الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفرع الثاني: الهدية للعمال والموظفين والقضاة:

        اعتنى الفقهاء رحمهم الله تعالى بأحكام الهدايا للموظفين عند كلامهم على أدب القاضي، وذكروا أن الهدايا لسائر العمال كالهدية للقاضي، إلا أن جرمه أغلظ منهم.

        قال ابن الهمام: "وكل من عمل للمسلمين عملا حكمه في الهدية كالقاضي"، وأفردها السبكي برسالة عنوانها: "فصل المقال في هدايا العمال" واختصرها نفسه بعنوان: (مختصر فصل المقال في هدايا العمال) .

        تمهيد:

        قال ابن القيم: "قال ابن عقيل": الأموال التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: رشوة وهدية وأجرة ورزق، فالرشوة حرام، وهي ضربان: رشوة ليميل إلى أحدهما بغير حق، فهذه حرام عن فعل، حرام على الآخذ والمعطي، وهما آثمان، ورشوة يعطاها ليحكم بالحق، واستيفاء حق المعطي من دين ونحوه، فهي حرام على الحاكم دون المعطي; لأنها للاستنقاذ، فهي كجعل الآبق، وأجرة الوكلاء في الخصومة، وأما الهدية فضربان: هدية كانت [ ص: 324 ] قبل الولاية فلا تحرم استدامتها، وهدية لم تكن إلا بعد الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهدية إليه ممن لا حكومة له، وهدية ممن قد اتجهت له حكومة فهي حرام على الحاكم والمهدي، وأما الأجرة إن كان للحاكم رزق من الإمام من بيت المال حرم عليه أخذ الأجرة قولا واحدا; لأنه إنما أجرى له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزق له فعلى وجهين: أحدهما الإباحة; لأنه عمل مباح، فهو كما لو حكماه، ولأنه مع عدم الرزق لا يتعين عليه الحكم، فلا يمنع من أخذ الأجرة كالوصي وأمين الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدر الحاجة، وأما الرزق من بيت المال: فإن كان غنيا لا حاجة له إليه احتمل أن يكره لئلا يضيق على أهل المصالح، ويحتمل أن يباح; لأنه بذل نفسه لذلك، فصار كالعامل في الزكاة والخراج.

        قلت: أصل هذه المسائل عامل الزكاة وقيم اليتيم، فإن الله تعالى أباح لعامل الزكاة جزءا منها فهو يأخذه مع الفقر والغنى، والنبي صلى الله عليه وسلم منعه من قبول الهدية، وقال: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا" وفي هذا دليل على أن من أهدى إليه في بيته، ولم يكن بسبب العمل على الزكاة: جاز له قبوله، فيدل ذلك على أن الحاكم إذا أهدى إليه من كان يهدي له قبل الحكم، ولم تكن ولايته سبب الهدية، فله قبولها".

        تعريف الموظف:

        يمكن التعريف بالموظف: "بأنه من يختص عمله بغيره من دولة أو شركة أو مؤسسة أو فرد، في محل تجاري، أو مزرعة، أو مصنع، أو شركة، ونحوها".

        [ ص: 325 ] ويمكن حصر أقسام هدايا الموظفين بالآتي:

        القسم الأول:

        الهدية للموظف إذا ترتب عليها محظور شرعي.

        وذلك ليقدمه هو أو من يشفع له على غيره، أو ليغض الطرف عنه فيما اشترطته جهة عمله، أو ليموه، أو يخفي الحقيقة إن كان محققا، أو ليحكم له بباطل إن كان حاكما كقاض ونحوه، فهذه رشوة محرمة، ويشتد تحريمها إن علم بقصد المهدي.

        تنبيه: ومن هذه الهدايا المحرمة بذلا وقبولا; ما يقدمه أصحاب المحلات التجارية والمستشفيات ونحوها لموظفيها مقابل قيامهم بتغيير صلاحية المنتج، أو أسماء الشركات، أو طلب تحاليل من المرضى، أو ترويج أدوية.

        وفي فتاوى ابن باز: "ما حكم من يسلم أشياء ثمينة بدعوى أنها هدية لمن يرأسه في العمل؟ ج: هذا خطأ ووسيلة لشر كثير، والواجب على الرئيس أن لا يقبل الهدايا، فقد تكون رشوة ووسيلة إلى المداهنة والخيانة، إلا إذا أخذها للمستشفى ولمصلحة المستشفى لا لنفسه، ويخبر صاحبها بذلك فيقول له: هذه لمصلحة المستشفى لا آخذها أنا، والأحوط ردها ولا يقبلها له ولا للمستشفى; ذلك قد يجره إلى أخذها لنفسه، وقد يساء به الظن، وقد يكون للمهدي بسببها جرأة عليه، وتطلع لمعاملته أحسن من معاملة غيره; لأن [ ص: 326 ] الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث بعض الناس لجمع الزكاة قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وخطب في الناس وقال: "ما بال الرجل منكم نستعمله على أمر من أمر الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر هل يهدى إليه".

        وهذا الحديث يدل على أن الواجب على الموظف - في أي عمل من أعمال الدولة - أن يؤدي ما وكل إليه، وليس له أن يأخذ هدايا فيما يتعلق بعمله، وإذا أخذها فليضعها في بيت المال، ولا يجوز له أخذها لنفسه لهذا الحديث الصحيح، ولأنها وسيلة للشر والإخلال بالأمانة، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

        وقال شيخ الإسلام: " محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة; وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك; لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية، فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه، ويترك ما حرم عليه، ولا يحرم عليه ما أباح الله له".

        والأدلة على تحريم الرشوة ما يلي:

        1 - قوله تعالى: أكالون للسحت .

        عن الحسن، وقتادة وغيرهم أنهم فسروا السحت بالرشوة.

        (153 ) 2 - ما رواه أحمد: حدثنا وكيع، ثنا ابن أبي ذئب، عن خاله [ ص: 327 ] الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراشي والمرتشي" (حسن لغيره ) .

        [ ص: 328 ] القسم الثاني:

        أن يكون للشخص حق مرتبط إنجازه بموظف، ولا يستطيع الوصول إليه إلا بدفع مال لهذا الموظف، فالموظف يحرم عليه مماطلة صاحب الحق، وقبوله ما يدفعه إليه; لأنه مرتش.

        أما البذل له من صاحب الحق، فللفقهاء في جوازه قولان:

        الأول: أنه يجوز البذل.

        وإليه ذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        وحجته:

        1 - قول الله عز وجل: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه .

        [ ص: 329 ] وجه الدلالة: أن الباذل في هذه الحال يصدق عليه أنه غير باغ ولا عاد، فيجوز له البذل; لاستنقاذ حقه.

        2 - سائر الأدلة الدالة على إباحة المحرمات عند الاضطرار.

        3 - سائر الأدلة الدالة على دفع الظلم.

        (154 ) 4 - قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع قال: حدثنا أبو العميس، عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود رضي الله عنه "لما أتى أرض الحبشة أخذ في شيء، فأعطى دينارين حتى أخذ سبيله".

        5 - ولأن الباذل يدفع به الظلم عن نفسه، وهو جائز; لاستنقاذه حقه بذلك كما يستنقذ الرجل أسيره.

        القول الثاني: يحرم البذل.

        وبه قال الشوكاني. قال: "والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص، فالحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث، ومن زعم الجواز في صورة من الصور، فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه".

        وحجته:

        1 - أن الأصل في مال المسلم التحريم; لقوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .

        [ ص: 330 ] 2 - الأدلة الدالة على تحريم الرشوة.

        ونوقش الاستدلال بهذه الأدلة: بتخصيص ما إذا اضطر إلى استنقاذ حقه.

        3 - حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا".

        ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأنه ضعيف.

        (155 ) 4 - قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر، عن شعبة، عن عمار، عن سالم، عن مسروق قال: سألت عبد الله عن السحت فقال: "الرجل يطلب الحاجة فيهدى إليه فيقبلها" (إسناده صحيح ) .

        5 - أن الدافع إنما دفعه لأحد أمرين: إما لينال به حكم الله إن كان محقا، وذلك لا يحل; لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله عز وجل على الحاكم الصدع به، فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام، وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح; لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنى بها; لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به، بخلاف المدفوع إلى البغي، فالتوسل [ ص: 331 ] به إلى شيء محرم وهو الزنى لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به، وهو أيضا ذنب بين العبد وربه، وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة، ما بينه وبين الله وبين الأمرين بون بعيد.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه جمهور أهل العلم; لما ذكروه من أدلة، لكن يقيد هذا بأن يستنفد صاحب الحق جميع الطرق المباحة للتوصل إلى حقه قبل بذل الرشوة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية