الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        القسم الواحد والعشرون:

        هدية أهل الحرب للسلطان.

        يباح للسلطان قبول هذه الهدية; لأنه يحل له استباحة أموالهم، لكن لمن تكون؟ يختلف باختلاف القصد منها. وهو لا يخلو من ثلاثة فروع:

        الفرع الأول: أن تكون الهدية لمودة سابقة بين السلطان وبين المهدي، وليست لكونه سلطانا، فالهدية تكون للسلطان.

        الفرع الثاني: أن تكون لأجل سلطانه، فالهدية لبيت مال المسلمين; لأن سلطانه بالمسلمين.

        الفرع الثالث: أن تكون الهدية لحاجة، فإن كان السلطان يقدر عليها بغير سلطانه فهو أحق بها، وإلا فلبيت مال المسلمين; لأن سلطانه بهم، فكانوا أحق بها.

        الأمر الثالث: الهدية للشفيع:

        الشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع، وهو جعل الفرد زوجا.

        وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة.

        قضاء حاجة المسلم فيها فضل كبير، وأجر عظيم، والأدلة على هذا كثيرة، ومن ذلك:

        1 - قول الله عز وجل: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .

        (164 ) 2 - ما رواه الإمام مسلم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر [ ص: 351 ] الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

        ومن ذلك الشفاعة الحسنة، في قضاء حوائج المسلمين، قال الله عز وجل: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها .

        فالآية حثت على الشفاعة الحسنة وأن من يفعلها يؤجر عليها.

        فإذا أهدى صاحب الحاجة لمن شفع له في قضاء حاجته، فلها أحوال:

        الحال الأولى: أن تكون من أجل شفاعة في محرم، كإسقاط واجب، أو معونة على ظلم، ونحو ذلك، فتحرم الهدية بالاتفاق لقوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .

        وبذل الهدية وقبولها هنا من باب التعاون على الإثم والعدوان.

        الحال الثانية: أن لا يستطيع طالب الشفاعة الوصول إلى حقه إلا ببذل الهدية، فهذا موضع خلاف بين العلماء:

        فجمهور العلماء على أنه جائز.

        قال شيخ الإسلام: "فأما إذا أهدي له هدية ليكف ظلمه عنه، أو [ ص: 352 ] ليعطيه حقه الواجب، كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه".

        الحال الثالثة: أن يستطيع الوصول إلى حقه ودفع الظلم عنه دون أن يقدم الهدية، ولكن يبذلها مكافئة للشافع، ولها قسمان:

        القسم الأول: أن يكون هناك شرط من الشافع على المشفوع له، فعند جمهور العلماء يحرم بذل الهدية وقبولها.

        وفي الأصح عند الحنفية يحرم الأخذ، ويحل الإعطاء.

        القسم الثاني: أن لا يكون هناك شرط، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال:

        القول الأول: يحرم على الشافع قبول هذه الهدية وبذلها.

        وبه قال بعض الحنفية، والإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، وأخذ به أكثر الحنابلة.

        القول الثاني: لا يجوز أخذ الهدية إذا كانت في أمر واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ مظلوم، وأما إذا كانت في أمر مباح فيجوز.

        وبه قال الصنعاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

        قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومثل ذلك إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو أسر خبرا، أو كان ظالما للناس، فإعطاء هؤلاء: جائز للمعطي حرام عليهم [ ص: 353 ] أخذه، أما الهدية للشفاعة: مثل أن يشفع الرجل عند ولي أمر ليرفع عنه ظلمه، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة. وهو مستحق لذلك، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم، وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه، أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر.

        وقال الصنعاني: "ولعل المراد إذا كانت الشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم، أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم، فأخذ الهدية محرم.... وإن كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز".

        القول الثالث: جواز بذل الهدية وقبولها.

        وهو قول أكثر الحنفية، وبه قال بعض الشافعية وهو المذهب عندهم، وهو رواية عن الإمام أحمد مع الكراهة.

        وقال بعض الشافعية: إن كان يهدي له قبل الشفاعة، فلا يكره له أن يقبلها، وإن كان لا يهدي له فيكره إلا أن يكافئه.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        (165 ) 1 - ما رواه أحمد قال: حدثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا عبيد [ ص: 354 ] الله بن أبي جعفر، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من الربا".

        وتسميته بالربا من باب الاستعارة للتشابه بينهما; لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض، وهذا مثله.

        (166 ) 2 - ما رواه أسلم بن سهل قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد، قال: ثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم الواسطي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبان بن أبي عياش، عن مسلم بن أبي عمران، عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أرأيت الرشوة في الحكم هو السحت، قال: لا، ولكن الكفران السحت أن يكون للرجل ثم السلطان منزلة، ويكون للآخر إليه حاجة فيهدي له ليقضي حاجته".

        [ ص: 355 ] 3 - ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن السحت فقال: "الرجل يطلب الحاجة فيهدي إليه فيقبلها"، فقد جعل ذلك من السحت، والسحت حرام.

        ونوقش: أن ذلك من قبيل الورع، والورع ليس سبيله التحريم، بل يشمل ترك المحرمات والمكروهات والمشتبهات.

        (197 ) 4 - ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن كليب بن وائل قال: سألت ابن عمر، قال: قلت: جاءني دهقان عظيم الخراج فتقبلت عنه بخراجه، فأتاني فكسر صكه، وأدى ما عليه، ثم حملني على برذون، وكساني حلة، قال: "أرأيت لو لم تتقبل منه أكان يعطيك هذا؟ قال: قلت: لا، قال: فلا إذا".

        (168 ) 5. قال ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن قال: أتى دهقان من دهاقين سواد الكوفة عبد الله بن جعفر يستعين به في شيء على علي، فكلم له عليا فقضى له حاجته، قال: فبعث إليه الدهقان بأربعين ألفا وبشيء معها لا أدري ما هو؟ فلما وضعت بين يدي عبد الله بن جعفر قال: ما هذا؟ قيل له: بعث بها الدهقان الذي كلمت له في حاجته أمير المؤمنين، قال: "ردوها عليه، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف".

        [ ص: 356 ] 6 - إنها مكافأة على إحسان غير واجب، فجاز أخذها على الأمور المباحة.

        7 - إن الشفاعة من المصالح العامة التي يقوم بها الناس، وبذل الهدية يجعلها كالأجرة، ولا يجوز أخذ الأجرة على المصالح العامة.

        قال شيخ الإسلام: "لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضا; إما على الأعيان; وإما على الكفاية، ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن يكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل في ذلك، والذي لا يبذل لا يولى ولا يعطى ولا يكف عنه الظلم، وإن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا".

        8 - إن أخذ الهدية على الشفاعة ذريعة إلى الرشوة، و ما كان ذريعة إلى محرم فهو محرم.

        أدلة القول الثاني:

        مجموع أدلة القولين.

        أدلة القول الثالث: (الجواز ) :

        1 - ما ورد من الأدلة على مشروعية الهبة.

        2 - عموم الأدلة التي وردت في المكافأة على المعروف، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليكم معروفا فكافئوه".

        [ ص: 357 ] ونوقش هذا الاستدلال: بتخصيص الهدية للشافع; لورود الأدلة على ذلك.

        3 - أن ذلك غير معارض لأصول الشرع ومقاصده.

        4 - أن هذا من باب الجعالة، والأصل في الجعالة الحل.

        ونوقش هذا الاستدلال: بهذين الدليلين بما ذكره شيخ الإسلام؟ قال: "وقد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء في ذلك...." الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أنه يجوز أخذ الهدية على الشفاعة في الأمور المباحة دون الشفاعة على الأمور الواجبة أو المحرمة; إذ به تجتمع أدلة المسألة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية