المطلب الثامن قبول الهبة، وردها من المهدى إليه، والاعتذار للمهدي
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قبولها:
تحرير محل النزاع:
قبول الهبة من الواهب مشروع بالاتفاق; إذ هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم قريبا، واختلف العلماء في حكم قبول الهبة على قولين:
القول الأول: استحباب قبول الهبة.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
القول الثاني: وجوب قبول الهبة إذا كان من غير مسألة ولا إشراف.
وهو رواية عن وبه قال أحمد، ابن حزم.
الأدلة:
أدلة الجمهور: (الاستحباب ) :
استدل لهذا القول بما يلي:
[ ص: 63 ] 1. قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وجه الدلالة: أن الله عز وجل أمر بالأكل مما تهبه الزوجة لزوجها من صداقها، والأكل غير متعين، فدل على عدم وجوب قبول الهبة.
2 - ما تقدم من الأدلة على قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهبة، وإثابته عليها.
والفعل يدل على الاستحباب.
(18 ) 3. ما رواه من طريق البخاري عن الزهري، عروة بن الزبير أن وسعيد بن المسيب رضي الله عنه، قال: حكيم بن حزام حكيم كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى" قال إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، حكيم: فقلت: يا رسول الله; والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان رضي الله عنه يدعو أبو بكر حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر إني أشهدكم يا معشر المسلمين على عمر: حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي". سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا
[ ص: 64 ] وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على ألا يقبل من أحد شيئا. حكيم بن حزام
(19 ) 4 - ما رواه من طريق مسلم عن عبد الرحمن الأعرج، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة "من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح".
(20 ) وروى حدثنا الترمذي: قتيبة، حدثنا عن ابن أبي فديك، عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله: ابن عمر "ثلاث لا ترد: الوسائد، والدهن، واللبن".
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رد بعض أنواع الهبات، فدل ذلك على جواز رد ما سواها، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر وجه.
5 - ولأن قبول الهبة يترتب عليه استحباب، أو وجوب الإثابة، ففي إيجاب قبول الهبة مع هذا نظر.
أدلة القول الثاني: (الوجوب ) :
استدل لهذا الرأي بما يلي:
(21 ) 1 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن ابن شهاب، عن أبيه رضي الله عنهما سالم بن عبد الله، رضي الله عنه العطاء، فيقول له عمر بن الخطاب أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف [ ص: 65 ] ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك" عمر: قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سالم: فمن أجل ذلك كان لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا أعطيه. ابن عمر
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رضي الله عنه أن يأخذ ما أتاه من غير إشراف ولا مسألة. عمر
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: أن هذا الأمر أمر ندب، فقد نقل ابن حجر عن أن أهل العلم أجمعوا على أن قول النبي الطبري رضي الله عنه: (خذه ) أمر ندب. لعمر
الثاني: أن هذا الحديث إنما هو في العطايا التي هي من بيت المال.
الثالث: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ المال في هذا الحديث; لكونه عمل له عملا، فيكون قد أعطاه بذلك حقه. عمر
2 - ما تقدم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهبة.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب.
(22 ) 3. ما رواه من طريق مسلم عن بسر بن سعيد، ابن الساعدي المالكي أنه قال: استعملني رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني، فقلت [ ص: 66 ] مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب "إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق".
ونوقش الاستدلال به: ما نوقش به الدليل السابق.
(23 ) 4 - ما رواه حدثنا أحمد: محمد بن سابق، حدثنا عن إسرائيل، عن الأعمش، شقيق، عن رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين".
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: أن النهي هنا للكراهة; لما تقدم من أدلة الجمهور.
(24 ) .. ما رواه حدثنا ابن أبي شيبة: أبو معاوية، عن عن الأعمش، حبيب قال: "رأيت ابن عمر يأتيهما هدايا وابن عباس المختار فيقبلانها".
[ ص: 67 ] (25 ) 6 - ما رواه حدثنا ابن أبي شيبة: يحيى بن سعيد، عن قال: « أرسل معي عبد الملك بن عمير بخمسمئة إلى خمسة أناس إلى بشر بن مروان وإلى أبي جحيفة، أبي رزين، وعمرو بن ميمون، ومرة، وأبي عبد الرحمن، فردها أبو رزين، وأبو جحيفة، وعمرو بن ميمون، وقبلها الآخرون » .
(26 ) 7 - ما رواه حدثنا ابن أبي شيبة: جرير، عن مغيرة، عن سماك بن سلمة، عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند رضي الله عنها "فأتاها رسول من عند عائشة معاوية بهدية فقبلتها".
(27 ) 8 - ما رواه من طريق ابن حزم نا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، أبي رافع، عن رضي الله عنه قال: "ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل". أبي هريرة
(28 ) 9 - ما رواه من طريق ابن حزم نا الحجاج بن المنهال، نا مهدي بن ميمون، واصل مولى أبي عيينة، عن صاحب له أن رضي الله عنه قال: "من آتاه الله عز وجل من هذا المال شيئا من غير مسألة ولا إشراف فليأكله، وليتموله" (ضعيف ) . أبا الدرداء
ونوقشت هذه الآثار: أنها محمولة على الاستحباب; لما تقدم من أدلة الجمهور.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - استحباب قبول الهبة ; لقوة الدليل على ذلك، ولمناقشة الدليل المخالف.
[ ص: 68 ]