تنبيهان 
الأول : من أمثلتهم { والله على كل شيء قدير    } وينبغي أن يعلم أن الشيء مصدر شاء يشاء ، فهو من أسماء الأفعال ، فإطلاقه على الذوات من باب إطلاق المصدر على المفعول كقوله تعالى : { هذا خلق الله    } أي مخلوق الله ، ونحو درهم ضرب الأمير ، أي مضروب الأمير . فقولنا : هذا شيء في الذوات ، أي مشاء ، فحقه أن يكون ما تتعلق به المشيئة ، إما بالفعل كالموجودات أو بالقوة كالمعدوم الممكن . فقوله : { إن الله على كل شيء قدير    } { إن الله بكل شيء عليم    } وما شاكله على عمومه ، لأن إلها ثابتا ونحوه من المحالات ، فلا تتعلق به المشيئة لا بالفعل ، ولا بالقوة ، فلا يسمى شيئا ، فلا يدخل في قوله : { إن الله على كل شيء قدير    } فلا يقال : إنه عام مخصوص ، فإنه لم يدخل فيه المحال لذاته . 
والشيء عند أهل السنة  يخص الموجود لا المعدوم  ، خلافا للمعتزلة  ، فإنهم يقولون في المعدوم الذي يصح وجوده شيء وأما المستحيل فلا خلاف عند المتكلمين  في أنه لا شيء 
وغلط  الزمخشري  على المعتزلة  ، فأدخل المستحيل في اسم الشيء ، وإنما هذا مذهب النحاة ، فإن  سيبويه  وقع له أن الشيء عام متناول . قال : هو كما تقول : معلوم ، ولا خفاء في أن المعلوم يدخل فيه المستحيل ، على أن  أبا هاشم  يقول : العلم بالمستحيل علم لا معلوم له  [ ص: 476 ] ومما يحقق أن الشيء مختص بالموجودات أنه مصدر من شاء يشاء إذا قصد ، فكأن الشيء هو المقصود إليه ، وإنما يقصد الموجود ، لا المعدوم والمستحيل . وأيضا فإطلاق الشيء على الذات الكريمة فيه خلاف ، ولئن سلم فهو من باب المشكل ; لأنه شيء قديم واجب الوجود لذاته ، لا يشاكله شيء من المخلوقات . وقيل : بل يسمى شيئا بمعنى الشائي ، والمخلوقات تسمى شيئا بمعنى المشاء ، فالمعنى مختلف . فيكون مشتركا . 
الثاني : من حكم الدليل العقلي أن لا يخصص إلا بالقضايا العقلية ، ومن حكم الدليل السمعي أن لا يخصص إلا بالقضايا السمعية . والدليل العقلي لا يتصور فيه إخراج أمر خاص من خطاب عام ، وإنما يتصور ذلك في الدليل السمعي ، والدليل العقلي لا يكون إلا متقدما ، بخلاف السمعي . ذكره العبدري  في " شرح المستصفى " . 
				
						
						
