الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: وقف المنقول:

        وفيها أمور:

        الأمر الأول: تعريف المنقول:

        قال ابن منظور: « النقل تحويل الشيء من موضع إلى موضع، نقله ينقله نقلا، فالتنقل: التحول، ونقله تنقية ؛ إذا أكثر نقله ».

        وقال في مختار الصحاح: « نقل الشيء تحويله من موضع إلى موضع، وبابه نصر...والتنقل: التحول، ونقله تنقيلا: أكثر من نقله ».

        وقال في المصباح أيضا: « نقلته نقلا من باب قتل، حولته من موضع إلى [ ص: 548 ] موضع، وانتقل: تحول، والاسم النقلة، ونقلته بالتشديد مبالغة وتكثير.

        وقال في المغرب: « التنقل معروف، وقوله في المأذون له: اعمل في النقالين والحناطين؛ أي: الذين ينقلون الخشب من موضع إلى موضع، وفي الذين ينقلون الحنطة من السفينة إلى البيوت، وهذا تفسير الفقهاء ».

        المنقول: « هو الشيء الذي يمكن نقله من محله إلى آخر، ويشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات ».

        الأمر الثاني: وقف المنقول:

        وفيه فرعان:

        الفرع الأول: وقفه استقلالا:

        اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في حكم وقفه على أربعة أقوال:

        القول الأول: يجوز وقفه مطلقا:

        وبه قال الإمام مالك رحمه الله، وهو المعتمد عند المالكية، وبه قال الشافعية، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة. [ ص: 549 ]

        وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث جاء في الاختيارات:

        وأقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز عاريتها ».

        جاء في دليل المحتاج شرح المنهاج: « ويصح وقف منقول كالحصر، والبسط والثياب، والدواب والسلاح، والمصاحف والكتب ».

        وجاء في الإنصاف: « وأما وقف المنقول كالحيوان والأثاث والسلاح، ونحوها، فالصحيح من المذهب: صحة وقفها وعليه الأصحاب، ونص عليه، وعنه: لا يصح وقف غير العقار. نص عليه في رواية الأثرم وحنبل، ومنع الحارثي دلالة هذه الرواية، وجعل المذهب رواية واحدة، ونقل المروذي: لا يجوز وقف السلاح. ذكره أبو بكر، وقال في الإرشاد: لا يصح وقف الثياب ».

        القول الثاني: يجوز وقف الكراع والسلاح للجهاد، وجميع ما تعارف وتعامل به الناس على وقفه كالفأس والقدوم لحفر القبور، والأواني والقدور لغسل الموتى ونحوها، وكذا كل ما يتعارف عليه الناس في كل زمان ومكان، ولا يجوز في غيره.

        وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ، وعليه الفتوى عندهم .

        قال ابن الهمام: « والحاصل أن وقف المنقول تبعا للعقار يجوز، وأما وقفه مقصودا إن كان كراعا أو سلاحا جاز، وفيما سوى ذلك إن كان مما لم [ ص: 550 ] يجر التعامل بوقفه كالثياب والحيوان، ونحوه، والذهب والفضة لا يجوز عندنا، وإن كان متعارفا كالجنازة، والفأس، والقدوم، وثياب الجنازة، ومما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى، والمصاحف. قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز، وإليه ذهب عامة المشايخ ».

        والمراد بالتعامل - أو التعارف كما يسميه البعض - : « اتفاق الجمهور واصطلاحهم على تعاطي أمر من الأمور...ثم إنه قد يكون شائعا في الأعصار بجملتها والأمصار برمتها...وقد يكون مختلفا من مكان دون مكان وإن اتحد الزمان...وبزمان دون زمان وإن اتحد المكان...ولا يخفى أن تعاطيه على الإطلاق لا يختص به بعض الناس دون بعض، بل تولاه كل من له أهلية المعاملات التي يجري هو فيها، من بر وفاجر، ومسلم وكافر ».

        القول الثالث: لا يجوز إلا في الكراع والسلاح للجهاد، دون سائر المنقولات.

        وبهذا قال أبو يوسف من الحنفية.

        القول الرابع: لا يجوز مطلقا.

        وبه قال الإمام أبو حنفية، والإمام مالك في رواية عنه، والإمام [ ص: 551 ] أحمد في رواية عنه أيضا، لكن منعها بعض أصحابه ومنهم الحارثي وجعل المذهب رواية واحدة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة وقف المنقول) :

        1 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ».

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، جعل مما يستمر أجره بعد الموت الصدقة الجارية، وهي الوقف، وهذا عام، فيشمل بعمومه ما ينتفع به مع بقاء عينه من المنقولات؛ لأن منفعته جارية، فيصح وقفه.

        2 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: « أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها ». [ ص: 552 ]

        الشاهد من الحديث قوله : « قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ».

        قال في معالم السنن: « وفي الحديث دليل على جواز حبس آلات الحروب من الدروع والسيوف والمجن، وقد يدخل فيها الخيل والإبل؛ لأنها كلها أعتاد للجهاد، وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها ».

        وقال النووي: « وفيه دليل على صحة الوقف، وصحة وقف المنقول».

        وقال في نيل الأوطار: « وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة... ».

        نوقش هذا الاستدلال: بأنه ليس فيه أن خالدا وقف ذلك، فيحتمل أنه أراد بالاحتباس الإمساك للجهاد، لا التجارة.

        وأجيب: الحبس من ألفاظ الوقف في اللغة كما تقدم، وسيأتي إطلاقه على الوقف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد قليل الذي استدل به الإمام الشافعي على ذلك.

        3 - حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته المشهورة قال: « قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك »، قلت : أمسك سهمي بخيبر ». [ ص: 553 ]

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كعبا على وقف بعض ماله دون تفريق بين نوع ونوع، فدل ذلك على جواز وقف المنقول إذا كان مما ينتفع به مع بقاء عينه، وفهم ذلك البخاري حيث عقد لهذا الحديث بابا أسماه: « باب إذا تصدق أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز ».

        قال ابن حجر: « هذه الترجمة معقودة لجواز وقف المنقول... ».

        4 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ».

        قال في فتح الباري : « قال المهلب وغيره في هذا الحديث: جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات، ومن غير المنقولات من باب أولى ».

        (164) 5 - ما رواه أبو داود من طريق عامر الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت: أحجني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله ». [ ص: 554 ]

        وجه الدلالة: أن هذا الرجل وقف جمله في سبيل الله، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوقف ولم ينكره عليه، والجمل منقول، فيدل على جواز وقف سائر المنقولات مما ينتفع به مع بقاء عينه.

        6 - ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعها، فقال: « لا تبتعها، ولا ترجعن في صدقتك».

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر رضي الله عنه على وقف الفرس، وهو مما ينتفع بها مع بقاء عينه، فدل ذلك على جواز وقف سائر المنقولات التي ينتفع بها مع بقاء عينها، وهذا ما أشار إليه البخاري في ترجمته للحديث، حيث ترجم له بقوله: « باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت ».

        قال في الفتح: « هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات...ووجه أخذ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصة فرس عمر: أنها دالة على صحة وقف المنقولات، فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب، بل ينتفع بها، والانتفاع في كل شيء بحسبه ». [ ص: 555 ]

        (165) 7 - ما رواه الإمام أحمد من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قال: قالت: جاء أبو معقل مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجة، فلما قدم أبو معقل قال: قالت أم معقل: إنك قد علمت أن علي حجة وأن عندك بكرا فأعطني فلأحج عليه، قال: فقال لها: إنك قد علمت أني قد جعلته في سبيل الله، قالت: فأعطني صرام نخلك، قال: قد علمت أنه قوت أهلي، قالت: فإني مكلمة النبي صلى الله عليه وسلم وذاكرته له، قال: فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه، قال: فقالت له: يا رسول الله، إن علي حجة وإن لأبي معقل بكرا، قال أبو معقل: صدقت، جعلته في سبيل الله، قال: « أعطها فلتحج عليه، فإنه في سبيل الله »، قال: فلما أعطاها البكر قالت: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت وسقمت، فهل من عمل يجزي عني عن حجتي؟ قال: فقال: « عمرة في رمضان تجزئ لحجتك ». [ ص: 556 ]

        ووجه الدلالة منه: كالذي قبله.

        ويناقش: بأنه ضعيف الإسناد كما في تخريجه ، فلا يصلح للاستدلال.

        8 - ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: « كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله ».

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق ما فضل عن نفقته في وقف السلاح والكراع، وهي منقولة، فدل ذلك على جواز وقف كل منقول ينتفع به مع بقاء عينه؛ لعدم ما يدل على التفريق. [ ص: 557 ]

        9 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ».

        وجه الدلالة: أن المصحف من المنقولات.

        10 - ما رواه إبراهيم النخعي قال: « كانوا يحبسون الفرس والسلاح في سبيل الله ».

        وجه الدلالة: أن من كان في زمن النخعي من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين كانوا يحبسون الخيل والسلاح، وهي منقولة، فدل ذلك على جواز وقف كل منقول ينتفع به مع بقاء عينه.

        قال البغوي بعد ذلك بعض الأحاديث في الوقف: « والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من المتقدمين، لم يختلفوا في إجازة وقف الأرضين وغيرها من المنقولات ».

        11 - قال في مغني المحتاج: « واتفقت الأمة في الأعصار على وقف الحصر والقناديل والزلالي في المساجد من غير نكير ».

        وهذه الأشياء منقولة.

        (166) 12 - ما روي أن طلحة حبس درعه في سبيل الله تعالى، ويروى: « أكراعه ». [ ص: 558 ]

        13 - أن العبرة فيما يصح وقفه بالمالية والانتفاع، فكل ما يجوز بيعه ويمكن الانتفاع به مع بقاء أصله يجوز وقفه، أشبه العقار والسلاح والكراع.

        14 - أن ما ينتفع به مع بقاء عينه من المنقولات يصح وقفه مع غيره، فيصح وحده، كالعقار.

        15 - أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليه، وهذا موجود فيما عدا الأرض والعقار، وهي المنقولات التي ينتفع بها مع بقاء عينها، فيجوز وقفها.

        16 - أن هذه المنقولات تبقى زمنا طويلا مع الانتفاع بها، فحصل المقصود من الوقف، وهو: انتفاع الواقف بالأجر، وانتفاع الموقوف عليهم بالمنفعة الحاصلة من هذه المنقولات.

        أدلة القول الثاني: (وقف المنقول الذي تعامل به الناس) :

        أولا: استدلوا على الجواز في الكراع والسلاح خاصة بالاستحسان، ووجهه الأحاديث الواردة في ذلك، ومنها:

        1 - ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة منع خالد بن الوليد وصاحبيه رضي الله عنهم - الزكاة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن خالد: « قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ». [ ص: 559 ]

        وقد تقدم أن « أعتده » يدخل فيها الدواب والسلاح، بل قيل : المقصود بها الخيل خاصة.

        2 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزان حسناته ».

        كما يصلح الاستدلال لهم ببقية ما استدل به أصحاب القول الأول مما جاء في وقف الحيوان، كحديث ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه ، وأم عقيل رضي الله عنه، وما جاء في وقف الكراع والسلاح كحديث عمر رضي الله عنه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه إذا ثبت بهذه الأحاديث جواز وقف الحيوان والسلاح فغيرها من المنقولات تقاس عليها؛ لأنها مماثلة لها من حيث إنها ينتفع بها مع بقاء عينها.

        ثانيا: واستدلوا على جواز وقف جميع ما تعارف الناس على وقفه وتعاملوا به بأدلة من السنة والمعقول:

        (167) 1 - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ». [ ص: 560 ]

        ويناقش هذا الدليل من ثلاثة وجوه:

        الأول: أنه لم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ثبت موقوفا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في تخريجه.

        الثاني: على تقدير ثبوت رفعه فلا تعارض بينه وبين ما ذكر أصحاب القول الأول من الجواز الذي ثبت بأدلة صحيحة واضحة الدلالة.

        الثالث: أنه على تقدير ثبوت رفعه فإنه محمول على ما لم يثبت فيه دليل، أما ما ثبت فيه دليل فالمصير إلى الدليل، ولو خالف العرف، وقد ثبت هنا الدليل كما تقدم في أدلة أصحاب القول الأول.

        (168) 2 - ولما رواه أحمد: ثنا أبو بكر، ثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، وفيه قول ابن مسعود رضي الله عنه: « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ». [ ص: 561 ]

        3 - ولأن التعامل أقوى من القياس فيترك به القياس كالاستصناع، فبقي ما وراء ذلك على أصل القياس.

        ثالثا: واستدلوا على عدم الجواز فيما عدا الكراع والسلاح، وسائر ما تعارف الناس على وقفه وتعاملوا به بما يلي:

        أن التأبيد شرط لجواز الوقف، ووقف المنقول لا يتأبد، لكونه شرف الهلاك، فلا يجوز.

        ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:

        الأول: أنه دليل عقلي في مقابل نص، وهو ما سبق في أدلة القول الأول من الأحاديث في وقف الحيوان والسلاح وهي منقولة، فلا يصح الاحتجاج به.

        الثاني: أنه لا يسلم أن التأبيد شرط لصحة الوقف، فيصح وقف ما لا تبقى عينه إلا باستهلاكه، ووقف المنافع وهي تفنى باستهلاكها كما قررناه عند بحث هذه المسائل.

        الثالث: أن التأبيد مفهوم نسبي، وهو في كل مال بحسبه، والمراد إمكان الانتفاع مدة بقائه لا إلى الأبد، وللأموال الموقوفة أيا كان نوعها أعمار يتلاشى ريعها وتتراجع قيمتها حتى لا تساوي شيئا، وإن بقيت أعيانها.

        الرابع: أنه بناء على هذا الدليل يلزمكم تعميمه حتى على ما تعارف عليه [ ص: 562 ] الناس وتعاملوا به وإلا حصل التناقض؛ لأن مضمونه - أي: الدليل - وارد في المتعارف عليه.

        أدلة القول الثالث: (الجواز في السلاح، والكراع) :

        أولا: استدل على الجواز في الكراع والسلاح للجهاد: بما استدل به أصحاب القول الثاني كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة خالد بن الوليد وصاحبيه به، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حبس الفرس في سبيل الله، وغيرهما.

        فقالوا: إن النص قد ورد في الكراع والسلاح، فيقتصر على موضع النص، ويبقى ما سواه على الأصل، وهو عدم الجواز.

        ونوقش: بما تقدم من مناقشة استدلال أصحاب القول الثاني في استدلالهم بهذه الأحاديث من قياس غير الكراع والسلاح عليها للتماثل.

        وأما قولهم: بأن الأصل عدم الجواز فغير مسلم هنا؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في الحث على الإنفاق في أعمال الخير، وعموم الأدلة الواردة في الوقف، فالأصل في الوقف المشروعية.

        ثانيا: استدلوا على عدم الجواز في غير الكراع والسلاح بما يلي:

        1 - ما استدل به أصحاب القول الثاني على عدم الجواز في غير الكراع والسلاح، وسائر ما تعارف الناس على وقفه من اشتراط التأبيد.

        وتقدمت مناقشته .

        2 - أن العقار يتأبد، والجهاد سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى، فلا يكون غيرهما في معناهما، فلا يجوز.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه إذا كانت العلة في المشروعية هي القربة، [ ص: 563 ] فكل ما كان قابلا لذلك مع بقاء عينه يجوز، فينقلب الدليل عليهم، وأما كونها أقوى في العقار والجهاد فليس في كل الأحوال، بل قد يوجد من الأشياء ما تكون منفعته أكبر وأهم من العقار، كبعض الأجهزة في المستشفيات مثلا، ومعلوم أن كل ما كان أهم وأعم في نفع الناس كان آكد وأكثر أجرا، والله أعلم.

        3 - أن غير العقار والأراضي لا تثبت فيه الشفعة، فلم يصح وقفه كالأطعمة والمسمومات.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا منتقض بالكراع والسلاح، فإنه لا يثبت فيهما الشفعة على قول جمهور العلماء، وصح وقفهما.

        الثاني: أن الشفعة إنما اختصت بالأرض والعقار؛ لأنها إنما تثبت لإزالة الضرر الذي يلحق الشريك على الدوام، وإنما يدوم الضرر فيما لا ينفك، وما ينفك لا يدوم الضرر فيه؛ فلهذا لم تثبت فيه الشفعة، وليس كذلك الوقف؛ لأنه جاز الانتفاع الموقوف عليه، وهذا المعنى موجود فيما ينفك ويحول إذا كان على الأوصاف التي ذكرناها ، فجاز وقفه.

        أدلة القول الرابع: (عدم جواز وقف المنقول) :

        1 - حديث عمر رضي الله عنه السابق.

        وهذا وارد في العقار.

        ونوقش: بأن غيره ورد في المنقول كما تقدم في دليل الرأي الأول. [ ص: 564 ]

        2 - أن وقف الدور والأراضي هو وقف الصحابة رضي الله عنهم، فلا يجوز غيره.

        نقل حنبل والأثرم عن الإمام أحمد قوله: « إنما الوقف للدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        ويناقش من ثلاثة وجوه:

        الأول: أنه ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم - وقف غير الدور والأرضين، ومن ذلك السلاح، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابنه في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وصاحبيه.

        الثاني: على تقدير عدم نقل وقف غير الدور والأرضين عنهم فإنه لا يعني عدم حصوله؛ لأن عدم النقل ليس نقلا للعدم، كما أنه يحمل على تفضيلهم ما هو أدوم رغبة في زيادة الأجر واستمراره.

        الثالث: على تقدير عدم الثبوت وعدم الحصول منهم؛ فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة وقف الحيوان والسلاح ونحوهما، كما تقدم في أدلة أصحاب القول الأول، ولا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إقراره .

        3 - ما استدل به أصحاب القول الثاني: على عدم الجواز في غير الكراع والسلاح وسائر ما تعارف الناس على وقفه من اشتراط التأبيد، وتقدمت مناقشته.

