المسألة الرابعة: الشرط الرابع: أن لا تكون الهبة من الزوجة بما فوق الثلث
(هبة المرأة المتزوجة بما زاد على ثلث مالها)
اتفق الأئمة الأربعة على أن المرأة الحرة البالغة الرشيدة المتزوجة يجوز لها التصرف في مالها بالمعاوضة إذا لم يكن فيها محاباة.
[ ص: 232 ] واتفقوا على أنه يجوز لها التصرف في ثلث مالها، فما دون بالتبرع دون إذن زوجها.
واختلفوا في على قولين: تبرعها بما زاد على ثلث مالها
القول الأول: أن المرأة الحرة البالغة الرشيدة المتزوجة لها حق الهبة بما زاد على ثلث مالها - ولو به كله - ولا يلزمها استئذان زوجها في ذلك، ولا يحجر عليها لحق زوج ولا لغيره.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
القول الثاني: أنه لا يجوز لها هبة ما زاد على ثلث مالها، إلا بإذن زوجها، فيحجر عليها لحق زوجها فيما زاد على ثلث مالها.
وهو مذهب المالكية، والرواية الثانية عند الحنابلة.
قال الدسوقي: "ومحل الحجر عليها في تبرعها بزائد على الثلث إذا كان التبرع لغير زوجها، وأما له فلها أن تهب جميع مالها له، ولا اعتراض عليها في ذلك لأحد".
وقال القرافي: "وإذا تبرعت بما زاد على ثلثها بدون إذن زوجها، خير [ ص: 233 ] الزوج بين إجازة الجميع; لاشتماله على الممنوع، وقيل: يرد ما زاد على الثلث فقط كالمريض; لأنه المحرم إلا العتق يبطل جميعه لأنه لا يتبعض".
القول الثالث: أنه لا يجوز للمرأة أن تتبرع بشيء من مالها إلا بإذن زوجها.
وبه قال طاووس، ومجاهد، والحسن، إلا أن والليث بن سعد، استثنى الشيء التافه. الليث
الأدلة:
أدلة القول الأول: (الجواز ) :
1 - قول الله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم .
وجه الدلالة: أن الله تبارك وتعالى سوى بين المرأة والرجل في استحقاق فك الحجر عنهما، ودفع أموالهما إليهما بالبلوغ والرشد، ولم يذكر تزويجا، فلم يجز أن يضم إلى هذين الشرطين شرط ثالث; لما فيه من إسقاط فائدة الشرط والغاية.
[ ص: 234 ] (97 ) 2 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عطاء قال: أشهد على رضي الله عنه: ابن عباس فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن، وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، بلال، يأخذ بطرف ثوبه". وبلال "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه
وجه الدلالة: أن النساء تصدقن بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن مباشرة، ولم يسألهن، ولم يستفصل منهن هل هو من الثلث أم لا؟.
(98 ) 3 - ما رواه من طريق مسلم عن عمرو بن الحارث، زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زينب امرأة عبد الله، وامرأة من الأنصار: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة". "تصدقن معشر النساء ولو من حليكن، فسألته
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهن بإجزاء صدقتهن على أزواجهن، [ ص: 235 ] والأيتام الذين في حجورهن، وبين لهن أنه أفضل لهن، ولم يذكر لهن اشتراط إذن أزواجهن، ولا كونه بالثلث فأقل.
4 - الأحاديث القاضية بأنه يجوز فإذا جاز لها ذلك في ماله بغير إذنه، فبالأولى الجواز في مالها. للمرأة التصدق من مال زوجها بغير إذنه،
ومن هذه الأحاديث:
(99 ) ما رواه البخاري من حديث ومسلم عن مسروق، رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها، وللخازن مثل ذلك، له بما اكتسب، ولها بما أنفقت...".
ونوقش الدليل الثاني والثالث والرابع: بأن هذه الأدلة محمولة على الشيء اليسير، وجعلوا حد اليسير الثلث فما دونه.
وأجيب: بأن هذا التحديد تحكم ليس فيه توقيف، ولا عليه دليل، فهو ضعيف.
(100 ) 5. ما رواه البخاري من حديث ومسلم كريب مولى ابن عباس: رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: (أو فعلت ) ؟ قالت: نعم. قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك". ميمونة بنت الحارث أن
[ ص: 236 ] وجه الدلالة: أن رضي الله عنها أعتقت قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب ذلك عليها بل أقرها. ميمونة
قال "فلو كان أمر المرأة لا يجوز في مالها بغير إذن زوجها لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاقها، وصرف الجارية إلى الذي هو أفضل من العتاق". الطحاوي:
(101 ) 6 - ما رواه من طريق مسلم هشام، أخبرني أبي، عن رضي الله عنها: أسماء بنت أبي بكر وثمنها في حجري، فقال: "هبيها لي، فقالت: إني قد تصدقت بها". الزبير "جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبي فأعطاها خادمة، فباعتها، قالت: فدخل علي
(102 ) 7 - ما رواه حدثنا ابن أبي شيبة: أبو زائدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن رضي الله عنه قال: أبي هريرة "لا تصدق المرأة إلا من قوتها، فأما من مال زوجها فلا يحل لها إلا بإذنه".
(103 ) 8 - ما رواه من طريق ابن حزم عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، رضي الله عنه: "أنه أقر عطية امرأة كل مالها". أبي موسى الأشعري
[ ص: 237 ] 9 - أن المرأة البالغة الرشيدة من أهل التصرف، ولا حق لزوجها في مالها، فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه، كأختها.
10 - أن من وجب دفع ماله إليه لرشد جاز له التصرف فيه من غير إذن، كالغلام.
11 - قال "رأيناهم لا يختلفون في المرأة في وصاياها من ثلث مالها أنها جائزة من ثلثها، كوصايا الرجال، ولم يكن لزوجها عليها في ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب العزيز، قال الله عز وجل: الطحاوي: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين فإذا كانت وصاياها في ثلث مالها جائزة بعد وفاتها، فأفعالها في مالها في حياتها أجوز من ذلك.
أدلة أصحاب القول الثاني: (الجواز في الثلث فأقل ) :
استدلوا بما يلي:
1 - قول الله تعالى: الرجال قوامون على النساء .
وجه الدلالة: أن مقتضى قوامة الرجل على المرأة أن يتولى أمرها، ويصلحها في حالها، ومن تمام هذه القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها أن لا تتبرع من مالها إلا بإذنه.
(104 ) 2 - ما رواه الإمام ثنا أحمد: عفان، ثنا عن [ ص: 238 ] حماد بن سلمة، داود بن أبي هند عن وحبيب المعلم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عمرو بن شعيب، وقيس عن أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مجاهد "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها".
[ ص: 239 ] [ ص: 240 ] (105 ) 3 - ما رواه من طريق ابن ماجه عبد الله بن يحيى رجل من ولد عن أبيه، عن جده، كعب بن مالك، خيرة امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقالت: إني تصدقت بهذا، فقال لها رسول الله "لا يجوز للمرأة في مالها إلا بإذن زوجها فهل استأذنت كعب بن مالك كعبا؟" قالت: نعم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها فقال: "هل أذنت كعب بن مالك لخيرة أن تتصدق بحليها؟" فقال: نعم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها". أن جدته
قال حديث شاذ. الطحاوي:
وجه الدلالة: الحديثان صريحان في عدم جواز عطية المرأة من مالها بغير إذن زوجها، غير أنهم حملوهما على عطيتها ما زاد على ثلث مالها.
ونوقش الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديثين لا يثبتان.
الوجه الثاني: على فرض صحة حديث عن أبيه عن جده، فإنه إما أن ترجح عليه الأدلة التي ساقها الجمهور لكونها أصح منه. عمرو بن شعيب
[ ص: 241 ] أو يحمل على أحد احتمالات ثلاثة:
الأول: يحمل على أنه لا يجوز عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها، ولا دليل يدل على تحديد المنع بالثلث.
وأجيب: يرده قوله في الحديث "من مالها".
الثاني: أنه محمول على الأدب والاختيار، وحسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك لا وجوب الاستئذان ) .
وأجيب: بعدم وجود الصارف إلى الأدب والاختيار.
الثالث: أنه في السفيهة غير الرشيدة(3 ) .
وأجيب: بأنه يخالف عموم الحديث، ويحتاج إلى دليل يخصصه بالسفيهة.
(106 ) 4 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وجه الدلالة: أن حق الزوج متعلق بمالها; لأن العادة أن الزوج يزيد في مهر المرأة من أجل مالها، ويتبسط فيه، وينتفع به، فلما كان كذلك كان الحجر فيما يخل به.
[ ص: 242 ] 5 - القياس على المريض.
فإنه لما تعلق حق الزوج بمال زوجته، جرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض.
ونوقش: بأن هذا القياس غير صحيح لوجوه:
إحداها: أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إلى الورثة بالميراث، والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث، فهي أحد وصفي العلة، فلا يثبت الحكم بمجردها، كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها، ولا لسائر الورثة بدون المرض.
الثاني: أن موقوف، فإن برئ من مرضه صح تبرعه، وها هنا أبطلوه على كل حال، والفرع لا يزيد على أصله. تبرع المريض
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بالمرأة، فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة، ولها النفقة منه، وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها، وليس لها الحجر عليه، وهذا المعنى ليس موجودا في الأصل، ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعا.
أدلة الرأي الثالث:
1 - قوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما .
2 - فقد جاء عن جمع من المفسرين: أن المراد بالسفهاء: النساء. منهم الحسن، وقتادة، والسدي.
[ ص: 243 ] 2 - ما سبق من حديث رضي الله عنه. عبد الله بن عمرو
وتقدمت مناقشته.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم، وهو جواز هبة المرأة فيما زاد على الثلث بدون إذن الزوج; لقوة أدلتهم، ولأن المالكية خالفوا عموم الحديث الذي استدلوا به، حيث إنهم حملوه على ما زاد على الثلث، دون دليل صالح على ذلك.
فهم لم يعملوا بالحديث فيما دون الثلث، مما يجعل الحديث حجة عليهم، فيقال: لا يعمل به فيما زاد على الثلث، كما لم تعملوا به فيما دون الثلث بلا برهان عندكم يدل على التخصيص.
ومما يضعف قول المالكية قولهم: إن المرأة المتزوجة إن تبرعت بثلثها، يجوز لها التبرع من الثلثين الباقيين، إن بعدت المدة بين التبرعين، ويقولون: كأنه للبعد صار الثلثان مالا برأسه لم يقع فيه تبرع.
ويحددون بعده بعام على قول بعضهم، وبنصف عام على قول آخر.
وعلى هذا لا تزال المرأة تعطي ثلثا كل عام أو نصف عام - من المتبقي - حتى تذهب بالمال كله، وعندها يبطل العمل بالحديث، ويبطل ما قالوه من الاحتياط للزوج.
[ ص: 244 ]