        4 - أن الوقف إنما يراد للتأبيد والدوام، والتأبيد لا يمكن إلا في العقار، فلم يجز في غيره مما لا يدوم. [ ص: 565 ]

        ونوقش: بما تقدم في مناقشة دليل القول الثاني.

        5 - أن ما عدا العقار من الدور والأراضي لا تثبت فيه الشفعة، ولا يستحق بها، فلم يصح وقفه.

        نوقش هذا الدليل من وجوه:

        الوجه الأول: عدم التسليم، فالشفعة تثبت في المنقول، كما هو قول ابن عقيل، وابن الجوزي، وظاهر الدليل.

        الوجه الثاني: أنه منتقض بالكراع والسلاح؛ فإن الشفعة لا تثبت فيه ويصح وقفه.

        الوجه الثالث: على التسليم، فإن الشفعة إنما اختصت بالعقار؛ لأنها تثبت لإزالة الضرر الذي يلحق الشريك على الدوام، وإنما يدوم الضرر فيه فلم تثبت فيه الشفعة، وليس كذلك الوقف؛ لأنه إنما جاز لانتفاع الموقوف عليه، وهذا المعنى موجود فيما ينفك ويحول.

        الترجيح:

        الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بجواز وقف المنقول؛ لقوة أدلته، ولضعف أدلة الأقوال الأخرى، ولأن الأصل في الوقف أنه فعل خير فيحث عليه، ويكثر منه.

        الفرع الثاني: وقف المنقول تبعا غير الحيوان:

        مثل آلات الحراثة، والدواب، والسانية وعليها الحبل والدلو مع الضيعة، والنحل والعسل وكوراته، ونحو ذلك.

        الحنفية كما سبق يرون عدم جواز وقف المنقول استقلالا على اختلاف [ ص: 566 ] بين الإمام وصاحبيه في تعميم ذلك، وقد اختلفوا في حكم وقفه - أي: المنقول - تبعا للعقار، وذلك على قولين:

        القول الأول: يجوز وقف المنقول تبعا للعقار.

        وبهذا قال الصاحبان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن.

        القول الثاني : لا يجوز وقف المنقول ولو كان تبعا للعقار.

        وهذا قول أبي حنيفة.

        قال في اللباب بعد ذكر جواز وقف ما ينقل ويحول: « قال في الهداية: وهذا على الإرسال - أي: الإطلاق - قول أبي حنيفة »، ثم ساق قول أبي يوسف، ومحمد.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (جواز وقف المنقول تبعا) :

        1 - أنه يجوز وقف المنقول تبعا؛ لأن من الأحكام ما يثبت تبعا ولا يثبت قصدا، كالشرب، ومسيل الماء، والطريق في البيع، ووقف المنقول من هذا الباب.

        2 - أنه يجوز وقف السلاح والكراع من المنقول استقلالا؛ لأن القياس ألا يجوز وقف المنقول؛ لأن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول لا يتأبد، [ ص: 567 ] فيقتصر على مورد الشرع وهو السلاح والكراع كما في حديث خالد رضي الله عنه، ويبقى ما وراءه على أصل القياس.

        ونوقش قولهم: « لأن من شرط الوقف التأبيد » من وجوه:

        الوجه الأول: عدم التسليم بأن التأبيد في الموقوف شرط لصحة الوقف؛ فيجوز وقف ما لا تبقى عينه إلا باستهلاكه، ويجوز وقف المنافع، وهي تفنى باستهلاكها، كما تقدم تقريره.

        الوجه الثاني: أنه اجتهاد في مقابلة النص، فيكون فاسد الاعتبار.

        الوجه الثالث: أن الحنفية خرجوا عن أصلهم الذي منعوا من أجله وقف المنقول - وهو التأبيد - بإجازتهم كثيرا من المنقولات كلما جرى بذلك عرف دليل على ضعف هذا الأصل.

        الوجه الرابع: أن التأبيد مفهوم نسبي، وهو في كل مال بحسبه، والمراد إمكان الانتفاع مدة بقائه لا إلى الأبد، وللأموال الموقوفة أيا كان نوعها أعمار يتلاشى ريعها وتتراجع قيمتها حتى لا تساوي شيئا، وإن بقيت أعيانها.

        دليل القول الثاني: (عدم الجواز) : اشتراط التأبيد في الموقوف، والمنقول لا يتأبد.

        وقد سبق مناقشة هذا الدليل في مبحث وقف المنقول. [ ص: 568 ]

        وقد تقدم ترجيح جواز وقف المنقول إذا كان مما ينتفع به مع بقاء عينه مستقلا، فمن باب أولى إذا كان تابعا لعقار.

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية